وصول باخرة وقود لكهرباء عدن مساء الغد الأربعاء    هجمات عدة في خليج عدن وإعلان للقوات الأوروبية    قولوا ل "الصغير الغير عزيز" من لم يحافظ على جنبيته لن يعيد الجنوب إلى صنعاء    طلاب تعز.. والامتحان الصعب    جرعة قاتلة في سعر الغاز المنزلي وعودة الطوابير الطويلة    العثور على جثة ''الحجوري'' مرمية على قارعة الطريق في أبين!!    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    كوريا الجنوبية المحطة الجديدة لسلسلة بطولات أرامكو للفرق المقدمة من صندوق الاستثمارات العامة    صاعقة كهربائية تخطف روح شاب وسط اليمن في غمضة عين    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يعود إلى العاصمة المؤقتة عدن    مليشيا الحوثي توقف مستحقات 80 عاملا بصندوق النظافة بإب بهدف السطو عليها    الهلال يهزم الأهلي ويقترب من التتويج بطلا للدوري السعودي    تهامة.. والطائفيون القتلة!    انهيار جنوني متسارع للريال اليمني .. والعملات الأجنبية تصل إلى مستوى قياسي (أسعار الصرف)    الرئيس الزُبيدي يبحث مع مسئول هندي التعاون العسكري والأمني    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    أول تعليق أمريكي على الهجوم الإسرائيلي في مدينة رفح "فيديو"    وتستمر الفضايح.. 4 قيادات حوثية تجني شهريا 19 مليون دولار من مؤسسة الاتصالات!    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    حقيقة فرض رسوم على القبور في صنعاء    العثور على مؤذن الجامع الكبير مقتولا داخل غرفة مهجورة في حبيل الريدة بالحج (صور)    بأمر من رئيس مجلس القيادة الرئاسي ...الاعدام بحق قاتل في محافظة شبوة    شاهد.. صور لعدد من أبناء قرية الدقاونة بمحافظة الحديدة بينهم أطفال وهم في سجون الحوثي    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    الرئيس الزُبيدي يطالب بخطط لتطوير قطاع الاتصالات    البرلمان العربي يحذر من اجتياح رفح جنوب قطاع غزة    أبطال أوروبا: باريس سان جيرمان يستضيف بوروسيا دورتموند والريال يواجه بايرن في إياب الدور قبل النهائي    الذهب يصعد متأثراً بآمال خفض اسعار الفائدة الأميركية    السياسي الوحيد الذي حزن لموته الجميع ولم يشمت بوفاته شامت    عودة نجم بايرن للتدريبات.. وحسم موقفه من صدام الريال    التشكيل المتوقع لمعركة الهلال وأهلي جدة    مسيره لطلاب جامعات ومدارس تعز نصرة لغزة ودعما لطلاب الجامعات في العالم    ضجة بعد نشر فيديو لفنانة عربية شهيرة مع جنرال بارز في الجيش .. شاهد    «كلاسيكو» الأهلي والهلال.. صراع بين المجد والمركز الآسيوي    ضعوا القمامة أمام منازل المسئولين الكبار .. ولكم العبرة من وزير بريطاني    رشاد العليمي وعصابته المتحكمة في نفط حضرموت تمنع تزويد كهرباء عدن    سلطات الشرعية التي لا ترد على اتهامات الفساد تفقد كل سند أخلاقي وقانوني    تغاريد حرة.. رشفة حرية تخثر الدم    ليلة دامية في رفح والاحتلال يبدأ ترحيل السكان تمهيدا لاجتياحها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    هل يستطيع وزير المالية اصدار كشف بمرتبات رئيس الوزراء وكبار المسئولين    رباعية هالاند تحسم لقب هداف الدوري.. وتسكت المنتقدين    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    استهداف السامعي محاولة لتعطيل الاداء الرقابي على السلطة التنفيذية    الليغا: اشبيلية يزيد متاعب غرناطة والميريا يفاجىء فاليكانو    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الاستقلال إلى الوحدة (1-2)
نشر في 26 سبتمبر يوم 22 - 05 - 2012

كانت الثقافة الوطنية اليمنية وما زالت فاعلاً رئيسياً في مجرى تطوير الفكر السياسي منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات ، حيث شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية معاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية ، ودخلت تحت تأثيرها طوراً جديداً تمثل بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962 م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الاستقلال الوطني 1967 م ، وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة ، وصولاً الى قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 م الذي انهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزّأ وجهه الشرعي الواحد ، في سياق أول عملية تاريخية معاصرة للتحول نحو الديمقراطية التعددية في اليمن .
