أذكر، كنّا، صديقي الدكتور "عادل القباطي" وأنا، في لقاءاتنا المسائية القلقة، في شوارع القاهرة، قبل أشهر قليلة من اندلاع ما سُمّي لاحقاً ب"الثورة"، نتحدث عن طوفان سياسي قادم، ونردد مطلع قصيدة أمل دنقل: جاء طوفان نوح.. كانت اليمن تغرق، ولم تكن ملاحظة ذلك تحتاج إلى كثير من الذكاء، فكل القرائن تشير إلى حتمية انفجار وشيك توفرت عوامله: الحياة السياسية في ذروة تأزمها بعد أن وصل الحوار بين الفرقاء إلى طريق مسدود، البنية النفسية للثورة في كامل جاهزيتها، على وقع الهواجس المحبطة لأزمات الحراك وصعدة والاقتصاد والتنمية.. "كبار المسئولين" أكثر من غيرهم امتلاكاً لقرون استشعار الخطر، وأقدر من غيرهم على استباق الكوارث، بيد أننا لا نحتاج فقط لقرون استشعار العقل، بل لقرون استشعار الضمير.. لقد أدرك الكثير من هؤلاء إلى أين تتجه البلاد، لكنهم من بين كل التصرفات الوقائية الممكنة، انهمكوا بشراء عقارات في عواصم العالم، كأطواق نجاة من الطوفان المبهم القادم..! بخلافهم كان "حمود الصوفي" يفكر ويتصرف بضمير الربّان، لا بغريزة الجرذان المستعدة للقفز عن السفينة الموشكة على الغرق. كان بإمكانه بسهولة الحصول على طوق نجاة، حتى بعد الثورة، لكنه كرجل دولة حقيقي لم يفكر بوقاية نفسه، بل بوقاية اليمن، من خلال استباق العاصفة الهوجاء بعاصفة راشدة، يقوم بها حزبه الذي اختلف معه واحترمه، وإن كان يختلف كثيراً مع نفسه، ولا يحترم جيداً كوادره النوعية النادرة.! تحدث "الصوفي" حينها عن ضرورة قيام ثورة إصلاحية شاملة وعميقة يقوم بها الرئيس صالح نفسه على النظام القديم، ربما كما فعل "السادات" في مرحلة من المراحل. تحدث عن ثورة ضد الفساد والتفكك والتشرذم ومراكز القوى التي تنخر كل مفاصل الدولة وتقوّض كيانها وكينونتها، لصالح دولة قوية مؤسسية وحديثة وديمقراطية.. ثورة مماثلة كان بإمكانها إنقاذ اليمن على حساب النظام القديم، لكن ما حدث أن هذا النظام القديم تبنّى الثورة، وحاول تقديم الرئيس صالح قرباناً لبقائه واستمراره، وعلى حساب الجميع الشعب والدولة والثورة نفسها!. هذا بعض ما لم يقله الصوفي في لقائه الأخير، مع قناة آزال، إنه كان كنبي طروادة، تجاهل قومه إنذاراته المبكرة، وإنه لم يكن سلبياً أنانياً ك"عمرو مزيقيا" لينجو بنفسه، بل ناصحاً مقداماً ك"طرفة بن العبد" الذي نصح قومه بمنعرج اللوى، ولما لم ينتصحوا شاركهم المصير.