مسألة صعبة ان تكون مسلماً وعربياً هذه الايام، خاصة اذا كنت تعيش في بريطانيا، وتصبح مهمتك اكثر صعوبة اذا كان عليك ان تكتب معلقا او مفسراً للتفجيرات التي استهدفت محطات مترو الانفاق مرتين في اسبوعين. الصعوبة تكمن في كونك متهماً وعليك ان تكون في حال الدفاع عن النفس، دون ان تتخلي عن قيمك وقناعاتك ورباطة جأشك. عليك ان تدافع عن عقيدتك السمحاء، وان تشرح المظالم التي يتعرض لها ابناء جلدتك، وان توضح حتي يبح صوتك بان الارهاب لا يأتي من فراغ وان هناك جذورا سياسية لا بد من معالجتها، جنباً الي جنب مع الاجراءات الامنية والعسكرية. تفجيرات لندن، الاولي والثانية، كانت مرعبة، ولكنها كانت متوقعة، ولن نفاجأ اذا ما تكررت في العاصمة البريطانية نفسها، او عواصم اوروبية اخري، لان الاسباب والاعذار التي يستخدمها من يقفون خلفها ما زالت قائمة، ولا توجد مؤشرات علي وجود نوايا للتعامل معها في المستقبل المنظور. ثلثا الشعب البريطاني، وفي استطلاع اجرته صحيفة الغارديان اليومية اعربوا عن قناعتهم بان هناك علاقة مباشرة بين تفجيرات لندن الدموية والتورط البريطاني الرسمي في الحرب الظالمة وغير القانونية في العراق، ولكن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته جاك سترو يرفضان هذا الربط، ويصران علي عدم وجود اي علاقة، بين المسألتين، وهنا مكمن الخطر علي بريطانيا والعالم الاسلامي، والاقلية المسلمة في اوروبا. معهد بحثي محترم اسمه تشاتام هاوس يضم نخبة من الباحثين الاستراتيجيين معظمهم وزراء ودبلوماسيون وخبراء، اصدر تقريرا قبل اربعة ايام اكد فيه ان التورط البريطاني في الحربين الافغانية والعراقية، والالتصاق المتطرف بالسياسات الامريكية في الشرق الاوسط، هو الذي ادي الي تحول شبكة قطارات لندن ومواصلاتها العامة الي ساحة التفجيرات. الامر لا يحتاج الي دراسات معمقة من معاهد استراتيجية محترفة، للوصول الي هذه الحقيقة التي توصل اليها ثلثا الشعب البريطاني بسليقتهم وعفويتهم، ولكن علمونا في الجامعات البريطانية والغربية الاخري، ان نستمع الي الخبراء والاكاديميين، وننتظر كلمتهم فهي الكلمة الفصل، وها نحن نستمع ولكن اولي الامر لا يريدون، لانهم يكابرون، ويريدون ان يسمعوا ما يطرب اذانهم، ويكرس مواقفهم السياسية! توني بلير، وللأسف الشديد، اصبح يتصرف مثل زعماء الفساد والديكتاتورية في العالم الثالث، والعرب منهم علي وجه الخصوص، فلم يتجاهل فقط تقرير معهد تشاتام هاوس هذا وابحاثه، وانما استدعي مجموعة من وجوه الجالية الاسلامية في بريطانيا واخذ معها لقطات باسمة امام كاميرات التلفزة، وادانوا جميعاً بكلمات قوية الارهاب، بل وذهبوا الي ما هو ابعد من ذلك عندما اصدروا فتوي بتحريم قتل المدنيين وكافة انواع الارهاب. قتل المدنيين مدان، ولا يحتاج الي فتوي، والقرآن الكريم مليء بالآيات الواضحة في هذا الخصوص، وادانة الارهاب باتت من العبارات المقدسة في كل البيانات التي صدرت وتصدر عن جميع المنظمات والجمعيات والروابط العربية والاسلامية، من له علاقة ومن ليست له اي علاقة. رئيس الوزراء البريطاني لم يرد ان يسمع اصواتاً عربية واسلامية تقول له انت عرضت امن مواطنيك للخطر، عندما تحمست لخوض حرب غير اخلاقية وغير قانونية