على تربة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية الجديدة شهدت اليمن بدايات استيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات ... وعلى خلفية البعد الثقافي للحراك السياسي في المجتمع كان العمل الوطني ينمو ويتطور .. وحين قامت ثورة 1948 م الدستورية لتعبر عن آمال وأشواق شعبنا الى الحرية والإنعتاق من الاستبداد والخروج من أنفاق التخلف والعزلة والظلام ، كان علماء الدين والمفكرون والأدباء هم قادتها وشهداؤها .
ولئن كان ما تقدم هو حال المجال السياسي للحركة الوطنية في صنعاء وتعز وحجة والحديدة، فقد كان الحال كذلك أيضا - في عدن ولحج وحضرموت حيث كان المفكرون والمثقفون والكتاب والأدباء والصحافيون والفنانون يجسدون الوحدة العضوية بين الثقافة والسياسة ، ويحملون رايات الكفاح الوطني ضد الاستعمار والتجزئة ، ويرفعون شعارات الحرية والاستقلال والوحدة .
مما له دلالة عميقة أن الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة شمالاً وجنوباً كانوا من المفكرين وعلماء الدين والكتاب والأدباء والصحافيين وخريجي الجامعات العربية والأجنبية ، الأمر الذي يشير بوضوح الى البعد الثقافي لمشروع التغيير .
في الأتجاه نفسه كان الرواد الأوائل لثورة 26 سبتمبر 1962 م - أيضاً - من طلاب وخريجي المدارس العسكرية في صنعاء ، وخريجي الكليات الحربية في مصر والعراق ، الذين قامت على أكتافهم بعض الإصلاحات التي اضطر النظام الأمامي الى تنفيذها في الجيش ، بعد أن أكدت حروبه مع الجيران والبريطانيين ضرورة الشروع في بناء وتحديث الجيش والنظام التعليمي .. بيد أن هؤلاء الثوار لم يوظفوا معارفهم العسكرية والعلمية التي اكتسبوها من أجل خدمة النظام الأمامي الاستبدادي ، بل وظفوها لتخليص الوطن من ظلمه وظلامه ، وايقاد شعلة الحرية في ربوعه .
حدثان ومنعطف
صحيح أن عملية الانبعاث الوطني العام تطورت عبر مسيرة طويلة ومعقدة ، ثم وصلت ذروتها بقيام الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر و 14 أكتوبر ) .
... لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الحركة الوطنية اليمنية التي قادت هذه العملية التاريخية، واجهت في أحد منعطفاتها الخطيرة حدثين متزامنين كان لهما تأثير سلبي على المسار اللاحق للثورة اليمنية .
في الخامس من نوفمبر 1967 م وقع في صنعاء انقلاب عسكري من داخل الصف الجمهوري الذي فجر ثورة 26 سبتمبر ودافع عنها ، وتسبب ذلك الأنقلاب في إحداث شرخ غائر في المجتمع ، أسفر عن عدد لا يحصى من التناقضات والعمليات السلبية التي عرقلت تقدم مسيرة الثورة اليمنية صوب استكمال أهدافها الوطنية .
كانت عدن أثناء حدوث ذلك الإنقلاب ، تشهد حرباً أهلية دامية منذ الثالث من نوفمبر 1967م بين فصائل ثورة 14 اكتوبر بمشاركة واسعة وحاسمة من جيش اتحاد الجنوب العربي الذي قاتل إلى جانب الجبهة القومية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي للقوى الثورية ، وأنتهت تلك الحرب في السادس من نوفمبر 1967م بحدوث شرخ وطني عميق في جسم المجتمع ، تمهيداً لانفراد الجبهة القومية بالسلطة وإقصاء الفصائل الوطنية الأخرى التي شاركت في الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني ، وصولاً إلى ظهور دولة شطرية ذات شرعية دولية في جنوب الوطن الذي كان بدوره مجزأ إلى 22 سلطنة وإمارة وولاية .
