بات واضحاً الآن أن الرئيس عبده ربه منصور هادي يسعى جاهداً لإعادة صياغة التاريخ الوطني بدءاً منذ اللحظة التي اعتلى فيها سدة السلطة السياسية في الثاني والعشرين من فبراير عام 2012م.. وما عداه فعرضة للشطب والإلغاء، بالنظر إلى حالة النفي والإنكار المقيتة التي تعتري اليوم مواقفه السياسية والأخلاقية تجاه كل ما يمت بصلة لشخص وحقبة وميراث سلفه الرئيس صالح. ربما لا جدال هنا في أن مسائل كتلك تعد بديهية ومألوفة، ليس في بلادنا فحسب وإنما في أغلب بلدان العالم الثالث، بالنظر إلى رسوخ التقاليد السياسية المحكومة بالعقليات الفوقية والإقصائية المتجذرة في وعي أغلب النُّخب والمجموعات السياسية المختلفة في الحكم والمعارضة على السواء.. إلا أن ما يثير الاستغراب في حالتنا الوطنية الراهنة لا يكمن فقط بالطريقة المتعجلة التي تحوَّل فيها ولاء وتبعية الرئيس هادي لسلفه صالح إلى نوع من العداء الشخصي المطلق والموجَّه على ما يبدو لطمس ميراث سلفه وإلغاء تاريخه ووجوده الرمزي، وبما يوحي صراحة بوقوع هادي فريسة لحالة مقلقة من الشعور الذاتي بعدم الأمان النخبوي.. وإنما بالنظر أيضاً إلى كون مشروع الاجتثاث الذي يستهدف صالح حالياً (على يد نائبه السابق) هو ذاته المشروع الذي بدأت بذوره التكوينية في التشكُّل منذ اللحظات الأولى لتبلور المشروع الانقلابي للإخوان وأعوانهم في فبراير العام 2011م قبل أن يصبح بعد ذلك إحدى اللبنات الأساسية لتصورات بنعُمر الحداثية حول شكل ومضمون ومستقبل دولتنا الاتحادية الذي بدأت تتمزق على ضوئها بلادنا بشكل فعلي تحت وطأة (المزايدات الثورية).. وهنا تبدو الصورة جلية وواضحة، ليس فقط حول حقيقة الأهداف والدوافع الكامنة من وراء عمليات الاستهداف الجائرة والممنهجة للرئيس صالح وهوية الأطراف المتورطة في نسج خيوطها.. وإنما أيضاً في ما يخص زيف الذرائع والمبررات المسوقة في هذا الإطار، سواء تلك المعلنة على لسان الناطقين الغامضين بلسان هادي، أو المتداولة عبر التصريحات الصادرة هنا وهناك من أعضاء حاشيته العريضة، من مطاوعة وغيرهم، حول الفرضيات التآمرية والانقلابية ضد هادي ونظامه من قبل صالح، رغم أن الأحداث ذاتها كانت خير برهان على افتقار هذا الأخير للقدرة والإمكانية اللازمة لحماية مقاره الإعلامية والحزبية وربما منزله العائلي أيضاً.. فكيف به الإعداد والتخطيط للانقضاض على سلطة سبق له أن غادرها طوعاً وعن طيب خاطر.. إغلاق قناة اليمن اليوم بعد اقتحامها ونهب محتوياتها، وكذا حصار مسجد الصالح بتلك الطريقة البربرية من قبل حرس الرئيس، أمور وبقدر ما تنم عن حالة من الشذوذ السياسي الدال عن مدى الجحود والنكران الذاتي الذي بلغه الرئيس هادي تجاه من وفروا له سبل السلطة والنعمة والرخاء وجعلوا منه رئيساً، بقدر ما تثير فينا العديد من الأسئلة الحائرة والملحة حول ما الذي كان يمكن للرئيس هادي أن يجده حقاً لو أنه قام بخطوة مماثلة على سبيل المثال حيال قناة سهيل وجامعة الإيمان.. مع أن أمراً كهذا غير وارد بالمطلق، انطلاقاً