من الثابت تأريخيًّا أن الكيانين الصهيوني والسعودي صنيعتان بريطانيتان، وقد حرصت بريطانيا العظمى على إنشائهما على تخوم البحر الأحمر بقدر من التزامن لما من شأنه استمرار فصل شرق الوطن العربي عن غربه بشكل مستدام وآمن. أما تمكين كلا الكيانين على المسجد الحرام وأولى القبلتين وثالث الحرمين فبهدف حرمان أبناء الأمة من الالتصاق التام بأهم مقدسات الإسلام. ذَرُّ سموم التناحُر تطبيعٌ غير مباشر إن ما يقوم به النظام السعودي منذ سطوع نجمه من ذر سموم التفرقة في نسيج الأمة الإسلامية وتأليب كل مذهب على الآخر والعمل -من خلال تزييف الوعي المجتمعي- على الدفع بأتباع المذاهب الإسلامية إلى دوامة لا متناهية من التناحُر لا يتعدى كونه وسيلة لصرف نظر أتباع كافة المذاهب عن العدو الصهيوني الغاصب، وإفساح المجال أمامه للسير قُدُمًا في استكمال مشروعه التوسعي الطموح المعتمد على استراتيجية الأفق المفتوح الهادف -في ضوء ما يقدم له آل سعود وحلفائهم من تسهيل- إلى الاستحواذ على ما بين الفرات والنيل. وأقل ما يمكن أن يطلق على هذه الخدمة التي يقدمها كيان آل سعود لكيان آل صهيون بشكل متواتر أنها تطبيع غير مباشر، وأن هذا اللون من التطبيع يتميَّز عمَّا يحصل من تطبيعات متأخرة بتأريخيته وبأن الكيان الصهيوني قد قطف بعضًا من ثماره. صمت عن الإجراء منطوٍ على الرضا بالرغم ممَّا يقوم به النظام السعودي -على مدى عقود زمنية- من ممارسات تطبيعية تسببت للأمة بكوارث فظيعة- وبالرغم من رغبته التامة في إعلان التطبيع بل وفي تصدر القائمة، فإن الاعتبارين التاليين يحولان دون حدوث ذلك الإعلان: 1 - رمزية المسجد الحرام لأمة الإسلام: فوقوع المسجد الحرام الذي تؤدى فيه فريضة الحج يضع نظام آل سعود أمام الأمة بصفة عامة -في حال أعلن تطبيعه مع الكيان الصهيوني- في موقف غاية في الحرج. 2 - تأصُّل عداء الأخير في وعي الجماهير: فجمهور الشعب العربي -بما فيه شعب الجزيرة العربية(الشعب السعودي)- نشأ جيلاً بعد جيل على العداء الشديد للكيان الصهيوني المسمى(إسرائيل)، ومن شأن أيَّة خطوة سعودية رسمية للتقرب من هذا الكيان المحتل تعرُّض نظام المملكة لطوفان سخط جماهيري لا يحتمل. وتحاشيًا من هذا النظام لما قد يلحقه به إعلان التطبيع من أضرار، فقد وجد في الصمت المنطوي على التأييد أفضل خيار، وفي هذا الصدد فقد قالت "مضاوي الرشيد" الأستاذة الزائرة بمعهد الشرق الأوسط في مدرسة لندن للاقتصاد: (لقد تعاملت السعودية في الأيام التي تلت تطبيع العلاقة بين الإمارات وإسرائيل بالصمت)، لكن المتأمل في الملفات التي تشترك "الرياض" و"أبوظبي" في إدارتها سيجزم بكل تأكيد أن ذلك الصمت ينمُّ عن رضا وتأييد. تبادُل الزيارات تطبيعُ ممارسات بالرغم من عمق العلاقات بين السعودية والكيان الصهيوني وتأريخيتها -وإن أخذت طابع السرية- فقد حفلت السنوات الأخيرة بتحركات دبلوماسية متبادلة غير مسبوقة وتحمل دلالات خطيرة، فمذ وصل محمد بن سلمان إلى منصب ولاية العهد (بدأنا نسمع عن وفود سعودية تزور الأراضي المحتلة ووفود اسرائيلية تزور بلاد الحرمين)، وقد كانت وسائل الإعلام اليهودية تتخذ من التغطية الإعلامية لتلك الزيارات فرصة للترويج لإعلان التطبيع مع السعودية. فقد أشارت القناة الأولى الرسمية في التلفزيون الإسرائيلي في تقرير رسمي لها -في 14فبراير 2020 المنصرم- إلى (أن وفدًا ضم عددًا من قادة المنظمات اليهودية الأميركية زار العاصمة السعودية الرياض وحل ضيفاً على القصر الملكي). وقالت القناة: (إن زيارة 55 من زعماء الجالية اليهودية الأعضاء في مؤتمر قادة المنظمات اليهودية الأمريكية بقيت سرية). ونقلت القناة عن مصادر قولها: (إن الوفد بحث خلال زيارته للرياض، جملةً من القضايا الإقليمية، وإن المسؤولين السعوديين اهتموا ببحث سبل جسر الهُوة مع إسرائيل). وعلى صعيد آخر فقد ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" -في مطلع عام 2020- (أن "الحاخام مارك شناير" -وهو رئيس رابطة التفاهم بين اليهودية والإسلام التي تتخذ من الولاياتالمتحدة مقرًا لها، وتربطه علاقات متينة بقادة بحكام الإمارات والسعودية- نزل ضيفًا على وزارة الخارجية السعودية، والتقى خلال زيارته وزير الخارجية فيصل بن فرحان آل سعود، ووزير الدولة عادل الجبير). وفي منتصف نوفمبر من عام 2020 الماضي تداولت وسائل الإعلام الصهيونية على أوسع نطاق خبر نجاح (زيارة سرية لرئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" ومدير الموساد "يوسي كوهين" إلى السعودية واجتماعهما -في "نيوم" على البحر الأحمر- مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مشيدةً بها باعتبارها الزيارة الأولى لوفد إسرائيلي على مستوى عالي). أما مسك ختام كل تلك الممارسات التطبيعية التي تعكس عمق العلاقات السعودية مع السلطات الصهيونية الاحتلالية فيتمثل في مضمون قرار وزير الداخلية الإسرائيلية المدعو "أرييه درعي" الذي صدر بعيد منتصف عام 2020 ونصَّ على السماح للإسرائيليين ولكل من يحمل الجواز الإسرائيلي بالسفر إلى السعودية لأغراض تجارية ودينية)، ومضمون هذا القرار يكشف للجميع إن ما يمارسه النظام السعودي من ممارسات لا يمكن ممارستها إلا في ظل واقع التطبيع الذي لم ينقصه حتى الآن الجهر بالإعلان.