ثمة من يرى أن القوى المعادية للثورة والجمهورية راهنت على الاستفادة من تداعيات ذلك الانقلاب ، حيث شنت هجوماً متعدد المحاور على العاصمة صنعاء في أواخر نوفمبر 1967 اسفر عن محاصرتها لمدة سبعين يوماً .
الانتصار الحاسم
والثابت أن ذلك الحصار أكد ضرورة إستعادة وحدة قوى الثورة اليمنية والدفاع عن الجمهورية المهددة بسقوط عاصمتها وبفضل تلك الوحدة تحقق الانتصار الحاسم الذي أجترحه الجمهوريون من مختلف التيارات السياسية والفكرية ، وشاركت فيه فصائل ثورة 14 أكتوبر التي انهزمت في الحرب الأهلية وانسحبت إلى الشمال ، ولم تمنعها جراحها النازفة من القيام بواجب المشاركة في الدفاع عن صنعاء . بيد أن تداعيات انقلاب نوفمبر العسكري في صنعاء وحرب نوفمبر الأهلية في عدن القت بظلالها الثقيلة على الحياة السياسية بعد كسر الحصار و إلحاق الهزيمة بالقوى المعادية للثورة والجمهورية ، حيث بزرت إلى السطح استقطابات داخلية حادة على خلفية وجود دولتين في وطن واحد .
ولاريب في أن تلك الاستقطابات الحادة مهّدت لوقوع أحداث أغسطس الدامية والمؤسفة بعد فك الحصار عن صنعاء بستة شهور بين قادة بعض الوحدات العسكرية التي شاركت في ملحمة السبعين يوماً .. وقد ألحقت تلك الأحداث أضراراً كبيرة بوحدة العمل الوطني الثوري ، في ظروف إنقسام الوطن إلى دولتين تعلنان انتماءهما الشرعي للثورة اليمنية ( 26 سبتمبر - 14 اكتوبر ) ، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية ، وتؤسِّسان في اللاوعي ثقافة سياسية مشوّهة .
دشنت تلك الظواهر والأحداث بداية مرحلة جديدة من العلاقات القائمة على التناقض والتنافر بين أول دولتين يمنيتين في التاريخ الوطني المعاصر للشعب اليمني، ولم يخل هذا التناقض من حالات الإحتراب والتصادم ، وتبادل الحملات الإعلامية وتنظيم وتسليح المعارضات المتبادلة بصورة متفاوتة ، وصولاً إلى تحويل اليمن بشطريه إلى ساحة مفتوحة للإستقطابات الدولية والحرب الباردة بين القوى الكبرى، الأمر الذي زاد من حجم الأخطار التي تهدد سيادة الوطن واستقلاله ووحدته ومسيرته الثورية عموما.
ويندرج ضمن تلك الأخطار ظهور بعض المفاهيم اليمينية واليسارية الخاطئة التي أنكرت واحدية الثورة اليمنية، وزعمت بوجود مسارين متوازيين ومتناقضين لكل من ثورتي 26 سبتمبر و 14 اكتوبر .
على الصعيد نفسه لم تخل العلاقات بين الدولتين الشطريتين في اليمن من الميول الموضوعية نحو الوحدة، ففي كل مرحلة من مراحل تسعير المواجهات السياسية والإعلامية بين الشطرين كانت الحرب هي المحصلة النهائية، غير أنها سرعان ما كانت تنتهي بالتوقيع على اتفاقيات وحدوية تعرضت لإختيارات صعبة في مجرى التنفيذ .
وتبعاً لذلك نشأت معادلة خطيرة في حياة الشعب اليمني لم تستطع الدولتان الشطريتان تجاهلها، ولم تستطع أيضاً معالجة تناقضاتها وتداعياتها بصورة جذرية، حيث شكل استمرار التجزئة بؤرة خطيرة للتصادم وعدم الاستقرار والحروب التي تغذيها فواعل داخلية وخارجية تندرج في إطار استقطابات الحرب الباردة عربياً ودولياً .
