رغم الانتقادات الكبرى التي كثيراً ما أسجلها ضد جماعة الحوثي والتي لا زلت متمسكاً بها، إلَّا أن هذه الجماعة تظل قوة سياسية فاعلة لها وجودها وشعبيتها على الأرض، ويجب التعامل مع هذا الواقع بصورة عملية، خصوصاً في ظل المستجدات على الساحة اليمنية.. والتي لا يصح الوقوف أمامها موقف المتفرج.. لأنها تحصل وتجري في اليمن، بلدنا جميعاً، شئنا أم أبينا يجب علينا التعامل مع الواقع المفروض والقائم بصورة تحفظ مصالح اليمن مستقبلاً بالدرجة الأولى، وتحفظ الكيانات السياسية القائمة بالدرجة الثانية. فمصير البلاد يجب أن تحدده القوى الفاعلة على الأرض، والمتفاعلة والمتعايشة والمحتوية لبعضها، وفقاً لقواسم مشتركة يتم الاتفاق عليها. لا أن تحدده القوى المتفرجة السلبية، ولا القوى المستقوية بالخارج عبر مجلس الأمن أو غيره.. إن أي قوى تفرح وتطبل وتستقوي بتدخلات وتهديدات وأساطيل وبوارج الخارج لهي قوى أقل ما يمكن أن توصف به إلى جانب العمالة والخيانة هي (الدياثة السياسية). ومن العار على اليمن واليمنيين أن يسلموا مصير البلاد لقوى هكذا وصفها وهكذا سلوكها. فمهما كان فلا يزال يوجد باقي كرامة وشرف لدى اليمنيين. ومهما كانت الخلافات والتباينات إلا أن العمالة والخيانة و(الدياثة السياسية) شيء لا يجوز ولا يليق أن يكون محل خلاف أو مساومة من قبل كل اليمنيين. لقد تساهلت القوى السياسية من البداية تجاه التدخلات الخارجية والأطراف المستقوية والمستندة إلى هذه التدخلات والانتهاكات. وكان هذا خطأ جسيماً يدفع اليمنيون ثمنه اليوم. وإذا استمرأنا التساهل تجاه هذه الانتهاكات فسندفع الثمن مستقبلاً بصورة قد لا تخطر على البال. خصوصاً أن التجارب المعاشة أثبتت أن مجلس الأمن إذا دخل قرية أفسدها، وإذا دخل دولة دمَّرها، وكذلك يفعل. وليست ليبيا بالمثال الوحيد على إنجازات مجلس الأمن التدميرية على الأوطان. وكل ذلك يجب أن يعطي عبرة لليمنيين لتحديد موقف متشدد تجاه التدخلات والانتهاكات سواء من مجلس الأمن أو غيره، حتى بعد أن قرر إدخال اليمن تحت الفصل السابع، ولعلَّ هذا أدعى لليمنيين لأن يفيقوا من غفوتهم ويصونوا عرضهم (أقصد وطنهم) من انتهاكات مجلس الأمن. خصوصاً أن مجلس الأمن قد بدأ بالتورط في تفاصيل ودقائق أمور لا داعي ولا مبرر لها، وبصورة قد تعطي نتائج عكسية تماماً، سواء على اليمن أو على هيبة مجلس الأمن، والفضل يعود للمبعوث الدولي وتقاريره التي نفترض أنها قد ضللت مجلس الأمن وأدخلته في منعطفات وأزقة لا داعي لها ولا مبرر لها.. ولعل الأوان لم يفُت بعد. يوجد معيار هام لتحديد مدى وطنية القوى السياسية، وذلك من خلال مراقبة مواقفها وحساسيتها تجاه التدخلات والانتهاكات الخارجية.. فمن قوى ترفضها وتتعامل معها كأمر واقع مفروض.. إلى قوى تستدعي هذه التدخلات وتستقوي بها على الشعب وعلى مختلف الأطراف السياسة. بل أنها لا تستطيع العيش أو البقاء من دون هذه التدخلات والانتهاكات الخارجية. من خلال هذا المعيار يجب النظر إلى مختلف القوى السياسية، وتحديد المواقف منها، وبالتالي إعادة التحالفات والاصطفافات بناء على الأرضية المشتركة الجديدة للقوى السياسية التي لا تقبل الانتهاكات الخارجية لسيادة واستقلال البلد بأي صورة ومن أي نوع وتحت أي مبرر. تلك هي الأرضية المشتركة التي ينبغي البناء عليها عند أي تحالفات مستقبلية ممكنة.. رفض انتهاك سيادة واستقلال الوطن. ولكن حتى ولوك أنت هذه هي الأرضية المشركة فلا يمنع ذلك من تحديد قواسم مشتركة أخرى تحفظ استقرار اليمن مستقبلاً، وتضمن عدم نشوب صراعات بين أطراف التحالفات التي قد تنشأ أو تفرضها الظروف بين لحظة وأخرى. توجد حقائق نعيشها على الأرض لا بد على المؤتمر والمؤتمريين من مواجهتها واستيعابها بكل جرأه. الحقيقة الأولى: أن المؤتمر الشعبي العام وقيادته يعيشان فترة من الخمول والجمود السياسي بسبب التهديدات الخارجية والتربص والرفض الأممي لممارسة الرئيس صالح والمؤتمر بشكل عام للسياسة.. ففي حين لم تستطع قوى الإخوان فرض العزل السياسي على الرئيس السابق وحزبه وأنصاره. إلا أنهم استطاعوا، استقواءً