في مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام يقف التاريخ شامخاً، أبياً، شاخصاً إلى ماضٍ بعيد كان حافلاً بالمآثر والومضات الإيمانية المتوقدة، ليحكي لنا ذكرى ميلاد مولد الهدى والنور.. ذكرى أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..إنها ذكرى ميلاد رسولنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، فيها حرر الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الواحد الأحد، الفرد الصمد.. أخرجه من ظلمات الجاهلية الجهلاء، إلى نور الإسلام الساطع، من الضلال إلى الهدى.. فهو أمين الله على وحيه، حكيم العلماء، وسيد سادات العرب، المجاهد في سبيل إعلاء راية الحق.. آخي بين الأنصار والمهاجرين.. حتى صار المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً.. لقد كان عليه الصلاة والسلام وآله منذ صباه متصفاً بالأمانة والصدق والوفاء..وسمو الأخلاق، والوقار والتواضع، وبلغ من تواضعه أنه كان يجلس بين أصحابه كأنه واحد منهم.. قال عنه الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- كان رسول- صلى الله عليه وآله وسلم- دائم البشر- أي بشوشاً- منشرح الصدر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ في القول، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، هيبة وإجلالاً وتوقيراً له، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، ولا ينتقم لنفسه، بل يغضب لله، لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين وذي الحاجة، ويقضي لهم حاجتهم.. وخير مدح وثناء قاله الله عزوجل في رسولنا الأعظم:"وإنك لعلى خُلق عظيم" القلم-"4". فكان ميلاده عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، مصداقاً لقوله تبارك وتعالى:"وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين" الأنبياء-"107". يكفي رسولنا الأعظم عليه الصلاة والسلام وآله أنه هو القائل:"أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحداً قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فإيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة". هذه الفضائل والخصائل التي لا تُعد، ولا تُحصى، أُعطيت لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وآله، تكريماً، وتعظيماً، وتشريفاً له من دون الأنبياء والرسل السابقين.. لقد أراد الله عزوجل بمولد رسولنا الأعظم أن يدمغ الباطل، وقوى الضلال والفسوق والعصيان الذي استفحل وعم البر والبحر، وأن يقيم عدالة السماء، ويطهر الأرض من ارجاس الشرك والمشركين، فكان بحق أعظم نبي ومصلح عرفته الأرض قاطبة من أقصاها إلى أقصاها.. فكان مولده عليه الصلاة والسلام هداية ونوراً للبشرية جمعاء، غير مجرى التاريخ، وقلب موازين الحياة، وملأ الأرض عدلاً وهدى ونوراً بعد أن مُلئت ظلماً وضلالاً وظلمات.. من هنا ندرك أن عظمة رسولنا الأعظم تكمن في تواضعه وسمو أخلاقه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه..خرج عليه الصلاة والسلام وآله يوماً على أصحابه فقاموا له إجلالاً واحتراماً ، فقال لهم على سبيل التواضع: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً" وعندما دخل مكة فاتحاً منصوراً، وجلس حوله صناديد وسادة ووجهاء قريش الذين آذوه، ونعتوه بأقبح الصفات، وأخرجوه من مكة عنوة، وقف ناصحاً، ومصافحاً لم ينتقم.. ولم يثأر.. بل قال لهم بكل هدوء واطمئنان:"ما ترون أني صانعٌ بكم؟" قالوا: خيراً، أخٌ كريماٌ، وأبن أخٍ كريمٍ، قال:"أذهبوا فأنتم الطلقاء".. هكذا يعلمنا رسولنا الأعظم العفو عند المقدرة، من سمات العظماء والأوفياء.."آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".. فلنأخذ من هذه الذكرى العطرة الدروس والعبر، لنربي عليها أولادنا وبناتنا على منهجه القويم، وسيرته العطرة، وأخلاقه وقيمه وتعاليمه، وأن نحول بينهم وبين جلساء السوء.. وأن نغرس في نفوسهم حب آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين.. وصدق رسولنا الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".. كيف لا وهو النور العظيم الذي فاض على العالم برسالته المحمدية الخالدة، نور أضاء واستنار به العالم من مشرقه إلى مغربه.. وملأ به المعمورة عدلاً ورحمة وخيراً.. وصدق المولى القدير القائل:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي الله به من اتبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم"المائدة-"15-16". كلمات مضيئة: من وصايا الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- أنه قال:"إنما أخشى عليكم اثنين، طول الأمل وإتباع الهوى، فطول الأمل يُنسي الآخرة، وإتباع الهوى يصد عن الحق، وأن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة جاءت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل بلا حساب، وإن غداً حساب بلا عمل".. وهناك وما أدراك ما هناك، يوم يحاسب كل إنسان على أقواله وأعماله، فإن كانت صالحة لاقى نعيماً وجنات وأنهاراً.. وإن كانت صالحة لاقى عذاباً أليماً وغساقاً.. وصدق عزوجل القائل:"يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سلم" الشعراء- "88-89". فاغتنموا فرص الحياة في العمل الصالح، وأعمال البر والإحسان قبل أن تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ولكن بعد فوات الأوان..!!