حشود جماهيرية كبيرة في تعز تندد باستمرار جرائم الإبادة بحق سكان غزة    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    وفاة امرأة عقب تعرضها لطعنات قاتلة على يد زوجها شمالي اليمن    عاجل..وفد الحوثيين يفشل مفاوضات اطلاق الاسرى في الأردن ويختلق ذرائع واشتراطات    مليشيا الحوثي تعمم صورة المطلوب (رقم 1) في صنعاء بعد اصطياد قيادي بارز    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درويش يُحوِّلَ التجربةَ الذاتيّةَ إلى تجربةٍ إنسانيّةٍ!؟
نشر في شهارة نت يوم 05 - 10 - 2017

برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافي أمسية مميزة، في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور مميز من الأدباء والشعراء والأصدقاء والمهتمين بالأدب والثقافة، وذلك بتاريخ 28-9-2017، احتفاءً بالبروفيسور سليمان جبران وتوقيع كتابه (الإيقاع في شعر درويش- نظن كأنه النثر).
تولت عرافة الأمسية رنا صبح، بعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، وقد كانت مداخلات نقدية جادة للكتاب لكلّ من: د. كلارا سروجي شجراوي حول أهمّيّة الكلمة كسلاح سلميّ برموزها في شعر درويش والإيقاع الملازم له، وتحدّث د. حسين حمزة حول التناص والإيقاع في شعر درويش الموزون، ورغم أن قصيدة تتصدر الشعر في السنين الأخيرة، إلّا أن درويش لم يكتبها، ولدرويش تصريحات كثيرة يؤكّد فيها أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. وفي نهاية اللقاء شكر بروفيسور جبران المُنظّمين والمُتحدّثين والحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة أثناء توقيع الكتاب.
مداخلة العريفة رنا صبح: على هذه الأرض ما يستحق الحياة! نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ سِربًا من الكائنات، هتافاتُ شعب لمَن يَصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنيات. حضرات الأخوة الأدباء والمفكّرين والشعراء والناقدين، الجمهور الكريم، مساؤكم طيبٌ وعنبر. يسرني جدّا أن أشارك اليوم في هذا الحفل المبارك، لإشهار كتاب البروفيسور سليمان جبران، تحت عنوان الإيقاع في شعر درويش- نظم كأنه نثر. أحيّيكم وأرحّب بكم في النادي الثقافيّ حيفا، القائم برعاية المجلس الملي الأرثذكسيّ الوطنيّ الذي آلى على نفسه، إرواء الثقافة والذاكرة والتاريخ والقلم.
الأخوة والأخوات، للشعر موسيقاه الموصولة بروح الكلمة وعبقريّتها، وللمساءِ روح تُغري بالشعر، روح تحوّل الوجدان إلى ذاكرة عظيمة، فكيف بالمساءِ حين يكون مقرونًا بمحمود درويش الغائب الحاضر، كما وصفه البروفسور جبران؟ هذا الاحتفال ما هو إلّا تأكيد لمكانة البروفسور سليمان جبران، الذي كرّس عمره لدراسة الأدب ونقده، وفي إعمار الحركة الثقافيّة في البلاد، فوهب حياته للعلم والمعرفة والكتابة والكلمة، حتى نقش اسمه في سجلّ الباحثين الطلائعيّين المُجدّدين المُبتكرين. أسأل الله أن يطيل في عمرك بروفسور، وأن يكون مشوارك الإبداعيّ زادًا ومَعينًا لا ينضب.
محمود الذي لا يزال حتى بعد رحيله يملأ الدنيا ويشغل الناس، وُلد أكثر من مرّة، وانتقل من اسم سقط عليه كما تسقط الأسماء على جميع البشر، إلى اسم صاغه كما يشاء، اسم تتحاور فيه الهويّات، وتتنقّل من حكايات متوارثة إلى مجاز شعري كونيّ الزمن، وتتوزّع عبر فضاءات المكان والزمان. محمود: والميم/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى/ الحاء/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان/ الميم/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته/ الموعود منفيّا، مريضَ المُشْتَهَى/ الواو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى/ ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين/ والدال/ الدليلُ، الدربُ/ دمعةُ دارةٍ دَرَسَتْ/ ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني.
