ارتبطت القصيدة الغنائية واللحن المنغم مع الشعر الحميني اليمني ، كما أسلفنا في ذلك بحيث نبع هذا النسيج التراثي الخلاق من أغوار ومكنونات هذا الشعر الحميني الثري المعطاء لذا لزم علينا في هذا الجزء أن نشير إلى بقية الألوان الغنائية المتنوعة والمتعددة على الرقعة الجغرافية الممتدة ما بين الجبل و الهضبة والساحل والوادي والصحراء نجد أن تتعدد أنماط الغناء في اليمن بشكل ملفت: فهناك الغناء الصنعاني، الحضرمي، العدني، اللحجي، اليافعي، التهامي، التعزي وغيرها. ولكن السؤال هنا يقول : هل يعود هذا التعدد إلى تباينات ثقافية أم أنه مجرد تعبير عن حالات فردية لهذا المغني أو ذاك؟! * الغناء اليمني: أنماط متنوعة تبعا للاختلاف الطبقي و المناطقي : تتمايز الأنماط الغنائية في اليمن عن بعضها بشكل كبير، ليس ما بين منطقة وأخرى فحسب، بل وعلى صعيد المنطقة الواحدة أيضا، فقد تم التطرق لهذا التصنيف الثقافي فيما يخص التراث الفني في مجال الغناء و الشعر المغنى اليمني بشكل عام “ الموسيقار والفنان اليمني “ جابر علي أحمد من خلال مبحث تأريخي مطول له خلال العقود الماضية متناولاً فيه هذه الأنماط المتنوعة عن هذه الألوان الغنائية البديعة للموروث اليمني الزاخر بالكنوز والجواهر الفنية الأصيلة ، والأستاذ الموسيقار و الباحث “ جابر علي أحمد يعد هنا بالباحث والناقد في تيارات الغناء اليمني وهو من الباحثين اليمنيين القلائل المتخصصين لهذا الشأن وللأسف الشديد ، ، وقد برع في هذا المضمار النادر علمياً عن المورث الشعبي اليمني في مجال الغناء والتلحين والقصيدة ، وقد تحدث عنه الكاتب والناقد اليمني المعروف الأستاذ “ عبد الباري طاهر “ بأنه : “من قلائل فناني الوطن العربي، الذين جمعوا بين موهبة الفنان وملكة الناقد المجرب والأكاديمي” . * ثنائية اللوحة الغنائية في اليمن : ويقول في هذا المبحث الهام “ الموسيقار جابر علي أحمد “ : “ تنقسم اللوحة الغنائية في اليمن إلى نوعين هما: الغناء التقليدي والغناء الشعبي”، واصفاً الغناء التقليدي بأنه “شكل غنائي متحرك في بيئات مختلفة وبالذات في المدن اليمنية”. هذا اللون الغنائي يتمحور بصورة أساسية حول الموشحات اليمنية والقصيدة الخليلية (القصيدة الغنائية). وهذا النوع من الغناء اليمني لا يرتبط بمناطق أو تقسيمات حزبية، كما يقول الباحث في تيارات الغناء اليمني. ويعزو الموسيقار أحمد سبب هذا التنوع الذي يميز الغناء الشعبي اليمني لكونه “غناء شديد الغزارة”. * الوظيفة الفنية للأغنية التقليدية : الغناء التقليدي ذو “وظيفة فنية أساسا، بغض النظر عن الموضوع الذي تتناوله الأغنية” ،، ويعود ذلك إلى “توسع دائرة مواضيعه المرتبطة بالغزل بأنواعه وبمجالس القات والمسائل الاجتماعية المختلفة” . * الموشح (الغويدي) : “مثل أغنية ‘ربى صنعاء' .. أو أغنية ‘وامغرد بوادي الدور'... تنتشر في كل الربوع اليمنية منذ ظهورها المرتبط بمولد الشاعر الغنائي اليمني (ابن شرف الدين) الذي تزامن نشاطه الأدبي مع الغزو العثماني الأول لليمن في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين” ،، ويرجح لدى الباحثين والمؤرخين اليمنيين و العرب “ بأن موشحات ابن شرف الدين تقيدت من الناحية الشعرية بتقنيات الموشحات اليمنية المنتمية للقرن الثالث عشر الميلادي والتي كان ميدانها مدينة زبيد والمناطق الجنوبية منها” الواقعة غرب اليمن في محافظة الحديدة ،، ويرجع هذا إلى التطور التاريخي للموشح اليمني مذكرا بأن “أول شاعر يمني خاض في مجال الموشح كان الشيخ الصوفي أبو بكر بن حنكاش، حتى جاء شاعر يمني أخر هو ابن فليته لينتقل الموشح إلى مدينة تعز في عهد الدولة الرسولية”. وكانت تعز حينها عاصمة الدولة التي عاشت ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين.. ويستنتج في هذا باحثنا الفنان الموسيقار “ جابر علي أحمد “ بأن “الموشح اليمني الذي يحتل مساحة واسعة في الثقافة اليمنية انتقل من منطقة إلى أخرى وكان في انتقالاته تلك يعكس بهذا الشكل أو ذاك المزاج الثقافي لكل منطقة”، مشددا على أن الاختلافات إن وجدت “فهي في الدرجة وليس في النوع”. * تنوع الغناء الشعبي يعكس التعدد : فيما يتعلق بالغناء الشعبي فيجزم باحثنا القدير في الغناء اليمني “بتنوعه شديد الغزارة إلى الحد الذي يمكن أن يتميز في منطقة واحدة”، مشيراً إلى “وجود أغان شعبية في جنوب تهامة ذات نكهة مختلفة عن مثيلاتها في شمال تهامة”. ويعتقد أحمد أن “هذا الأمر ينطبق على الغناء الشعبي في كل مناطق اليمن”، معيدا هذا التنوع إلى “ارتباط الأغنية الشعبية بالمناسبات الاجتماعية والمهن الحرفية والتعبير عن الحقوق الإنسانية” كما أن “ تنوع الغناء الشعبي يعكس أبعاداً جغرافية واجتماعية ونفسية وثقافية “ . وهذا بحسب الناقد للفن اليمني “أمر يبرره التنوع المناطقي والمناخي”. وتبعا لتعدد أنماط الأغاني الشعبية وتنوعها تتعدد وتتنوع الرقصات الشعبية المصاحبة للأغاني فلكل منطقة كما هو الحال أيضا لكل مناسبة أغانيها ورقصاتها المميزة. ومن ضمن الإشكاليات التصنيفية التي تعوق إنطلاق هذا التراث والفلكلور الغني الزاخر المتنوع في اليمن فقد أشار الباحث والموسيقار الأستاذ “ جابر علي أحمد “ : إلى وجود نوع من التحيز لدى بعض المهتمين بأمر التنوع الغنائي في اليمن فيحصرونه بمناطق معينة كحضرموت ويافع ولحج وصنعاء، معتقداً أن هذه الرؤية غير منصفة وهي تصدر إما عن تناولات صحفية سطحية أو تخضع للاستغلال والتوظيف السياسي.. و يظل الشعر الحيمني هو الرائد من بين هذه الألوان الخلاقة في لحن القصيدة المغناة نعود إلى هذه المدرسة التراثية اليمنية الأساسية التي تعتبر المنبع الصافي لجميع الألوان والأصناف الغنائية بجميع مناطق اليمن حيث نهل الجميع من معينه المتدفق تناغماً وعذوبة على مدى قرون ماضية من الزمان ولنا أن نستعرض واحدةً من تلك النماذج المحاكية للوصف و التجانس الوجداني الشعري و التي سنراها في قوام القصيدة التوشحية ،، التي تقول : * توشيح : فهز عسال القوام ---- وقال ما شا ذا الكلام ---- ما شاتجيني ذا حرام تقفيل فقلت برد حرقتي بنهله ---- وارثي لقلبي المُحْرَق ان فيك مثل الناس خوف من الله ---- يا ذا الغزال المُحَر بيت فقال طال حبسي وطال مزاحك ---- وانا معك ماشا المزاح ان كان معانا شايكون رواحك ---- روِّح فذا وقت المراح فقلت انا اول شالتزم وشاحك ---- وارشف طلا كاسه اقاح قال لي معك في ذا الكلام علِّه ---- كنت احسبك صالح تقي توشيح فقلت وا ظامي الوشاح----تحسب قلوب اهل الصلاح ---- ما تعشق الغيد الملاح تقفيل كم من تقي يازينة الاشله ---- وياسحور المنطقِ يطيش عقله ويعيش مُوَلّه ---- حين تنطقي او ترمقي بيت من حاد حسنك يا طويلة الجيد ---- ومن سمع منك الكلام وكَّلتِ طرْفه ببِكا وتسهيد---- واغريت قلبه بالغرام ما خضَّبوا خدك فويق توريد---- وقلدوا جيدك نظام ولا نُسِج لك ذا الجمال حُلِّه---- يا ريم الَّا تعشقي توشيح لما خطرتي يا رداح----شلَّ الشِّلال قلبي وصاح ---- كما يصيح دامي الجراح تقفيل حين قلّدوك الزهر والاهلِّه---- يا ريم سفح الابرق والفت فشلَّت قلبي الاشلِّه---- فصحت شاطيح ارفقي بيت اح يا رداح بالله قفي وشُقّي---- قلبي بصارم أعينك وفتشي قلبي عسى ترقي---- حين تنظري أين مسكنك هواك ملَّكْ مقلتيك رِقِّي---- وفي عيوني زيّنِك اصبحت عبدك احكمي بذِلِّهْ ---- بيعي والا فاعتقي توشيح عتقي التزامك في العناق---- وأحل طوقك والنطاق---- والثم فمك حالي المذاق تقفيل واشتَمّ ما ورد الخفر بقبله ---- من وجنتيك حين تعرفي ونلتقي داخل خِبا وكِلِّه ---- قريب على الله نلتقي