تبعية المجال السياسي للمجال الإيديولوجي
هكذا شهدت بلادنا أول ظاهرة سياسية معاصرة في تاريخ اليمن الحديث ، تمثلت في التزاوج الذي حصل بين المجال السياسي والمجال الإيديولوجي في إطار ثقافة سياسية شمولية تحولت إلى محدد رئيس للتعاطي مع موضوعة مشابهة لظاهرة أخرى في تاريخ اليمن الوسيط ، حين كان للثقافة الدينية المتزاوجة مع الايديولوجيا الطائفية المذهبية دور هام في نشوء أول دولة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون من جهة ، وتكريس التناقضات الداخلية في إطار هذه الدولة المستقلة والتي وصلت ذروتها إلى التشرذم في هيئة كيانات ودويلات داخلية من جهة أخرى .
فقد نجح الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي في الوصول إلى اليمن تلبية لدعوة من زعماء القبائل اليمنية المتناحرة على الحكم ، بهدف إيقاف الحروب الداخلية ، وتمكن من إقامة نظام حكم مستقل ذاتياً عن الخلافة العباسية عام 819م ، وذلك بعد أن أضاف إلى المذهب الزيدي مبدأً يحصر الحكم بموجبه على سلالة البطنين العلوية الهاشمية ، ثم بدأ الدعوة إلى مذهب الإمام زيد بن علي في مدينة صعدة بشمال اليمن ، حيث أسس هناك الدولة الزيدية الهادوية التي انتقلت فيما بعد إلى مدينة صنعاء ( 1 ) .
أجمعت الدراسات التاريخية المتوفرة حتى الآن ، على أن دولةً عقائديةً من هذا الطراز لم تستطع تحقيق وحدة اليمن وحمايتها ، كما لم تستطع في الوقت نفسه الحفاظ على استقراره الداخلي، وذلك بسبب منحاها الايديولوجي المذهبي الذي سعى إلى تشكيل الوعي الديني وتوظيفه كإيديولوجيا لنظام الحكم ، وهو المنحى الذي ميز التطور التاريخي اللاحق لمختلف الدويلات اليمنية التي نشأت فيما بعد على أسس مذهبية وعقائدية .
إلى هذا المنحى يعيد بعض المؤرخين ما ساد اليمن من ظواهر التمزُّق والصراعات المذهبية والقبلية التي أسفرت عن نشوء عدد من الدويلات اليمنية القائمة على الإستقطابات المذهبية الدينية ، والنزعات المناطقية والقبلية ، كان القاسم المشترك بينها يتمثل في استغلال الوعي الديني واستخدامه كايديولوجيا تبريرية للحصول على الشرعية ، ما أدى إلى أن « يصطبغ تاريخ اليمن خلال تلك الحقبة بصبغة دموية قانية « ( 2 ) .
عجزت تلك الدويلات والكيانات الإقطاعية عن التوسع واخضاع الكثير من المناطق اليمنية ، ولم تتمكن من الوصول إلى حضرموت شرقاً ، وإلى عدن وأبين جنوباً ، وإلى حدود نجد شمالاً ، باستثناء دولة الصليحيين التي اسسها على بن محمد الصليحي عام 1047 ، وجعل من مدينة « جبلة « عاصمة لها بعد ان نجح في إقامة دولة مركزية واحدة لليمن بأسره من أقصاه إلى أقصاه ( 3 ) .
وكما هو معروف فإن هذه الدولة اليمنية الموحدة استمرت بعد موت مؤسسها عام 1066 م حيث تولي قيادتها من بعده نجله المتزوج من السيدة أروى بنت أحمد التي أصبحت أول ملكة يمنية في التاريخ الميلادي الوسيط ، بعد أن أشركها زوجها في حكم البلاد بسبب ما كانت تتمتع به من علم بأصول الدين ، وقوة في الشخصية ، وانفتاح على مختلف الفرق والمدراس الكلامية والمذاهب الفقهية .