ألقت قصيدة "يُحبّونَني ميّتا" لمحمود درويش: يُحبّونني ميتًا ليقولوا: لقد كان منّا ، وكان لنا. سمعتُ الخطى ذاتَها. منذ عشرين عامًا تَدقُّ حائطَ الليل. تأتي ولا تفتحُ الباب. لكنّها تدخلُ الآن. يَخرُجُ منها الثلاثةُ: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ. ألَا تشربونَ نبيذًا؟ سألتُ. قالوا. متى تُطلقونَ الرّصاصَ عليّ؟ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وَصَفُّوا الكؤوسَ وراحوا يُغنّونَ للشعبِ. قلتُ: متى تبدؤونَ اغتيالي؟ فقالوا: ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً، كي تسيرَ على الأرضِ؟ قلت. فقالوا: لماذا كتبتَ القصيدةَ بيضاء والأرضُ سوداءُ جدًّا. أجبتُ: لأنّ ثلاثينَ بحرًا تَصُبُّ بقلبي. فقالوا: لماذا تُحبُّ النبيذَ الفرنسيّ؟ قلتُ: لأنّي جَديرٌ بأجملِ امرأةٍ. كيفَ تطلبُ موتَكَ؟ أزرق مثلَ نجومٍ تسيلُ من السّقفِ. هل تَطلبونَ المَزيدَ مِنَ الخمرِ؟ قالوا: سنشرب. قلتُ: سأسألُكُم أنْ تكونوا بَطيئين، أنْ تَقتلوني روَيْدًا رُويْدًا لأكتبَ شِعرًا أخيرًا لزوجةِ قلبي. ولكنّهم يَضحكونَ ولا يَسرقونَ مِنَ البيتِ غيرَ الكلامِ الّذي سأقولُ لزوجةِ قلبي.
د. كلارا سروجي شجراوي: من مواليد حيفا. حصلت على لقبِ الدكتوراة بتفوّق من جامعة حيفا منذ 2009. لتلتحق بسلك المحاضرين في جامعة حيفا، في قسم اللغة العربيّة وآدابها، في مجالَي الأدب العربيّ الحديث والفلسفة الإسلاميّة.
الناقد والباحث د.حسين حمزة: ولد في قرية البعنة. حصل على الدكتوراة من جامعة تل أبيب. يعمل محاضرًا في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا منذ 1997، ويشغل حاليًّا منصب رئيس قسم اللغة العربيّة فيها. حصل عام 1996 على جائزة لجنة التوجيه الدراسيّ، وفي 2003 على جائزة وزير الثقافة للمبدعين باللغة العربيّة.
مداخلة د. كلارا شجراوي بعنوان الانفلات من أسر المحليّة والإقلاع نحو العالميّة: أهلا بالجمهور الكريم في نادي حيفا الثقافي. نحتفي اليوم بكتاب بروفسور سليمان جبران: "نظم كأنّه نثر: محمود درويش والشعر العربيّ الحديث".
الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كُتبَت بأوقات مختلفة، لكنّها تمتثل لخطّ سَيرٍ واحدٍ واضحٍ وهو إثبات أنّ الشاعر محمود درويش لم يتخلّ أبدًا عن الإيقاع فالتزم بالتفعيلة حتى في قصائده المتأخرة التي تبدو ظاهريّا نثريةَ الطّابع أو منتميةً لقصيدة النثر. سأتناول مقالًا واحدًا من الكتاب بعنوان "ريتا الواقع والقناع"، كي أتحدّث عن مكانة الشاعر ونزعته الإنسانيّة التي أوصلته إلى العالميّة، بعد ترجمة أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، فالمقال في نظري يُقدِّم مثالًا واضحًا عن تطوُّر شعر محمود درويش من الذاتيّ إلى الإنسانيّ العامّ أو الكونيّ.
لقد أحبّ شاعرُ المقاومة محمود درويش فتاة يهوديّة يساريّة تعرّف عليها عندما كان منتميًا للحزب الشيوعي الإسرائيلي في أواسط ستّينات القرن الماضي. هكذا وُلدَت قصيدة "ريتا والبندقيّة" لتكون ريتا الاسمَ البديل لحبيبته اليهوديّة تَمار بِن عَمي، ودام حبّهما عامَين. نُشرت القصيدة في مجموعته "آخر الليل" سنة 1967.
