الشيخ / الحسين بن أحمد السراجي - خواطر ابن حزين ما زلت أنتظر عودتك , لكأني أعيش كابوساً مزعجاً وأتمنى أن أصحو منه لأتوجَّه نحو غرفتك فأجدك أمامي كما هي العادة , تبتسم , تحييني كعادتك , تسألني : كيف كانت ليلتك ؟ فأجيبك فرحاً مسروراً : الحمدلله كنت في كابوس وها قد تبخَّرت ملامحه . لا أعلم لماذا تقودني قدماي باستمرار للوقوف أمام باب غرفتك ألقي نظرة على سريرك أتفقَّدك وأرد السلام عليك وأسألك : كيف أصبحت يا أبي ؟ وحين لا أجدك يجول بصري ذات اليمين وذات الشمال علِّي أجدك في زاوية من زوايا الغرفة أو على سجادتك تصلي وتناجي مولاك . وحين لا أراك تتجه بي قدماي نحو المجلس فلا تمطر عيناي مكاناً بالنظرات سوى تلك الزُوَّة التي كنت تعشقها ولا تحب سواها ولا ترغب المكوث في غيرها . وحين أفتقدك فيها يجول بخاطري أنك ربما دخلت الحَمَّام فأتَّجه نحوه وأقف عنده منصتاً لعلي أسمع صنبور المياه أو صوته فلا أسمع صوتاً ولا يوجد في الحمام أحد . يتبادر إلى ذهني بأنك ربما خرجت الحوش لتتمشَّى فأتحرك صوبه وحين أقف في الناصية الشمالية الشرقية للبيت أرمق الزاوية الجنوبية الشرقية من الحوش – المكان الذي كان يحلو لك المكوث بها فلا أرى إلا فراغاً . وحين أفقد الأمل أحدِّث نفسي بأنك ربما خرجت حوث دون علمي أو تناسيت أنك خرجتها بعلمي ولكن الكابوس قد أثَّر على ذاكرتي فما عُدت أستوعب ما حدث . أتوقف مستجمعاً ذاكرتي وقواي فأعود إلى غرفتك وأمامها تقبضني الكُربة فتغرق عيناي بالدموع وأجهش بالبكاء وأستذكر الكابوس قائلاً : هنا كان أبي مريضاً وعلى هذا السرير دخل في غيبوبة وفي منتصفه جلست أرقب خروج الروح الطاهرة ظهيرة الخميس التاسع عشر من شوال . لقد مات أبي وشاركت في دفنه هذه هي الحقيقة التي لا مناص عنها وما من سبيل سوى التسليم وتصديق ما حدث . لقد سلمت لأمر الله ورضيت بحكمه ونزلت عند مقتضى أمره , تلك سنة الله تعالى في خلقه لكن ألم المصاب وهول الفاجعة لم يفارقاني بعد . أبتي : أبتي .. كلمة تلوكها شفتاي , مرسومة في أعماق قلبي تنير دربي تضيئ أفقي , أخطو نحوها وتخطو نحوي . أبتي .. إليك سلام من قلبي دون كلام , إليك وجهي ينحني بتقدير واحترام , أنت في نظري أنقى من بدر التمام وأعلى من أبراج الحمام , وبين ذراعيك كل الأمان من خوفي ومن غدر الزمان . أبتي .. بك أفتخر , بقلبي حبك مكتمل , أحب نظرة عينيك نحوي , أعشق بسمة شفتيك لي , أحب دوماً فخرك وإعجابك بي , أعشق حبك لثقتك بي . أبتي .. لا أجد من الكلمات ولا الصفات ما يعطيك حقك وما يصف حبك في قلب ولد عاق كنت له مأوى وملجأ وقدوة . أحبك .. أعشقك : أحبك يا أبتي .. هل سمعت هذه الكلمة مني يوماً ؟ هل سبق لي وأن قلتها لك من قبل ؟ أعترف بأنه لم يسبق وأن قلتها لك ولم تسمعها مني وهذا ما يؤلمني ويحز في نفسي , معاتباً روحي يا ليتني ظللت أترنم وأتغنى بها . ها أنا اليوم أعلنها ظاهراً وباطناً .. (( أحبك يا أبتي بل أعشقك )) . ولكن ... ما الفائدة منها وأنت تحت التراب ؟! إنها كصدقة الفطر بعد العيد مالها من ثواب ..!! أبتي وحبيبي : ضياعٌ هو فقدانك ، خسارة فراقك , ألمٌ وفجيعة مصابي بك , مستحيل نسيانك . أبتي وقدوتي : فخري أنك والدي ، وفخر أخويَّ وأخواتي أنك أبوهم , وفخر أمي أنك بعلها , وفخر الجيران أنك كنت نعم الجار , وفخر من جالسك أنه عرفك . يكفيني فخرًا أنك أنت أبي (( المؤمن الصابر المبتلى العطوف )) . أبتي وصديقي : غِبتَ عني فغاب الحنان ، وغاب الأمن والأمان , لكن أساي إيماني بأنك حبيب الله ووليه . أبتي ورفيقي : رحلتَ فرحلَ عنا قلبك الصافي ، وحنانك الدافي . أبتي يا أغلى من أحببت : مازلت في صدمة !! هل غادرتنا حقًا ؟!! هل فارقتنا صدقًا ؟!! هل سألمحك ولو من بعيد ؟!! أم أنني لن أراك من جديد ؟!! صمتٌ يعم المكان ، حزنٌ يسكن الوجدان ، ودموع تنساب على الخدود تعلن الحرمان . أبتي الحنون : مازلت ألمح طيفك المتلاشي , يعزيني فيك مصابي بجدك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويقيني أنك ترتع في رحمة الله . أبتي الذي لا يعوضه شيء : في حياتك كنت أعتبر نفسي رجلاً ليس بحاجة لأحد سوى خالقه , وبعد فقدك اكتشفت أني يتيم وعرفت معنى اليُتْمِ وقد وصلت الأربعين . درس من طفلتي رحاب : طفلتي رحاب .. كان أبي يحبها بلا حدود , فلا يسمح لأحد بأذيتها أو تعنيفها أو حتى تكليفها بعمل , إنها كما يقول (( شفيقة قلبها مملوء بالرحمة )) وهي كذلك حيث تمتلك من الرحمة والمحبة والشفقة والحنان ودوافع الخدمة ما لا تمتلكه الأخريات من أخواتها وبنات عمها وعماتها , وهي كانت تحب أباها أحمد حباً لا يعلو عليه حب , تبادله مشاعره وتقف بجواره تخدمه وتقوده الحمام وتنتظره وتضع له سجادته وتجلس عند قدميه لتُكَبِّسهما وتضع الكمَّادات لهما وتدلك ظهره وتدهنه وتمسح رأسه ولا تغادره عند النوم إلا بعد أن تُوَدِّعه وتحب رأسه ولا تطمئن حتى يقول لها : إستودعتك الله . رأت والدتها وقد تأثرت وأجهشت بالبكاء وهي تقرأ هذا الموضوع أثناء طباعتي له فخاطبت والدتها بالقول – باللغة الدارجة - : يا امه كن حدِّثي نفسك بأن أبي أحمد في حوث , أنا بين اقنع نفسي انه في حوث وارتاح . سمعت كلامها فكان بلسماً يداوي جراحي ومن طفلتي رحاب تعلمت درساً يخفف عني بعضاً من هول المصاب . أبتي : جمعنا الله بك في الفردوس الأعلى على سرر متقابلين , حيث لا يُفرقنا زمان ولا مكان ، عند ربٍ كريم منان .