شهدت اليمن في ظل الدولة الموحدة استقراراً سياسياً ساعد على تحقق تقدم ملموس في المجالات العلمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأحياء التقاليد السياسية التاريخية القديمة للمجتمع اليمني , وخاصة تلك التي تتعلق بالشورى والزراعة وتنظيم الري والتجارة والحرف المهنية .. كما أنتعشت في البلاد حركة فكرية وثقافية ، تجسدت بظهور تيارات فكرية للفرق الإسلامية المختلفة وإبرزها المعتزلة ، حيث أمكن لليمن بفضل تنوع وتعدد هذه التيارات الفكرية أن يسهم بدور فعال في إغناء الفكر الإسلامي والثقافة العربية .
وقد استمرت هذه الدولة الموحدة إلى أن توفيت الملكة أروى بنت أحمد عام 1138 م ، حيث خلفها في الحكم نهج منغلق تسبّب في تفكُّك أوصال المجتمع اليمني ، ودخوله نفق الإنقطاع الحضاري نتيجة لإحياء الصراعات المذهبية التي كانت تشكل محتوى الدويلات اليمنية غير الموحدة ، وتستمد مقومات وجودها من نزعات التشدد والتعصُّب والظلم والتعسف التي أصابت الشعوب العربية بعد انتقال مركز الدولة الإسلامية إلى الإتراك العثمانيين ، وما ترتب على ذلك من تمزق المجتمع العربي وتفاقم الركود الاقتصادي والثقافي ، ووقوع أجزاء عديدة من البلاد العربية تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية في وقت لاحق .
في هذا السياق ، وخلال قرون متلاحقة شهدت بلادنا قيام دويلات مذهبية وآخرها المملكة المتوكلية في مطلع القرن العشرين ، والتي تأسست في ظروف تاريخية نوعية برزفيها دور العامل الوطني الممزوج بالعامل المذهبي على أثر تزايد مخاطر التهديدات الاستعمارية الأوروبية من ناحية ، واحتدام الصراع على الإمامة بين أكثر من إمام أدعى لنفسه الإصالة العقائدية و نزاهة المقصد من ناحية اخرى ، إلى أن تمت مبايعة يحيى بن محمد حميد الدين إماماً على اليمن بلقب المنصور بالله المتوكل عام 1917 ، بعد نجاحه في مقاومة الأتراك وتوقيع صلح دعان مع دفع الزكاة والخراج والدعاء للخليفة في خطب الجمعة بمساجد اليمن ، وصولاً إلى تأسيس المملكة المتوكلية اليمنية التي استمرت حتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962 .
والثابت أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن كهمزة وصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي ، جعله في العصر الحديث هدفاً لحملات التوسع والإحتلال من قبل الدول الاستعمارية الأوربية الكبرى مثل البرتغال وهولندا وايطاليا وتركيا وبريطانيا ، حيث نجحت الأخيرة في الإنفراد باحتلال عدن عام 1839م، والاحتفاظ بها لفترة طويلة فرضت خلالها هيمنتها الكاملة على باقي أجزاء الجنوب اليمني التي كانت خارج السيطرة المباشرة لدولة الخلافة العثمانية والدولة القاسمية في أن واحد ، وفي هذا الاتجاه استكمل الاستعمار البريطاني احتلاله للجنوب بتوقيع معاهدات صداقة وحماية مع السلاطين وحكام الامارات والمشيخات المجزأة ، والتي أصبحت بموجب تلك المعاهدات محميات بريطانية .
أسهم هذا الوضع في ولادة شعور وطني بالأخطار التي تهدد السيادة الوطنية والمصير الوطني ، وأفسح الطريق أمام بروز الإرهاصات الأولى للقضية الوطنية في ظل وضع متميز بالتخلف الشديد و العزلة الخانقة والانقطاع الحضاري ، غير أن طموح حكام بعض المناطق اليمنية في تكريس سلطتهم على الكيانات التي كانوا يحكمونها ، وبناء دويلاتهم الإنعزالية فيها ، أدى إلى تمكين القوى الاستعمارية من استغلال الخلافات المذهبية و النزعات القبلية ، وتأجيجها باتجاه تحويلها إلى صراعات طائفية ومناطقية تضعف وحدة المجتمع من جهة ، وتمهد لطمس الهوية اليمنية من جهة أخرى .