أهميّة هذه القصيدة متعدّدةُ الجوانب فهي تدلّ أوّلا على شخصية الشاعر المنفتحة على الآخر المختلف، وهو الذي أتقن العبريّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. كذلك، هي دلالة على أنّ الشاعر لم يعادِ اليهودَ كشعب، إنّما تحدّى المحتلَّ والمغتصِبَ لحقوق الشعب الفلسطيني، وإلاّ كيف نفسّر اهتمامَ خصومِه ومحبّيه من اليهود بشعره فكتبوا عنه الدراسات كما ترجموا أعمالَه؟ على الأقل حبّ من باب "إعرف خصمَك". اشتهرت هذه القصيدة في العالم العربي بعد أن لحّنها وغنّاها الفنّانُ اللبنانيُّ المبدع مارسيل خليفة، دونَ العلم طبعا في تلك الفترة بأنّ ريتا الحقيقيّة هي فتاةٌ يهوديّة. ونحن نعلم أنّ القصائد التي يتمُّ تحويلُها إلى أغانٍ تساهم في شهرة الشاعر، كما حدث مع قصيدة درويش "أحنّ إلى خبز أمّي" و قصيدة "أنا يوسف يا أبي".
نشير هنا إلى أنّ القرّاءَ في العالم العربي قد فسّروا ريتا رمزًا لفلسطين المحاطةِ بالبنادق، وهذا بالطّبع ساهمَ في انتشارها. في الواقع، علاقة الشاعر بريتا اليهوديّة توقّفت بعد أن حملت تمار البندقية وتجنّدت في الجيش الإسرائيلي. وعند اكتشافِ قرّاء محمود درويش في العالم العربي حقيقةَ القصيدة أصيبوا بخيبة أملٍ كُبرى، فمن المستحيل في نظرهم أن يحبّ شاعرُ الثورة والمقاومة فتاةً يهوديّة.
من الواضح لنا أنّ الحبّ لا يعترف بالهُويّات القوميّة ولا بالفوارق الدينيّة. لكنّ الشاعر فهِمَ لاحقًا أنّ حبَّه مستحيلٌ ولذلك اختار تغليبَ النضالِ الشعريِّ على عاطفته. في نظري هذه التجربة دفعت محمود درويش نحو مرحلةٍ جديدة باتَ فيها شعرُه أكثر رمزيّة، وابتعدَ عن لهجة الخطاب الجماعيّة المثيرة في قصائده الأولى التي جعلت الجماهيرَ تطالبه بانفعال شديد بأن يردِّد عليهم قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة" المعروفة أيضا ب"سجّل أنا عربيّ…" بينما كان درويش يرفض خاصّة في المراحل المتقدّمة لشعره، لأنّه يهدف إلى تغيير ذائقة الجمهور كي يكشفَ لهم عالمَه الشعريَّ الجديد. أضيفُ إلى ذلك أنّه من غير المنطقيّ أن يردِّدَ الشاعرُ قصيدةَ "سجّل أنا عربيّ" في دولة عربيّة، والتي يخاطب فيها شرطيّا إسرائيليا. هذه القصيدة هي صرخةُ تحدٍّ جماعيّةٍ للاحتلال الإسرائيلي، أدّت إلى اعتقاله سنة 1967.
إذن، ريتا الأولى الواقعيّة تمثِّل عمليّا مرحلةً من مراحل تطوُّر الشاعر في بساطتها وتلقائيّتها وجمالها الرّقيق. لكنّ القصائد الثلاث التالية، عبرَ سنوات مختلفة، والتي حملت اسم ريتا، تمثِّل فعليّا، وليس عن طريق التأويل فحسب، لريتا كرمز ديناميكي، أقصد الرمزَ النشطَ المتحرِّك الخلاّق والمتغيِّر لفلسطينَ الواقعةِ تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما تمثّل اختلاف الأمكنة التي تواجد فيها الشاعر. القصائد هي:
* "ريتا.. أحبّيني"، في مجموعته العصافير تموت في الجليل، 1969.
* "الحديقة النائمة" في مجموعته أعراس، 1977.
* "شتاء ريتا" في مجموعته أحدَ عشرَ كوكبًا، 1992.