من متانة الروابط التآمرية التي تجمع حالياً ما بين (أفندم المرحلة) وأصحاب هاتين الهيئتين التبشيريتين على الصعيد الجهادي.. خاصة مع وضوح الأهداف والدوافع المحركة لطموحات هادي الاستحواذية والرامية لإقصاء صالح والاستحواذ على حزبه (المؤتمر الشعبي العام) عبر القفز اللامنطقي على عجلة التاريخ ذاتها.. وعموماً، وبما أن التطور الحاصل في مجرى الأحداث ذاتها، وبقدر ما يبرز من جهة أولى ثقة هادي المتزعزعة بإمكانية نجاح مسعاه الانقلابي ضد رئيسه وولي نعمته (صالح) لعدم تماسك مزاعمه ورواياته المقلقة حول خطر النظام السابق، بقدر ما يشير من الناحية الأخرى إلى خطأ حساباته السياسية.. وبالأخص في ما يتعلق برهانه على قوى سياسية وحركية (مثل الإخوان وأعوانهم) لن يكون هو الآخر بمنأى عن خطرها الذي قد يطاله في القريب العاجل، وهذا مؤكد لا محالة حدود البقاء الوجودي لشخصه ونظامه السياسي معاً بالصورة التي طالت العديد من أنظمة الحكم الوطنية السابقة له.. بدءاً من نظام الرئيس الراحل عبدالله السلال المنقلب عليه من قبل الإخوان في العام 1967م ومروراً بنظام الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي المنقلب عليه هو الآخر ومن قبل القوى ذاتها في أكتوبر العام 1977م، وانتهاء بنظام الرئيس صالح الذي وفر لهم كل سُبل السلطة والنعمة والرخاء قبل أن ينقلبوا عليه في فبراير العام 2011م.. وهي الحقائق التي تجعل بالنسبة لي من مسألة التعاطي مع فكرة بلوغ القمر يوماً ما بواسطة منطاد بدائي على سبيل المثال تبدو أكثر قبولاً ومنطقية، على الأقل من مغبَّة التفكير بإمكانية بلوغي بأمان حي شعوب أو الحصبة بصحبة ملتحٍ إصلاحي يحمل مسبحة وعصا خيزران.. وإذا كان طموح هادي السلطوي يدفعه إلى الاعتقاد بإمكانية بلوغه القمة على ضوء (نبوءة إخوانجية) فهذا معناه أنه لم يستفد مطلقاً من تجاربه وتطلعاته السادية السابقة التي على غرار ما حدث أبان موجة الاحتراب الأهلي الدموي التي نشبت في جنوب ما قبل الوحدة في يناير العام 1986م حينما أنيطت به آنذاك ومن موقعه كقائد عسكري لمحور أبينشبوة مهمة تنظيم وقيادة أعمال القتل والإبادة الجماعية والوحشية التي طالت بصورة غادرة ومباغتة المئات من أفراد وضباط ومقاتلي لواء الوحدة التابع آنذاك للجبهة الوطنية (الفصيل المسلح والمعارض لنظام الحكم في الشمال).. وهي العملية التي راح ضحيتها في اليوم الأول فقط من الأحداث، أي في الثالث عشر من يناير بحسب ما أذكر، ما يربو على الأربعمائة فرد من خيرة ضباط ومقاتلي الجبهة الوطنية.. والتي انتهت به في نهاية المطاف، أي عبده ربه منصور هادي، شريداً ومطارداً ومنفياً في الشمال وفي ضيافة الرجل الذي كان على رأس النظام السابق ذاته، الذي يسعى اليوم هادي جاهداً لشطب حضوره ومعالمه ورموزه التاريخية من ذاكرة التاريخ الشعبي والوطني بصورة قد لا تختلف نتائجها في نهاية المطاف عن نتائج مغامراته السابقة.. والعبرة وقت الكيل.. الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة