كم هو قاسٍ ومؤلم حين تخلو قلوب البشر من الرحمة، وما هو أقسى وأشد ألماً أن تكون هذه القلوب لأقرب الناس منك.. ليصبح أصحابها جلادون يسومونك سوء العذاب رغم أن المفترض بهم حمايتك من كل سوء ومكروه.. “وديع الوصابي” مأساة حية تأوي إلى رصيف التشرد والضياع كل مساء.. طفولةٌ منتهكة استوطنت كوخاً بائساً على قارعة الطريق.. لاجئ بدون حرب، ونازحٌ بلا كارثة سوى كارثة واحدة.. كارثة الأبوة المشوهة والمنحرفة.. عنوان قصة درامية محزنة في وطن كثرت فيه الأحزان.. حمدي ردمان حل المساء وأسدل الظلام ستاره على العاصمة صنعاء، وعلى رصيف ضيق في شارع فرعي من شوارع منطقة سعوان كان طفل يلملم ما تبعثر من طفولته، وما تبقى له من طاقة، وهو يسير منكسر الخطى.. يحني قامته ويدخل كوخاً ضيقاً قوامه أحجار لا يتجاوز عددها أصابع يديه، وقطعة صفيح.. ويلقي بنفسه على أرض الكوخ فيما تبقى عينيه متجهتين نحو الخارج وكأنه طريد يترقب وحشاً مفترساً يطارده.. وديع يبني كوخاً “المستقلة” تجولت في أعماق الطفل بحثاً عن تفاصيل المأساة ورصدت هذه السطور المؤلمة.. اقتربت منه وقد استولت عليّ مشاعر الدهشة والاستغراب، فسألته عن اسمه، فقال: “وديع الوصابي، عمري عشر سنوات”، أما عن سبب نومه في الشارع بهذه الطريقة، فتكشف اجابته فصلاً من حياته المليئة بالأسى والعذاب قائلاً: “هربت قبل أسبوعين من البيت لأن أبي وخالتي (زوجة أبيه) يضربوني بالسلاسل ويقيدوني ويقوموا بتعذيبي، وليس عندي مكان أذهب إليه غير هذا الشارع، بعد أن اعجبني المكان، فبنيت هذا الكوخ الصغير ليحميني من الشمس والبرد”.. يقيدوني بالسلاسل ترى ما الذي يدفع والد يفترض أن قلبه واحة من الرحمة والعطف والحنان والمشاعر الفياضة بالحب إلى تعذيب طفله بهذه الطريقة الوحشية، يفسر وديع الغموض ويتحدث وأمواج الدموع تتلاطم في مقلتيه المرعوبتين “أبي وخالتي يريدون مني أن أشحت (أتسول) لهم، وفرضوا عليَّ أن أعود إليهم بمبلغ (500) ريال كل مساء، وإذا نقص المبلغ وعجزت عن توفيره يضربوني ويقيدوني بالسلاسل ويضعوا عليها قفلاً، ثم يحرموني من الأكل”.. يا الله!! أية أبوّة هذه التي يتحدث عنها الفتى المسكون بالخوف والفزع، ثم كيف لطفل بهذه السن الصغير أن يتحمل هذا العذاب.. يقول وديع مواصلاً سرد معاناته وآلامه: “ضقت كثيراً بالعذاب الذي أواجهه.. كرهت الحياة بين والدٍ قاسي القلب وخالةٍ لا ترحم، وعندما وجدت الفرصة هربت من البيت.. هربت وأنا مقيد بالسلاسل التي ربطوها على أرجلي.. بقيت يوماً كاملاً شريداً في الشارع ومقيداً بالسلاسل الموجعة، نمت تحت سيارة (خردة) وفوقي السلاسل، وفي صباح اليوم الثاني واصلت المشي إلى هذا المكان.. عندما وصلت إلى هذا الحارة كنت ما أزال مقيداً، أقترب مني أحد شباب الحارة ويدعى “محمد جمال الشرجبي”، قام بكسر القفل وتفكيك السلاسل من أقدامي”.. تعذيب مروع يبدو “وديع” متعباً وهو يروي تفاصيل العذاب التي مر بها، غير أنه يمتلك من الإصرار على مواجهة الصعاب بعيداً عن المنزل أكبر بكثير من سنواته العشر التي يمتلكها، يستعرض أجزاء من