الشيخ / الحسين بن أحمد السراجي - لا يدرك المرء قيمة والديه إلا حين يفقدهما أو أحدهما , ولا يتحسر على تقصيره إلا حين يحس بألم المصاب وجوره , ها هو اليوم ظهري قد انكسر أحس وكأن لا ظهر لي . لم يكن والدي العظيم الذي افتقدته ظهيرة الخميس الماضي 19 شوال 1433ه الموافق 6 سبتمبر 2012م ككل الآباء , كان فريداً في أُبوته مميزاً في عطفه وحنانه يعلم ذلك كل من عرفه وجالسه ولو للحظة بسيطة . الأب الطائع لأولاده : كان والداً طائعاً لأبنائه لم يترك لنا فرصة لطاعته ورد الجميل له والقيام بما افترض الله عز وجل علينا من تلك الطاعة . شكوى ولد بوالده : تبرَّمت من أسلوبه وشكوت ذلك لسيدي المولى العلامة / حمود بن عباس المؤيد أطال الله عمره ذات يوم فردَّ عليَّ بالقول : إحمد الله على هذه النعمة من الله تعالى فلو كان شديداً كغالب الآباء فربما لم تستطع الوفاء بما يجب عليك نحوه . مناقب خالدة : أبي ... عاش زاهداً تقياً لم يُدخل بطنه شيئاً من الحرام , ولم يظلم أحداً أو تحمَّل مظلمة لأحد , ولم تخرج من فمه كلمة سوء بحق إنسان طوال حياته , ولم أسمع منه يوماً الحلف بالله أو بإحدى صفاته , ولم تفارق الإبتسامة شفتيه , شبيه السجاد زين العابدين بن علي بن الحسين وحفيده , ولم يترك مالاً أو يدَّخِر منه شيئاً فما امتلكه أنفقه على الفقراء والأرحام والأطفال . إنه حبيب الأطفال فما رأى طفلاً إلا وأعطاه مما معه , وحين لا يمتلك مالاً أو عطاءً يعتزل ويُغلق على نفسه باب غرفته حتى لا يراه أحد . بيوت عفيفة عاشت معتمدة على فضل الله الذي يأتي عن طريقه , أطفال ويتامى ترعرعوا في كفالته , نموذج فريد في صلته أرحامه ومواساته ذوي الحاجة والفاقة . رفق نادر : لم نفتقده نحن فقط .. فَقِدَهُ الجميع النساء والأطفال والحيوانات .. كان مثالاً عجيباً ونادراً في رفقه بالحيوانات , كان يجلس في فناء البيت مرتكزاً على عُكَّازه ومستنداً إلى حجر في وسط الفناء وفي يديه الحبوب وفي منظر بديع تأتي الطيور وتحوم حوله لتلتقط الحبوب من يديه وتتجمع الحيوانات لتأكل مما حوته يداه بأمان وسكينة لا تغادره حتى تنتهي مما معه أو يحضر أحدٌ فتخاف منه .. إهتم بالقطط والماعز والضأن يؤكِّلها بنفسه ويُشرف على غذائها ويطعمها . بُشريات الوفاة : في مرضه الذي لقي ربه به كانت تترآءى له الحيوانات فنراه وقد مدَّ يده في اتجاه معين وأشار بأصبعه إلى جهة ما فنقول له : ماذا ترى يا أبي ؟ فيرد : سبحان الله ما أحلى تلك الحمامة .. ها هو البِسُّ ( القط ) .. إن التَّيس ( الذَكَر من الماعز ) يقف هناك .. ما أجمل هذا الطفل .. حتى الجراد والضفادع والنمل تترآءى له ويشير بإصبعه نحوها . كُنَّا نرد عليه بالقول : هذه الحيوانات التي تحبها وترفق بها جاءت يا أبي لزيارتك . مشاهد مؤثرة : خفيف ظل وخفيف دم لم يُثَقِّل علينا بشيء رغم حبنا ثقالته التي لم نعرفها , ولم يسمح لنا بإعطائه شيئاً فكل شيء يتناوله بيديه .. حتى ليلة دخوله في غيبوبة الموت الذي غيَّبه عنا تناول العلاج بيده المتعبة المرهقة . لم أشهد أو أسمع عن رجل يحافظ على عورته مثله إلا صنوه المولى العلامة الحجة الحسن بن قاسم فما ترك لنا فرصة لمداواته مما يعاني حتى لا تنكشف عورته . في مرضه كان يقبض ثيابه المحيطة بعورته بيده حتى لا تنكشف أثناء تقليبه وحمله . صابر على البلاء بشكل لا نظير له فما اكتشفنا معاناته وأمراضه المتعددة والبلاء الذي صُبَّ عليه إلا في مرضه الذي التحق بركب أولياء الله وأحبائه فيه . خصال فريدة وسجايا نادرة : ماذا أقول عنه والخصال التي حملها تجعل منه علياً عليه السلام في ورعه وزهده وتقواه , وزين العابدين في إنفاقه وعبادته ورعايته , وأيوب في صبره , ويحيى بن زكريا في تواضعه , وحاتم في كرمه , وعمر بن عبدالعزيز في عِفَّته . لم يحمل حقداً ولا ضغينة على أحد , قلبه نظيف وطاهر ما أظلَّت السماء أطهر من قلبه ولا أزكى من صدره ولا أبهى من صورته . غاية في الرقة وآية في الرحمة ومثال في الأمانة ونموذج في السخاء والكرم . مشهد الأمين الواثق : ثلاثة وثلاثون