بالخارج، تجميد كل أنشطة المؤتمر الفاعلة على الأرض بصورة سببت فراغاً كبيراً في الساحة السياسية. وهذه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها. الحقيقة الثانية: أن هذا الجمود والخمول والفراغ الذي تركه المؤتمر أعطى الفرصة لقوى جديدة لشغل هذا الفراغ بصورة فاعلة. تمثل ذلك في تصدي الحوثي القوي للحكومة وأدائها السيئ غير المسبوق. هذا التصدي الذي كان من المفترض أن يقوم به المؤتمر ولكن للأسباب السالفة لم يفعل. الحقيقة الثالثة: إن تصدي الحوثي لفساد الحكومة ورفضه للجرعة ودعمه ورعايته للثورة ضدها أكسب حركته زخماً جماهيرياً كبيراً من خارج تياره السياسي المعروف ب(أنصار الله)، تمثل ذلك الزخم في الكثير من القواعد والأنصار المؤتمريين الذين تحركوا بصورة عفوية (ودون توجيهات مؤتمرية) تأييداً للحراك ضد الحكومة وفسادها وعبثها. لقد انتظر أنصار المؤتمر موقفاً من حزبهم تجاه كل الجرائم الوقحة التي تحصل بالبلد ولكن دون جدوى، فكان أن لبَّى الكثير نداء الحوثي نتيجة للجمود الذي وقع فيه المؤتمر.. ومع أن المؤتمر لم يكن موجهاً لأنصاره بالتحرك إلا أنه ليس رافضاً لهذا التحرك، على العكس من ذلك. ولكن توجد حقيقة أخرى يجب على المؤتمر أن يتنبه لها وبكل جدية. الحقيقة الرابعة: إن استمرار المؤتمر في حالة الجمود والخمول والسلبية، والحيادية تجاه كل ما يجري بحجة الحفاظ على مسافة واحدة من كل الأطراف.. هذا موقف سيتسبب في خسارة المؤتمر بصورة أكثر. يجب على المؤتمر أن ينظر إلى أنصاره الذين يتحركون مع الحوثي، وإن كان راضياً عن تحركهم، لكن يجب أن ينظر إليهم كشعبية وكأنصار وكقواعد بدأت تنساب من بين أصابع المؤتمر بسبب ورطة الخمول والجمود التي وقع فيها ورضي بها. إن استمرار المؤتمر في حالته السلبية سيتسبب في انفضاض أنصاره عنه والاتجاه نحو تنظيمات وتيارات بديلة لمواجهة القوى التي أكثرت فساداً في البلاد، ولعل اتساع قاعدة الحراك الحوثي أبلغ دليل على ذلك. أما الحقيقة الخامسة: لكي يحافظ المؤتمر على قواعده وأنصاره يجب عليه الخروج من حالة السلبية الخمول التي يعيشها وبناء تحالفات جديدة تعيد الحيوية إلى الواقع السياسي العام للبلاد. يجب على المؤتمر أن يقرر وأن يختار، إما الانحياز للشعب، وقواعده جزء من هذا الشعب بطبيعة الحال، أو الرضوخ للتهديدات الخارجية وخسارة كل شيء مستقبلاً. لا يجب أن يركن المؤتمر إلى رصيده وتاريخه النضالي ظناً منه أن هذا سيخدمه.. بالعكس إن مستقبل المؤتمر ستحدده مواقفه السياسية الحاسمة في أوقات الشدائد ولن يحدده تاريخه مهما كان هذا التاريخ مشرفاً، وهذه الحقيقة التي يجب على المؤتمر والمؤتمريين فهمها واستيعابها، ومن ثم النظر إلى الأزمة الراهنة كأزمة وجودية لكيان المؤتمر الشعبي العام، وهي كذلك بالفعل. يجب على المؤتمر أن يحدد موقفاً صارماً لا تأويل فيه تجاه كل القضايا التي تمس الوطن والمواطن، دون النظر إلى أي تهديدات أو ضغوط داخلية أو خارجية.. كما يجب عليه إعادة التموضع والتحالف مع القوى السياسية التي تفرض نفسها على الواقع بصورة لا يمكن تجاهلها، بل أن الحكمة تقتضي التعامل معه واحتواءها وترويضها لمصلحة البلد ككل. يجب فتح حوار علني وجدي لتحديد قواسم مشتركة بين المؤتمر وبين هذه القوى بما يحفظ البلاد من أي انقسامات قد تحصل مستقبلاً. هذه القوى لا يجب أن تبقى وحيدة في مواجهتها السلمية ضد الحكومة وداعميها، ولعل السلمية هي أحد القواسم المشتركة التي ينبغي الاتفاق عليها، وفي نفس الوقت لا يجب الانضمام إليها بطريقة عمياء وكأن المؤتمر والمؤتمريين يسلمون رقابهم لهذه القوى الجديدة، كما حدث مع القوى السياسية التي سلمت رقابها للإصلاح والإخوان المسلمين عام 2011م. إن أي اتفاق قد يجمع المؤتمر مع قوى سياسية ناشئة وفتية وموجودة على الأرض وفق قواسم مشتركه وطنية وواضحة وغير قابلة للبس والتأويل من شأنه أن يحفظ البلاد من أي صراعات مستقبلية محتملة، خصوصاً بعد اجتياز تحدي الحكومة الحالية.. وحينها لن يسع الدول العشر والمجتمع الدولي ومجلس الأمن سوى الاعتراف بالواقع الجديد والتعامل معه ومباركته.