جسده التي ما زالت تحمل آثار الضرب والتعذيب ويشرح بعض التفاصيل: “ شوف، هذه آثار الضرب، أنظر إلى ظهري وآثار الضرب التي عليه، كان أبي وزوجته يضربونني بالسلاسل أشد الضرب حتى يخرج الدم من ظهري، وآخر مرة تعرضت فيها للضرب كانت في نفس اليوم الذي هربت فيه من البيت”.. والدة “وديع” ماتت وهو صغير جداً لدرجة أنه لا يعرفها، أفتقد حنان الأمومة التي كان على الأب أن يعوضه ولو جزءاً يسيراً عنها.. غير أن الأب الذي استودعه الله هذا الطفل البريء خان مسئوليته.. كان الأب يذهب بطفله إلى أماكن عامة كثيرة، ثم يأمره أن يقوم بالشحتة والتسول فيها.. وعندما كان “وديع” يعود ومعه المال كل ليلة.. يأخذ الأب منه كل المبالغ التي جمعها.. لكن أتدرون ماذا كان يفعل الوالد بهذه الفلوس؟ هل أجبرته الحاجة أو المرض أو العجز على إجبار طفله على التسول.. يرد وديع على هذا التساؤل بعبارة قصيرة تكشف عمق المأساة فيقول: “كان أبي يأخذ الفلوس ويشتري بها قات وسيجارة”..!! من أجل القات والسيجارة يخسر الأب طفله البريء بعد أن جرعه ألوان العذاب.. لم يكن الأب عاطلاً، كان يعمل سائقاً في إحدى القلابات التابعة للبلدية.. أما وديع فكان يعاني الألم وحيداً فليس له سوى أخت واحدة، وكان بقية الأقارب من الاعمام والأخوال بعيدون في القرية التي ينتمي إليها والده.. وديع في خطر لكن هل أصبح “وديع” في هذا الكوخ البائس آمناً حقاً، بعيداً عن المخاطر أم أنه ما يزال في متناولها، يقول موفق خالد أحد ساكني الحارة “رغم المعاملة الطيبة التي لقيها وديع من سكان الحارة والتي مكنته من بناء كوخ صغير يحتمي به من البرد وحرارة الشمس، إلا أن هناك بعض الأطفال يقومون بمضايقته وتهديده بإرشاد والده إلى مكانه، مما يتسبب بإصابته بالخوف والفزع”.. وطالب موفق من الدولة الإسراع بسن القوانين التي تحمي الطفولة من تصرفات الآباء الوحشية، والإسراع بتوفير الحماية العاجلة للطفل وديع ورعايته بما يليق بطفولته البائسة.. كرهت أبي وخالتي ورغم المخاطر الكثيرة التي تعترض حياته في الشارع يستبعد وديع عودته للمنزل ويقول: “لا.. لن أعود إلى البيت أبداً.. أنا خلاص كرهت أبي وكرهت خالتي”. ويرى مهنة التسول أمراً فرض عليه بالقوة ولن يعود إليه قائلاً: “لا أحب الشحتة أبداً، كنت أستحي من طلبة الناس.. وبعضهم كانوا يسبوني ويذلوني”.. وديع لم يذهب إلى المدرسة من قبل لكنه يؤكد: “نفسي أدرس وأتعلم.. في واحد قال لي أن هنا دار أيتام يمكن يقبلني ويدرسوني فيها” وعن حلمه المستقبلي في حال تمكنه من الدراسة يقول: “أشتي أكون طيار”.. وما بين كوخ صغير في رصيفٍ قاسٍ، وكبينةٍ فارهة لطائرة حديثة تحلق في السماء.. يقف وديع وقد أدار ظهره المليء بآثار التعذيب نحو ماضٍ يسكنه أباً ظالم فقد مشاعر الأبوة، والتفت بوجهه مولياً شطر مستقبلٍ يصعد فيه الكابتن سلم الطائرة محلقاً في سماوات الطموح والحرية.. وفي حال وجد وديع وطناً يتسع لجميع أبناءه ويشملهم بالرعاية والحماية فسيغدو حلمه واقعاً يتربع كبينة القيادة ويدير المقود بنجاح وما ذلك على الله بعزيز..