إن مما ذكر الله عز وجل من كرامته لعباده الصالحين ما ذكره من كرامته لمريم ابنة عمران عليها السلام حين اتخذت من أهلها مكانا شرقيا، من المسجد الأقصى فإذا برزقها يأتيها من الله سبحانه وتعالى إلى غرفتها ومخدعها في كل وقت، قال الله عز وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[سورة آل عمران: 37]. فالله هو الرزاق الذي يرزق من يشاء بغير حساب ويسوق رزقه إلى عباده برحمته ولطفه. ونحن بأمس الحاجة إلى أن نتذكر بعض الحقائق المتعلقة بالرزق، حقائق بينها القرآن وأكدتها السنة، وهذه الحقائق تثمر في القلوب إيمانا وطمأنينة ورضا واستقرارا، فما هي هذه الحقائق؟ الحقيقة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق: قال الله عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[سورة الذاريات: 56 - 58]. وقال سبحانه وتعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ)[سورة طه: 132]. وقال الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [سورة الذاريات: 22 - 23]. فأكد الله جل جلاله لعباده بالقسم أن الرزق عنده في السماء. ومعرفة هذه الحقيقة تثمر في القلب تعظيم الله عز وجل وتوحيده وأنه المستحق وحده للعبادة. الحقيقة الثانية: أن المشركين كانوا مقرين بأن الله عز وجل هو الرزاق: وقد دعاهم الله عز وجل من خلال ذلك لعبادته وحده، وأنكر عليهم عبادة من سواه. قال الله عز وجل: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)[سورة يونس: 31]. وأنكر الله عز وجل على المشركين ودعاهم إلى شكر الرب سبحانه وعبادته وحده، قال الله عز وجل: (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)[سورة الملك: 20 - 21]. قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ)[سورة فاطر: 3]. ومعرفة هذه الحقيقة تثمر أنه لا معنى لمعرفة أن الله هو الرزاق مع صرف العبادة لغيره وشكر من سواه. الحقيقة الثالثة: أن الله عز وجل تكفل بالرزق لكل أحد من خلقه من عاقل وغير عاقل، ومؤمن وكافر: قال الله عز وجل: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[سورة هود: 6]. فما من دابة تدب على وجه الأرض وتتحرك في بر أو بحر من إنسان أو جان أو حيوان أو طير إلا وقد تكفل الله عز وجل برزقها وأن يوصل الله إليها رزقها جل في علاه .. وقد كتب ذلك في كتاب مبين. وقال عز وجل: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[سورة العنكبوت: 60]. وقال عز وجل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[سورة البقرة: 126]. فإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قيد دعاءه وسؤاله لربه بالرزق لمن آمن من ذريته بالله واليوم الآخر ، فقال الله عز وجل: (وَمَنْ كَفَرَ ) أي : كذلك الرزق لمن كفر ، هذا في الدنيا، وقال عن حكمه في الآخرة : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). فقد تكفل الله عز وجل بالرزق لكل نفس خلقها عاقلة أو غير عاقلة، مؤمنة كانت أو كافرة. ومعرفة هذه الحقيقة تثمر في النفس الطمأنينة وتزيل عنها القلق والاضطراب. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: “ وعرفت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي”.