عاماً قضاها عاملاً أميناً مع كبار تجار حوث وحين تخلى عن العمل قال لهم بلسان الواثق : لا أريد منكم المسامحة على شيء أخذته لنفسي , وإنما أطلب السماح مما أعطيته لأبنائكم أو أُنفقته لوجه الله من أجلكم . صديقي الذي افتقدته : ما أحسسته يوماً أباً وإنما صديق حميم عزَّ مثيله في الأصدقاء . أبتي .. وصديقي : ما زلت لا أصدق أن الموت غيَّبك ولن تعود ففي كل لحظة وثانية أمُرُّ على غرفتك أطالع مكانك وأتخيلك مسترخياً على سريرك , جالساً في محلك , تتناول وريقات القات وتشرب الماء وتبتسم في وجهي , أتخيلك قاعداً على سجادتك تصلي بتلك الهيئة متربعاً ,تنتظر أذان الصلاة تُكَبِّر وتُسبِّح .. تحمد وتهلل .. تستغفر وتشكر . . أتذكر دموعك التي تنساب على خدك والصوت المكروب الذي ينتابك كلما زارك زائر أو أبلغناك أن فلاناً أو فلانة يُسلِّمان عليك ويسألان عن حالك . . أتذكرك وأنت تمد يد الضراعة إلى الله تعالى بدعاء يهدُّ الجبال كلما دخلنا عليك أو ودَّعناك عند الخروج فيتهيأ لي بأن لا سوءً أو مكروهاً سيصيب من دعوت الله له . وكلمة ( استودعتك الله ) التي تودعنا بها وأنت على سريرك لحظة مغادرتنا للنوم . . أتخيلك وأنت على مائدة الطعام تُوزِّع ما يُقدَّم لك على من حضر المائدة لا تهناك فاكهة ولا تستلذ بمشروب حتى تنادي أطفالنا ومن في دارنا من الأطفال لتوزعه عليهم . . ( نَجِيْت ) .. كلمة تخاطب بها من قدَّم لك مساعدة أو أعانك على قيام أو قعود , أو أعطاك شيئاً . . أتذكرك وأنت تقاوم المرض والعجز وتتحرك لفتح الباب حين تسمع طرقاً ونحن نتجاهله . . أتذكرك حين تمكث مع الضيف على مائدة الطعام تأكل رغم شبعك حتى لا يترك الطعام حين يجد نفسه وحيداً . . أتذكرك حين تواسي من حضر في ليل أو نهار بما تملكه من فاكهة أو جعالة أو إدام . . أتذكرك حين ترمقني بعينين يتدفق الحب والحنان والعاطفة من جوانبهما ، وحين تخاطبني بلسان التوقير والإحترام وكأني الوالد وأنت الولد . . أتذكرك حين تُوَدِّعني بجسور المواساة والأسى في مصابٍ حلَّ بي , أو تراني على غير عادتي وما تعهده مني . . أتذكرك حين تُهيئُ الأجواء المناسبة لممارسة عملي , حين تطلب من زوجتي وأولادي خدمتي والإعتناء بي بينما لا تسمح لي بممارسة ما تأمر أولادي بفعله لي من فعله معك ،وحين تشعر بألمي ومرضي دون أن أنطق , وتفتح المصحف وتقرأ القرآن وتبتهل إلى الله فأشعر بالرحمات الإلهية وقد غشيتي . أبتي ... صديقي ... ما زلت أقف أمام الأماكن التي كنت ترتادها في الغرفة والحجرة والمجلس وصوتك لا يبارح أُذناي وحديثك النادر القليل لا يفارق مسامعي . أقف غير مُصَدِّقٍ بأني لن أراك في الدنيا , يواسي مصابي بك إيماني المطلق بأن روحك ترتع في ملكوت الله مع أنبيائه وأوليائه ورسله , وأن يوماً سيجمعنا بك في مستقر رحمة الله تعالى ودار كرامته . لست الوحيد الذي يشعر بالحزن والأسى فوالدتي وإخواني وأخواتي وأبناؤنا والجيران والأطفال والأرحام وكل من عرفك حتى الحيوانات تبكيك . وصية : بعد فقدي والدي صرت أغبط كل من لا زال والده حياً وأحثه على القيام بوالده والحفاظ عليه والإستمتاع بخدمته وعدم التقصير حتى لا يندم بعد فوات الأوان . زيارة : أبتي : سلام على روحك الطاهرة , وعلى أعظمك المطهرة , سلام على القبر الذي حواك , والمنزل الذي آواك , سلام على الأب الذي أنجبك والبطن التي حملتك , والأم التي ربَّتك , والمشائخ الذين علَّموك , والأصدقاء الذين جالسوك . سلام على كرمك ودماثة أخلاقك , سلام على تواضعك ورِقَّتك , سلام على قلبك الرحيم ونفسك المطمئنة , سلام على لسانك الرطب بذكر الله , سلام على ابتسامتك المشرقة إشراقة وجهك الملائكي , سلام على الالسن التي تترنم بمحامدك وتتغنى بطيب سيرتك وعطر مسلكك . سلام على الزوجة التي خدمتك , والأبناء الذين قصَّروا في طاعتك وها هم يبكون تقصيرهم وأنت الراضي عنهم كامل الرضا . أبتي .. وصديقي .. طيَّب الله ثراك وقدَّس روحك وإن لي في ذكراك الخالدة أسىً وفي جدك رسول الله صلى الله عليه وآله قدوة . ولدك وصديقك الحزين / الحسين