سنان منصر بيرق في عالمٍ باتت فيه الجغرافيا أضيق من أن تحتمل الصراعات الأزلية، تُطلّ علينا من جديد أزمة الشرق الأوسط الأكثر تعقيدًا، محمّلةً برماد التاريخ ولهيب المستقبل: مواجهة محتدمة، تلوّح من بعيد بين جمهورية إسلامية غارقة في شعاراتها الثورية، ودولةٍ تقتات أمنها على خيوط التوازن والردع الدقيق. لكن حين يُخاطب العقلُ بمنطق القانون، تصبح الكلمات سلاحًا أبلغ من الصواريخ، وتغدو الشرائع الدولية مرآة تكشف من أخلّ بالنظام، ومن ظلّ واقفًا على ضفة الدفاع عن وجوده. هل نعيش لحظة قانونية أم لحظة جنون؟ ما يجري بين إيران وإسرائيل ليس نزاعًا عاديًا، بل هو اختبارٌ صارخ لقدرة القانون الدولي على البقاء في وجه التهور، وهو في الوقت ذاته معيار دقيق لمدى التزام الدول – أو تنصلها – من المبادئ التي تأسس عليها ميثاق الأممالمتحدة. المادة الثانية، الفقرة الرابعة من الميثاق، تُجرّم بوضوح استخدام القوة ضد سيادة الدول، في حين تُجيز المادة الحادية والخمسون الدفاع عن النفس حال وقوع "هجوم مسلح". هنا يتجلى السؤال القانوني الحاسم: من الذي بدأ أولًا؟ ومن الذي تحوّل إلى كيان غير رسمي يتنقل عبر الوكلاء والميليشيات، مستبدلًا الحوار بالتهديد، والسياسة بالفوضى؟ حين تُستخدم السيادة غطاءً لتصدير الاضطراب لطالما كانت السيادة درعًا يُفترض أن تحمي الشعوب لا أن تُستغل لتغذية النزاعات العابرة للحدود. وإن المتتبع الدقيق للأحداث، يرى مشهدًا متكررًا لدولة تدّعي المقاومة بينما تمارس التدخل، تدعم الميليشيات وتسميها "قوى محور"، تصرخ بالحرية بينما تخنقها في الداخل، وتُجاهر بالعداء لكيانات بعينها، فقط كي تُبقي الشعوب في غيبوبة "الخطر الخارجي". بالمقابل، هناك دول تفهم أن الاستقرار لا يتحقق بالشعارات، بل ببناء تحالفات ذكية، والتعويل على القانون كإطار، لا كقيد. الردع ليس جريمة، والسكوت ليس فضيلة قد يُلام من يردّ، لكن التاريخ لا يذكر من التزم الصمت وهو يُستفَز. في العلاقات الدولية، لا مكان للعواطف. هناك فقط مصالح تُحمى، وأمن قومي لا يُفرّط به. وإن كان القانون قد منح للدول حق الدفاع عن النفس، فهو لم يضع شرطًا بأن تنتظر القذيفة الأولى، بل منح لها أن تتصرف حين يتهددها "خطر وشيك" واضح ومؤكد. وهل هناك خطر أوضح من الصواريخ العابرة، ومنابر الكراهية التي تحوّلت إلى مؤسسات؟ حين تفشل المنظمات وتغيب العدالة الأممية مجلس الأمن، ذلك الكيان الذي تأسس ليمنع الحروب، بات في أحيان كثيرة رهينة المصالح المتقاطعة والفيتوهات العمياء. بينما يشتعل حريق في خاصرة الشرق، تكتفي بعض العواصم بإصدار بيانات باهتة، بينما تُحمّل أخرى عبء المواجهة وحدها، حمايةً لعالم يُدرك جيدًا من يُشعل النيران ومن يطفئها. أخيرًا… ليست المعركة بين دول بحد ذاتها، بل بين من يقدّس منطق الدولة ومن يُقدّس منطق الثورة. بين من يحتكم إلى القانون الدولي، وإن اضطر أحيانًا لتوسيع تأويله، ومن يرى في الفوضى مذهبًا وفي العبث شريعة. بين دول تسعى لحماية أمنها، وشعوب تريد أن تعيش، وكيانات تبني مجدها على أنقاض أوطان غيرها. في النهاية، لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء ليدرك أي الفريقين أقرب إلى روح القانون، وأيهما بات عبئًا على ضمير الإنسانية.