قتلت حتي الآن اكثر من مئة الف عراقي غالبيتهم الساحقة من الابرياء المدنيين الآمنين مثلهم تماماً مثل المدنيين الابرياء الذين حصدت ارواحهم تفجيرات لندن. السير جيرمي غرينستوك السفير البريطاني السابق في الاممالمتحدة ومبعوث بلير الي العراق، وضع كتاباً باسم تكلفة الحرب انتقد فيه قرار حكومته بالذهاب الي حرب بانه قرار غير شرعي سياسياً ، واتهم امريكا بالهيمنة علي الاممالمتحدة. واوضح الكوارث الناجمة عن ادارة العراق في مرحلة ما بعد الحرب. اما سير كريستوفر ماير السفير البريطاني السابق في واشنطن فقد اكد علي الشيء نفسه، وقال في كتاب آخر ان قرار الحرب اتخذ قبل اشهر وبهدف تغيير النظام لا لازالة اسلحة الدمار الشامل. ولا يفوتنا التذكير باستقالة ثلاثة وزراء كبار احتجاجا علي الحرب مثل روبن كوك وزير الخارجية، وكلير شورت وزيرة التنمية الدولية. فاذا كان توني بلير لم يستمع الي كل هؤلاء من اركان مؤسسته الحاكمة، ومن قبلهم كبار العسكريين السابقين واللاحقين الذين حذروه من خطورة خطواته هذه، فلمن يستمع اذن، لجورج بوش حليفه، ام لوحي سماوي لا نعرفه؟ نكرر للمرة الالف، اننا لا نبرر قتل المدنيين، ولا نقلل من خطورة تفجيرات لندن، ولكن نري واجباً علينا، نحن الذين يمكن ان نكون او ابناؤنا، ضحايا لها، وسنعاني من ذيولها ونتائجها، ان نحذر من ان استمرار العناد في المضي قدماً في كارثة الحرب في العراق، سيعني المزيد من الدمار والخراب والتطرف الدموي. اننا لا نشهد صداماً للحضارات، وانما استبداد حضارة غربية منتصرة، ترفض التعامل بقدر من الاحترام مع حضارة اسلامية منهزمة بل مندثرة، حضارة غربية ترفض الاستماع الي مظالم الضعفاء الذين تهيمن عليهم، وتسحقهم بقاذفاتها العملاقة ودباباتها المتطورة وصواريخها عابرة القارات! الحكومة البريطانية التي تميزت في محيطها بقضائها العادل المستقل، وسجلها المشرف في ميدان الحريات المدنية واحترام حقوق الانسان، تخطط لاستغلال حالة الرعب التي احدثتها التفجيرات لاستصدار قوانين جديدة تنسف كل هذه المميزات، مستجيبة لتحريض انظمة عربية ديكتاتورية فاسدة فاشلة، ساهمت بدور كبير، من خلال سياساتها وقمعها، في تصعيد التطرف، وانتشار الارهاب! هذه الحكومات التي انتجت الارهاب كرد علي قمعها او مولت التطرف ومذاهبه، لتصديره الي خارج حدودها، وارضاء للجبهة الامريكية في الحرب الباردة، ترقص طرباً لما يحدث في لندن من نزيف دموي، وتبدي كل انواع الشماتة بقوانين الحريات البريطانية، لانها تأخذ علي بريطانيا انها وفرت المأوي الآمن لبعض مطاردي احكامها القمعية الصادرة عن محاكمها العسكرية البغيضة. من حق الحكومة البريطانية المحافظة علي امنها، وارواح مواطنيها، ولكنها سترتكب جريمة كبري في حق نفسها وقيمها ومبادئها، اذا ما سارت علي نهج انظمة القمع العربية وكممت الحريات وصادرت حريات التعبير لاناس لجأوا اليها لقول كلمة حق ضد سلطان جائر لم يستطيعوا قولها في بلادهم. انها ليست لندنستان وانما حريستان ونأمل ان تظل كذلك، لان ما تتعرض له حالياً مجرد ازمة عابرة ستمر تماماً مثلما مرت نظيرتها الايرلندية، وسيذهب توني بلير، مثلما ذهبت ثاتشر، فقيم الحرية والعدالة هي التي تبقي، وتميز بين النور والظلام. المصدر القدس