في هذا السياق سعت القوى الاستعمارية الى تغذية طموح بعض الزعامات المحلية لإقامة دويلات مستقلة على نحو ما حدث عند ما تحالف الإمام محمد على الأدريسي مع الاستعمار الإيطالي الذي كان ينظر إلى تهامة كمجال حيوي للمستعمرة الإيطالية « إريتريا « ، وفيما بعد عندما تحالف الإدريسي مع الاستعمار البريطاني الذي أحتل ميناء الحديدة وسلمها له عام 1921م ، بعد توقيع معاهدة حماية وصداقة معه بهدف توسيع المجال الجغرافي للدويلة الإدريسية ، والحيلولة دون قيام دولة مركزية موحدة على الأرض اليمنية التي كانت تابعة للدولة العثمانية . بيد أن حكم آل حميد الدين نجح في تصفية الدولة الإدريسية من تهامة والحديدة، وفي وقت لاحق من حرض ، وحصرها داخل عسير ، وهو عمل تاريخي أسهم في توسيع نطاق الجغرافيا السياسية للدولة اليمنية ، وكان له تأثير هام على اهتمام نظام آل حميد الدين بعد ذلك بجنوب اليمن .
والحال أن العملية الوطنية التاريخية التي بدأها شعبنا اليمني منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر ، سارت في اتجاه ثابت استهدف القضاء على الحكم التركي في المناطق الشمالية من اليمن ، ودرء مخاطر الوجود الاستعماري البريطاني بأفق التطلع إلى بناء دولة مركزية موحدة.
وعلى أساس هذا الاتجاه تطورت هذه العملية ابتداءً من ثلاثينات القرن العشرين ، وشكلت المحتوى الرئيسي للحركة الوطنية الشعبية المعاصرة في اليمن ، والتي وصلت ذروتها في الخمسينات والستينات ، وتوجت بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963 ، وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967 ، وميلاد الدولتين الوطنيتين اللتين أقتسمتا الوطن حتى الثاني والعشرين من مايو 1990م .
تأسيساً على ذلك ، يمكن القول أن بروز ظاهرة الإيديولوجيا في سؤال الوحدة اليمنية المعاصر ، يرجع إلى وجود دولتين مستقلتين تقاسمتا الهوية اليمنية منذ أواخر الستينات غداة استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الثلاثين من نوفمبر 1967 حتى 22 مايو 1990 م .
سمة مشتركة
وقد ارتبط ظهور تلك الدولتين بدخول اليمن مرحلة خطيرة من الاستقطابات الإيديولوجية الحادة ، والصراعات السياسية المتواصلة ، والحروب الأهلية الدامية , و صولاً الىالمواجهات المسلحة بين الشطرين ، الأمر الذي الحق ضرراً جسيماً بالمصالح الوطنية العليا للشعب اليمني ، وأفسح المجال لقيام كل من الدولتين بتقنين عدد من الإجراءات والضوابط والقيود التي تمس الحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين ، وتصادر حرية تنقل الأفراد والمنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والمجلات والكتب اليمنية بين الشطرين ، فيما جرى بصورة متبادلة إحاطة تلك الأوضاع الشاذة بمناخ متوتر اتسم بالنزوع الى إضفاء الطابع الإيديولوجي الصرف على التمايزات الشطرية .
في هذا السياق ظهرت تصورات دوغمائية وغير واقعية لتحقيق الوحدة من مواقع التفكير القديم ، واشتركت هذه التصورات والمفاهيم في إنتاج ثقافة سياسية مشوّهة زعمت بوجود نظامين اجتماعيين متمايزين ومتوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما ، ونشرت الأوهام حول ضرورة العمل من أجل إنضاج الشروط التي تمكن كل نظام من نفي الأخر وإلغائه .
لم يكن هذا التفكير الذي عمل على تعريف الوحدة بواسطة نفيها حكراً على شطر دون الآخر ، بل أنه كان سمة مشتركة للتفكير السياسي القديم في كل من الشطرين إزاء قضية وحدة الوطن .