على سبيل المثال، كتب الشاعرُ قصيدته "ريتا.. أحبّيني" سنة 1969 قبل خروجه من إسرائيل. فيها نجد أنّ الأحداثَ تقع في الحلم ليؤكّدَ لنا الفرقَ بين ريتا الواقعيّة وريتا القناع أو الرّمز التي يراها في الحلم ويخاطبها ويحدّثها عن هواجسه ورؤاه المستقبليّة بشأن مصير هذا الوطن الممزَّق. لا يذكر الشاعرُ "فلسطينَ" بتاتا، بل يجعل اليونانَ أو أثينا هي المكان، ليكون حرّا بعيدا عن عيون الرّقابة ف"الحبّ ممنوع../ هنا الشرطيُّ والقَدرُ العتيقْ/ تتكسّرُ الأصنامُ إنْ أعلنتَ حبّكَ/ للعيون السود". ويقول أيضا لحبيبته ريتا:
"نامي! هنا البوليس منتشرٌ/ هنا البوليسُ، كالزيتونِ، منتشرٌ/ طليقًا في أثينا"
ويفشل الشّاعرُ في امتلاك ريتا/ فلسطين حتى بعد توسّلاته الكثيرة، فليس بمقدور الشاعر الفلسطيني أن يتزوّج من ريتا إلاّ "حينَ ينمو البنفسجُ على قبّعات الجنود".
تمثّل هذه القصائدُ العلاقةَ المتأزّمةَ بين العربي الفلسطينيّ واليهوديّ الإسرائيليّ، وتبيّن استحالةَ العيشِ المشترَك دون اعتراف اليهودي الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني. ترتسم المعركة بينهما بأنّ اليهوديّ يعتمد المسدّسَ سلاحا له بينما لا يملك الشاعر من أدوات المقاومة سوى الكلمة التي تحاول وصفَ الصّراعِ بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين بأنه "صراع بين ذاكرتين".
لا شكّ في أنّ محمود درويش هو الشاعرُ القوميُّ لفلسطين الذي استطاع أن يكون نجمًا جماهيريّا متألّقا دونَ الامتثالِ لما هو مألوفٌ ومعروفٌ وسائدٌ في الشعر. لذلك يمثِّل شعرُه علامةً فارقةً في الشعر العربيّ المعاصر وفي تغيير الذائقةِ الأدبيّة لجمهور القرّاء. استطاع أن يُسمِعَ صوت الفلسطيني المهجَّر المنكوب الذي اغتُصبَت أرضُه وانتُهكت حقوقُه الإنسانيّة، ويحوّلَ الشعر إلى أداة نضال ومقاومة. إلاّ أنّ نجاحَه العالميَّ قد تحقّق عندما استطاع، في المراحل المتقدّمة من شعره، أن يحوِّلَ التجربةَ الذاتيّةَ والمعاناةَ الفلسطينيّةَ المحليّةَ إلى تجربةٍ إنسانيّةٍ عامّةٍ تثير لدى القارئ مشاعرَ الحزنِ والوجعِ النفسيّ إلى جانب الأملِ والتفاؤلِ والقدرةِ على تغييرِ الواقع غيرِ العادل. هذا لا يعني أنّ قصائدَهُ الأولى غيرُ جميلة، فهو كشاعر موهوب (بالفطرة) منذ أن كان فتًى – فقد أصدر ديوانَهُ الشعريَّ الأوّلَ "عصافير بلا أجنحة" عندما كان في التاسعة عشرة من عمره (سنة 1960) – استطاع أن يفهمَ أهميّةَ الوصولِ إلى الشعبِ البسيطِ، فلا يكون الشعرُ وقفًا على طبقةٍ ما. يقول في قصيدة "عن الشعر" (مجموعة أوراق الزيتون 1964):
"قصائدنا، بلا لونِ/ بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!/ إذا لم تحمل المصباحَ من بيتٍ إلى بيتِ!/ وإن لم يفهم "البسطا" معانيها/ فأولى أن نذرّيها/ ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!"
هذا الشاعرُ المُهجَّرُ الذي عاش في عدّة دولٍ كالاتحاد السّوفييتي ومصر ولبنان وفرنسا عرف كيف يتحاور مع الأساطيرِ والرّموز ومجموعِ الحضاراتِ الإنسانيّةِ التي تعاقبت على أرض فلسطين دونَ أن ينسى أهميّةَ أن يكونَ الشعرُ قريبًا من القلب والعقل معًا، بمعنى أنّه حافظ على المعادلة الصّعبة وهي البساطةُ المعقَّدَة، وفي ذلك نجاحه. لكنّ حبَّهُ لحيفا، بكرملها الشامخ، كانَ خاصّا، فهو مهما أحبَّ من النساء فحبُّه هذا لا يعادل غصنًا من السّرو في الكرمل الملتهب، ومهما أحبّ من الحقول والبحار في البلاد المختلفة فإنّه لا يعادل قطرةَ ماءٍ على ريشِ قُبّرَةٍ في حجارة حيفا. (من قصيدة "النزول من الكرمل"). وتبقى صرخة محمود درويش عالية: آه… يا وَطَني!..
