سيغضب طفليّ لأني بُحت بسر خطير، وقلت للناس اسم أمهما!، هكذا نحن أيضاً أنا وإخوتي، كان اكتشاف اسم أمي يشعرنا بالحرج وما يشبه العيب، وقبل أن أعتذر لفلذتيّ "عدي وقصي" عن جرأتي في عنوان هذه التناولة الأسيرة لما قد يصيبهما بالإحراج من زملائهما ورفاق حيهما الصغار، أبرر ذلك بأنه اضطرار السجن الذي وصل إليه يوم الحادي عشر من مارس وأنا بداخله وخلف أسواره وقيوده وسجانيه. - في مساء ذلك اليوم قبل عشرة أعوام مددت يدي لمصافحة شيخ وقور وعظيم وافق على تزويجي لابنته التي عشقتها وأنجبت منها طفليّ المذهلين، ومر عَقد على ذلك اليوم التاريخي وجدني الحب فيه أسيراً بمحبسي لدن جماعة لا تعرف العشق أو الغرام، لم تقرأ عن الغزل وأبيات نزار، لم تسمع نداء "قيس" ولوعة "روميو"، جماعة لا تحب شيئاً ولا تحسن إلى أي كائن في الأرض، تكره "يزيداً" وقد أنجب قصيدة في وصف جمال محبوبته مازال العالم يتذكرها ويرددها منذ أربعة عشر قرناً، وهُم يلطمون وجوههم ويشقون جيوبهم ويطعنون أجسادهم، ويصرخون للثأر والانتقام والكراهية، فينتصر عدوهم ببغضه وفحشه وفسقه عليهم وعلى موروثهم الغاضب، يعيش خالداً في قلوب المحبين وبين أسطر الرسائل المرتعشة!. - قبل مائة وعشرين أسبوعاً أصبحت "عبير" زوجتي، غادرت منزلهم في المساء محشواً بالزبيب واللوز والأسئلة، سهرت طويلاً إلى الفجر.. تناولت القات وضحكت مع أصدقائي واستمتعنا بمشاهدة أفلام المغامرة الأميركية، وفي الصباح ارتديت ملابسي وذهبت لحضور حفل صاخب بمدرسة ثانوية، ثم التقيت بطاقم قناة "العربية" الذي زار مدينتي للبحث عن وجوه وأشخاص يتحدثون إليهم عن قضايا الثأر، كنت أنيقاً، صعدنا إلى جبل "هران" وتحدثت إلى القناة، و"حمود منصر" يسألني عن واقع المدينة، كنت خجلاً وأردت أن أقول له أني عقدت قراني وسأتزوج بعد أربعة اشهر، مازلت أتذكر تفاصيل كل شيء، واسم أغنيتي المفضلة في ذلك اليوم.. وأحلامي وضحكاتي لحديث "الغربي عمران" عن أيامي كعريس مع وقف التنفيذ!، وكيف تكون طرائق الغزل والتواصل بالحبيبة وهي في منزلهم، البحث عن ذرائع لسماع صوتها، إلا أن كل شيء لم يحدث.. كنت خجولاً كثيراً، ومنهمكاً في إصدار صحيفتي المحلية، بعد أسابيع جاءني هاتف من والدها يعزمني على طعام الغداء، تأنقت كثيراً وتأبطت ذراع والدي وعمي الطبيب، وذهبنا سوياً، كنت نجماً جديداً، العريس الأخير للفتاة الأخيرة من خمس نساء، دخل عمي إلى ديوان الضيوف، وأشار بأصبعه وتحدث بالفصحى "انهض يا بُني"!، أتذكر سخونة أذناي، ارتباكي. وابتسامة الحاضرين.. شعرت بكف والدي يربت على ظهري، وقد ابتسم والدها وهو يقودني إلى غرفة مجاورة.. أسمع همس نساء خلف ستارة بيضاء، ارتبكت أكثر.. فُتح الباب.. سرير ومجلس صغير ودولاب خشبي، الستائر أنيقة وجديدة، ورائحة بخور جميل، تبعني والدي وعمي، وفجأة.. دخلت "عبير" برفقة والدها، وفي يدها كأس عصير أحمر قدمته على استحياء وقالت : مبروك!، لحظات كأنها دهر.. ابتسمت: الله يبارك فيكِ!، تقدمت وصافحت أبي وعمي وقبلت جبينهما، طلب والدها خروج الجميع وتركنا وحيدين.. أغلق الباب، جلسنا على السرير، ضاعت كل العبارات التي حفظتها في رأسي، نسيت.. تلعثمت، قفز سؤال غبي إلى رأسي : هل تخرجتِ من كلية التربية؟ هزت رأسها وقالت بصوت خفيض: نعم!.. ثم صمتت، وأنا ساكت كصنم!، يدي تمتد لشرب العصير، أراقبها.. هذه المرة الأولى التي أجلس فيها مع فتاة.. كنت أريد تقبيلها بصورة خاطفة، حاولت لمسها، أصبت بالشلل.. لا شيء لا حرف لا زفير ولا شهيق، صوت مزلاج الباب.. يطل والدها وخلفه عمي يتمازحان ضاحكين.. ويطلبان مني الحضور لتناول الغداء.. نحن ننتظرك!، ودعتها بكلمة واحدة: إلى اللقاء!، أكلت بهدوء، حاولت إثبات أناقتي. شوكة وسكين، كنت سعيداً ومشرقاً، تمنيت لو أني معها أتناول الغداء الشهي. - هل ترون.. كم هي الحياة مؤسفة حين يتدخل المجانين في حياتك، يأخذونك آمناً، يقتادونك إلى المجهول، وهم في نشوة مما يفعلون، ويمر عليك يوم عقد قرانك.. ذكراه العاشرة، وأنت في غياهب الجُب بعيداً عن محبوبتك وعشيقتك ووطنك وربيبتك وأم أطفالك، أتذكرها الآن كأنها أمامي.. أبتسم، أشعر بدفء أحضانها، أُحلق في سماء السجن.. أعود إلى منزلي، طفلاي نائمين كملاكين طاهرين، أفتح باب غرفتنا وأجدها كما هي في إقبالها عليّ بابتسامة واسعة ووجه مشرق، تطوقني بيديها، وتقول لي: لا تحزن إن الله معنا!. .. عيد قران سعيد يا زوجتي الحبيبة..! * السجن المركزي بمدينة ذمار - اليمن - 11 مارس 2015م