صحيح أن كلاً من الكيانين- الدولتين- قام بتصميم منظومة من الأدوات والمخططات التنظيمية والسياسية والاقتصادية اللازمة لبلوغ هذا الهدف بشكل منفرد، لكنهما لم يسلما معاً من مثالب نزعات الاحتكار والإلغاء والإقصاء, وربما كانت تلك الأزمة تندرج ضمن إشكاليات أساليب التلقين الذي عانى منه- طويلاً- وعينا الإيديولوجي من جرّاء تعطيل أو تسطيح دور العقل كأداة للتفكير .
فراغ ثقافي
قطعاً كان هناك ما يشبه الفراغ الثقافي الذي كرسته عوامل عديدة من بينها ضعف مستوى تطور الثقافة الوطنية والإنتاج الثقافي في اليمن ، بالإضافة إلى ما كانت تعانيه الثقافة العربية عموماً في السبعينات من تشوهات واختلالات .. ولعل ذلك الوضع كان سبباً في أن يكون التفكير مغترباً عن تربته الثقافية وإشكالياتها ، ومفتقراً إلى مرجعيته المعرفية التي لا يمكن أن تتوفر إلا على خلفية من الثقافة الرفيعة , فيما كانت النتيجة الموضوعية لكل ذلك , تكريس إغتراب محتوى التفكير عن الحياة الواقعية ، وحصره في دائرة التأملات والأحلام والأوهام الإيديولوجية المجردة , والنزوع الى الإنفراد والإلغاء والتجريبية وتعسُّف الحقائق ، وما ترتب على ذلك من تناقضات ومواجهات ومصادمات دورية طالت الأمن والاستقرار في الشطرين معاً ، وفي كل منهما على حدة أيضاً.. فقد عانى الشطر الجنوبي من الصراعات الداخلية على السلطة حتى منتصف الثمانينات ، فيما عاني الشطر الشمالي من صراعات مماثلة حتى مطلع الثمانينات .
وبين هذا وذاك.. تدفقت المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية المتناظرة والمتناقضة ، لتؤسِّس وعياً مشوهاً يفتقر إلى شروط المعرفة المعاصرة لواقع التجزئة في الظروف الوطنية والعالمية الجديدة والمتغيرة ، ويتجاهل تحت ضغط سلطة التجزئة والصراع الداخلي على السلطة ضرورة إغناء وتطوير شروط المعرفة لسؤال الوحدة اليمينة الذي صاغه الخطاب السياسي الوحدوي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وكان له دور هام في تشكيل الوعي الوطني المعاصر للشعب اليمني سواء في مرحلة استيقاظه الأولى، أو في مرحلة نهوضه وتبلوره بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و14 اكتوبر.
كان تعاطي هذه الأنماط من المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية يتم في ظل نقص حاد لأدوات التحليل المعرفي، الأمر الذي جعل التأثير السلبي لهذا التعاطي غير محصور في حدود تسطيح الوعي النظري ، بل امتد ليشمل تراكماً طويلاً من العمليات السلبية على مستوى الوعي ، تمخضت عنها ولادة مشوهة لفكر سياسي ينطوي على أزمة عقل وأزمة ثقافة في آن واحد عند الإجابة على سؤال الوحدة اليمنية.
إن قولنا بوجود أزمة عقل.. وأزمة ثقافة في الحياة الفكرية والسياسية التي شهدت تعاطي تلك المفاهيم والتصورات والشعارات ينطلق من الفرضية التي تقول بأن للفكر جانبين .. أولهما أن الفكر محتوى ، وثانيهما أنه أيضاً أداة ، بمعنى أنه عقل يقوم بانتاج المفاهيم والتصورات ومختلف إشكال التفكير والوعي .
أما المعادل الموضوعي الذي يربط بين جانبي الفكر ، فهو البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها، لأن عملية التفكير تتم داخل ثقافة سياسية معينة وبواسطتها.. أي التفكير بواسطة مرجع معرفي من أبرز محدداته موقف الإنسان في المجتمع ونظرته إلى العالم ورؤيته للمستقبل !! .