مداخلة د. حسين حمزة: محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر، رغم أنّ هناك مقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصًا "أثر الفراشة" المنشور تحت صفة "يوميات"، و"في حضرة الغياب" تحت صفة "نص"، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هي "أحبك أو لا أحبك". لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك.
لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة "قصيدة نثر"؟ هناك تصريحات كثيرة يؤكّد فيها درويش أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن قال: "أكتب نثرًا على هامش الشعر، أو أكتب فائضًا كتابيّا أسمّيه نثرًا". وأيضًا: "ما دمت أكتبُ نثرًا، فأنا أكتب النثر من دون أن أسمّيه قصيدة". وفي موضع آخر أكَّد: "أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلّا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحبّ الموسيقى في الشعر. إنّني مُشبَعٌ بجماليّات الإيقاع في الشعر العربيّ، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعريًّا إلّا بالكتابة الشعريّة الموزونة".
درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه "شعريّا" وبين التعبير "نثريّا"، فهو شاعرٌ في الشعر وناثر في النثر، فلماذا نُكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثرًا موهوبًا، ولم يكن يُضيرُهُ أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعرًا مرموقًا.
كان صاحب "جداريّة" حريصًا على عدم الخلط بين الأمرين، لكنّه في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله، على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثريّة داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يُصحّح علاقته الشاقة والمُساء فهمُها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها، بل بالإفادة من خصوصيّاتها ومناخاتها.
صادق قصيدة النثر، لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مرارًا بأنّ ما يُكتب من قصائد نثر في العربيّة، أكثر جودةً من أخواتها التفعيليّات، واستثمر علاقات النثر بذكاء شديد، وأخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله، وأدار ظهره للصوت العالي والرمزيّات المباشرة والغنائيّة المُفرطة.
في مستهلِّ ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيّان التوحيدي: "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنّه نثر، ونثرٍ كأنّه نظم". أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثرًا مكتوبًا بالوزن، وفرح حين اعتبر بعضُنا أنّ "في حضرة الغياب" قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعليّ، ولم يُبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثريّة.
درويش تناول نقاط التناص والتضمين والتدوير والأم والأب، وهناك تحوّلات ثلاث في العلاقة مع أبيه، وحين ندرس الشعر العربيّ المعاصر بشفافيّة، نقف على مراحل تطورّه بشكل أكثر موضوعيّة، واليوم نرى أن قصيدة النثر تتصدر المشهد الثقافي.
هناك بعضُ الرموز ظهرت بشكل واضح في مراحله الأخيرة مثل موتيف "الغياب"، وهذا الرصد يساعد على تَبيان مراحل تطوّر درويش الشعريّ، وهي ركيزةٌ أساسيّة في الشعر تدلّ بشكل مباشر على التحوّل في رؤيا الشاعر للواقع الذي يعبّر عنه، وتشكّل جزءًا أساسيًّا في تمثيل تجربته الشعريّة، فالتحوّل الذي طرأ على شعر محمود درويش، يمثّل الانتقال من رؤية الحدث إلى أثر الحدث، ومن التفاعل المادّيّ مع الفعل إلى استشرافه وتأمِّله، ومن الحضور إلى الغياب. قد يكون ذلك تطوّرًا أساسيًّا عند كلّ شاعر كبير، لكنّ درويش مزج بين الخاصّ والعامّ؛ بين جرحه وجرح شعبه؛ بين موته الذاتيّ وبين موت شعبه. وكان الصراع بين الأيديولوجيّ والجماليّ هو شغلُه الشاغل؛ أي كيف يوازن بين معطياتِ القصيدة الحاضرةِ في المكان والزمان، وبين تحويلِها إلى مشروع جماليّ يتقدّم فيها الفنيّ، ويتوارى فيها الآنيُّ الشفّافُ عن الواقع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.