هل يمكن النظر إلى تراجع الدكتور محمد البرادعي عن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية كخسارة للثورة المصرية ضد النظام السابق؟ألم يكن يمثل قوة مهمة في هذه الثورة؟ ألا تخسر البلاد بانسحابه شخصية مصرية خبيرة بأروقة العلاقات الدولية ومراكز القرار هي في أمس الحاجة إليها في مرحلة ما بعد الثورة؟ تدافعت هذه الأسئلة وغيرها بعد الإعلان عن امتناع الرجل عن الترشح للرئاسيات المقبلة( 20 يونيو حزيران) بحجة أن نظام الرئيس السابق ما زال قائما عبر المجلس العسكري وان الدستور الجديد يجب أن يقر قبل تسلم الرئيس الجديد لمهامه. لم يرد المجلس العسكري على إعلان المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية كما لم يرد على انتقادات أخرى تناولته من قبل لهذا السبب أو ذاك دون أن يؤدي ذلك إلى تدعيم الاتهام بحجة إضافية ذلك أن المجلس ما انخرط من قبل في سجالات سياسية مصرية داخلية خصوصا في الشأن الانتخابي ومع ذلك فأن عدم الرد بحسب أنصار البرادعي لا يعني أن الرجل هامشي أو معزول في مصر وأن انسحابه أو بقاءه سيان بالنسبة للانتخابات الرئاسية القادمة. و من المرجح أن يثير هذا الإعلان قدرا من الإحباط في صفوف التيار الليبرالي والعلماني في مصر لكنه من جهة ثانية قد يصب الماء في طاحونة السيد أيمن نور مرشح الليبراليين والعلمانيين الذي تحدث عن صدمة ايجابية لهذا الإعلان لأنه ينال من المجلس العسكري واعتبر نور أن البرادعي سيظل رئيسا ل"جمهورية الضمير" في مصر أي للمنصب الذي لايزاحم فيه نور وغيره من المرشحين على كرسي الحكم وكأن كرسي الجمهورية لايليق به الضمير. والراهن أن انسحاب البرادعي من المنافسة في الانتخابات الرئاسية على الرغم من أهميته لن يشكل خسارة كبيرة للثورة المصرية ولن يترك أثرا قاتلا على علاقات مصر الخارجية وذلك للأسباب التالية: أولا: لان الرجل يمثل قوة عابرة وغير متجذرة في الحياة السياسية المصرية تشكلت على عجل وبدا أن البرادعي مزاحما جديا لأيمن نور وليس للتيار الإسلامي أو الناصري والقومي أو الصوفي وبما أن الليبراليين كانوا وما زالوا شريحة ثانوية في الخارطة السياسية المصرية فان انسحاب الرجل لا يعد بانقلاب في هذه الخارطة وهو بالتالي لن يدفع بملايين المصريين إلى الشارع للمطالبة برجوعه عن قراره. ثانيا : اغلب الظن أن الرجل كان يعرف حجمه ولكنه كان يراهن على أن تحمله الحركة العفوية في الشارع إلى كرسي الحكم في لحظة فوضوية تتدخل فيها قوى عسكرية في الداخل وقنصليات أجنبية لمصلحته بوصفه المنقذ من الفوضى الداخلية والضامن خارجيا لعدم تخلي مصر عن التزاماتها وتعهداتها خصوصا حيال إسرائيل.. والملفت في هذا الصدد هو تصريحاته المتكررة ضد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكأنه مهتم بطمأنة الغربيين وأنصار مبارك والسادات في الآن معا إلى انه سيواصل سياسة من سبقوه ضد الإرث الناصري في جمهورية مصر العربية بيد أن الرهان اخفق عندما أصر المجلس العسكري على التباطؤ في جدولة المواعيد الانتخابية وبالتالي على جدول زمني للتغير مختلف عن جدول البرادعي وبعض الأطراف الأخرى التي تتطلع إلى إبعاد العسكريين عن السلطة. ثالثا : لقد بدا واضحا أن الانتخابات البرلمانية قد شكلت اختبارا للقوة لا يخطيْ في حجم وتمثيل التيارات السياسية في مصر والملفت في هذا الصدد أن الاختبار عكس القوة الفعلية للبرادعي ومن معه فكان تمثيله مخيبا للآمال بل صفعة كبيرة له وعليه صار من الصعب أن تتدافع صوبه وسائل الإعلام بإيقاع سريع مع علمها التام انه اقل ا تمثيلا من ايمن نور الضعيف التمثيل أصلا وبالتالي بات البرادعي مهددا بالتهميش أكثر فأكثر فكان أن استدرك الخيبة بالامتناع عن الترشيح. رابعا : ليس التزامن بين إعلان البرادعي ولقائه الأخير مع جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق بريئا فمن المرجح أن يكون قد تبلغ منه ردا من البيت الأبيض حول عدم رغبة الأمريكيين في دعم ترشيحه لان المجلس العسكري لا يريده وفي هذه الحالة فان الترشيح يفقد جدواه لأنه يصطدم برفضين معتبرين الأول خارجي وحاسم في مصر وتمثله الولاياتالمتحدةالأمريكية والثاني داخلي وحاسم أيضا ويمثله المجلس العسكري هذا فضلا عن قياس ثالث حملته الانتخابات البرلمانية كما اشرنا للتو وهو ينطوي على رفض حاسم للمرشح" الليبرالي" لقصر عابدين في القاهرة. ما من شك في أن تعبير مرشحي الرئاسة المصرية عن أسفهم لانسحاب البرادعي من الرئاسيات المقررة في أوائل الصيف المقبل لايتعدى الرغبة في ان يسودها التنويع اي ان يكون الرجل من بين فاشلين متعددي الاتجاهات الامر الذي يعطي المرشح الفائزة مصداقية اضافية بيد ان ذلك هو آخر هم من هموم المدير السابق للوكالة الدولية الذي يريد الرئاسة المصرية جائزة اخيرة لحياة مهنية عامرة في اروقة القرار العالمية وليس اسهاما في ارساء تقاليد سياسية مصرية يفشل فيها مرشح من الوزن الثقيل لكنه يضيف بفشله مصداقية لبلده الذي يسجل سبقا في حلبة الأمم الديمقراطية..نعم لقد خسرت الانتخابات الرئاسية المصرية مرشحا مهما لكنها بالمقابل خسرت أيضا مرشحا قيل انه هبط ب"الباراشوت" من الخارج وهذا النوع من الخسارة محبذ للغاية خصوصا ان البرادعي لم يتردد في الإيحاء انه سيضحي بتقاعده الذهبي كرمى لعيون المصريين الذين ربما فهموا الرسالة كما ينبغي أن تفهم فكان أن خذلوا جماعته في صناديق الاقتراع وقالوا له شكرا يمكنك أن تمضي بقية حياتك في التقاعد الذهبي لكن خارج قصر عابدين.