يقيناً ان تزامن ظهور الدولتين الشطريتين السابقتين مع دخول سؤال الوحدة اليمنية دائرة « أوهام الآيديولوجيا « لم يؤد فقط الى محاصرة هذا السؤال وتكبيله بقيود الآيديولوجيا، بل أدى إلى إفراغ سؤال الوحدة من أي مضمون تاريخي معاصر على الرغم مما قد يتصوره البعض ظاهرياً.. لأن سؤال الوحدة دخل على يد الآيديولوجيا مأزقه المحتوم في كل من الدولتين الشطريتين حيث ساد الاعتقاد بأن الحقيقة يحتكرها كل منهما منفرداً ، وينفيها كل منهما عن الآخر منفرداً أيضاً!
هكذا تولى الخطاب السياسي والآيديولوجي القديم أواخر الستينات وخلال السبعينات والثمانينات وظيفة تبرير وجود نظامين اجتماعيين متمايزين ، أو تبرير وجود نظام يجد هويته في الدين مقابل نظام يجد هويته في الطبقة الإجتماعية التي يدافع عن قضيتها بحسب ذلك الخطاب !!
وهكذا أيضاً كانت التجزئة تقوم بتعريف الوحدة وتعريف شروط قيامها.. كما أصبحت التجزئة أيضاً هي التي تقوم بتوظيف المفهوم الآيديولوجي للوحدة بهدف خلق نقيضه، أي تبرير وتكريس الدولة الشطرية .. بيد أن ذلك الخطاب لم يكن قادراً على إعادة تعريف الثقافة الوطنية التي شكلت رافعاً قوياً للخطاب السياسي الوطني الشعبي الوحدوي في مواجهة هيمنة الآيديولوجيا على الإجابة التي يتطلبها سؤال الوحدة !
سؤال الوحدة ومأزق الآيديولوجيا
انطوى الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين على قدر كبير من التبسيط والدوغمائية على نحو ما تجسد في بعض الإطروحات السياسية والنظرية بصدد الوحدة اليمنية وسبل تحقيقها خلال السبعينات والثمانيينات.. وقد استند جزء كبير من هذه الأطروحات إلى قاعدة من التصورات النظرية التي تم نقلها من مراجع خارجية وإسقاطها بصورة تعسفية على الواقع اليمني .
ولا نبالغ حين نقول أن المجتمع اليمني شهد منذ ظهور الدولتين الشطريتين نوعاً من الإستقطابات الآيديولوجية المحمومة، ما أدى إلى كبح تطور العملية الثورية المعاصرة التي مرت بمخاض عسير وغير طبيعي, نتجت عنه تشوهات واختلالات في الوعي السياسي لأقسام واسعة من الناس بسبب الإستقطابات الآيديولوجية التي اشتركت- برغم تنافرها- في موضوعة واحدة ترى بأن الوحدة اليمنية لا يمكن تحقيقها بين نظامين متمايزين بدون اسقاط أحدهما وتعميم النموذج الآخر !
الحقت تلك الاستقطابات اضراراً كبيرة بمسار العملية الثورية المعاصرة في اليمن، حيث انتعشت النزعات المعادية للديمقراطية والحداثة تحت تأثير البنى التقليدية الداخلية والتدخلات الخارجية، وشكلت الدعوة الى الأصولية السلفية بيئة مثالية لمعاداة للديمقراطية والحداثة, ومصادرة الدور النقدي للعقل، ومحاصرة منابع التنوع الفكري في المجتمع تحت شعار محاربة الأفكار المستوردة .
في الاتجاه نفسه تم تمزيق أوصال الفكر الاجتماعي الجديد، وسد المنابع التي تساعد على إثرائه وتنويعه تحت شعار محاربة الأفكار البرجوازية والرجعية، وصولاً التي تنميط الوعي الإيديولوجي وتعليب الممارسة السياسية في قوالب جاهزة، ما أدى الى فرض الوصاية على العقل ومصادرة الحرية والإدعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار ميراث الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وإلغاء التعدد والتنوع في الحياة السياسية والفكرية.
هكذا برزت التصورات الرافضة للمغايرة كشرط للوحدة التي تراوحت مفاهيمها الآيديولوجية بين الدولة ذات التوجه الديني والدولة ذات التوجه الاشتراكي ، فيما كان الواقع الإجتماعي بخصائصه الوطنية والتاريخية غائباً وضائعاً بين هذه المفاهيم التي لم تجد مرجعها المعرفي فيه.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.