على عتبات ذلك المنزل القديم، ومع نسمات الفجر الأولى من احدي ليالي الخريف تعالت صوت خطواتي على درجات تلك البناية العتيقة في أحد أحياء مصر القديمة حتى توقفت متحسسا ذلك الغبار الكثيف على الباب ثم شرعت أدس المفتاح وأديره في بطء، لينفتح مطلقا ازيزا خفيفا ، ولم أحرك ساكنا لبرهة من الزمن مراقبا فيهaا المكان بعينين شبه دامعتين، حتى اتجهت بخطوات بطيئة وثقيلة إلى غرفتي الخاصة، في ركن المنزل فبعد كل هذه الأعوام والسنين ... جئت ازور المنزل والمدهش أن ذاكرتي كانت مزدحمة بالذكريات . في كل ركن وزواية من هذا البيت بل كل ضحكة وبسمة داخل كل حجرة . وها أنا ذا ، جئت اليوم اطلب السكينة بعد شجار كبير بيني أنا وبين زوجتي منال أردت أن أعود إلى ذاتي ولو قليلاً، بعد طول فراق عدت مجددا لاتوقفت في الردهة عدة دقائق، أتأمل صورة أبي الراحل وأتذكر آخر كلماته التي ما زالت تدوي في أذني، حتى عادت الدموع لتزغلل الرؤية من جديدً كان دائما ما يجدني أبي ولدا فاشلا لم تشأ له الأقدار أن يرى ما مدى النجاح الذي قد وصلت إليه بعد أن وافته المنية مسحت دموعي في سرعة لاعطي ظهري للوحة، وجلست على الكرسي الخشبي المزين بالأصداف والارابيسك والأحجار أسفل الصورة غير عابئ بالأتربة، مطرقاً برأسي للاسفل مفكراً فيما وصل بي الحال كم أصبحت تعيسا !! حققت من النجاحات مالم يحققه احد ولكنى كنت في منزلي من أتعس المخلوقات لم يكن هناك أي توافق بيني وبين زوجتي، أو حتى اطفالي لم اخرج أبدا من ثوب الرجل الشرقي الجميع يحترمني ويهابني لكنى لست سعيدا ... فقد كنت احتل تلك الصورة صورة أبي ... حتى زوجتي كانت تعاشرني على الفراش لترضيني فقط كانت تخرج الأصوات التي أحبها دون أن اعرف ماالذي يدور في خلدها عصفت بي الأفكار كثيراً حتى أطلقت زفرة حارة، ونهضت لأتوجه إلى غرفتي مرة أخرى ودون تفكير ... استلقيت على أرضية الحجرة متجاهلا كل شيء لأنظر إلى اغراضى المبعثرة أسفل الفراش، ليقع بصري على الصندوق ابتسمت في فرحة صبيانية وأنا أمد يدي لأخرجه في لهفة وجلست أتأمل الصور على مختلف المراحل الزمنية وأتذكر بعض المواقف واضحك بمفردي حتى أدركت أنى سأمكث كثيراً فأخرجت محفظتي و هاتفي المحمول وألقيتهم في إهمال على السرير وخلعت حذائي، وأسندت ظهري على باب الحجرة وأنا نصف مستلق على الأرض واضعاً الصندوق على ركبتي واخرج محتوياته شيئاً فشيئاً واستغرقنى الوقت كثيرا حتى أنني لم اشعر بشئ حتى بعد أن أفرغت كل الصور ليقع بصري على تلك العلبة الصغيرة ... المخملية ابتسمت في حنان وأنا أتذكر تلك الهدية والتقطتها في عناية وأنا انفث ذرات التراب من عليها وأتحسسها في رقة لألقي النظرة على الخاتم الذهبي الذي يرقد ساكنا متألقاً، كما تركته دون أن تظهر عليه علامات الزمن الطويل فقد كانت تلك هديتي الأولى والأخيرة التي لم اقو على إرسالها إلى صاحبتها يوما. إسراء صديقة عمري ... وحبيبتي ... وصديقة المراهقة ابتسمت بالرغم مني عندما توقف تفكيري عند النقطة الأخيرة. وأنا أتذكر المرة الأولى التي قابلتها بها... عند باب حجرتي وهي تقدم لي العصير مازلت أتذكر ابتسامتها واحمرار وجنتيها ، وارتباكها وهي تركض متعثرة في كل شيئ صادفها حتى اعترتني رغبة عارمة في رؤيتها ... دون مقدمات أسرعت أعيد كل شيئ في مكانه إلى الصندوق في عناية وأغلقته في أحكام ... ونهضت محاولا إزاحة الغبار الذي لصق على ملابسي وفتحت باب المنزل لأطرق باب الشقة المقابلة ثلاث طرقات سريعة كما هي عادتي دائماً ... لأجد فتاة صغيرة ، جميلة ، شقراء الشعر تفتح الباب وهي تحمل قطعة من الشوكولاتة وهي تقول لي في براءة : من أنت ؟ تطلعت إليها وتفحصت ملامحها في دقة وأنا أجيبها ببطء : أنا أستاذ مدحت يا صغيرتي ... هل يوجد احد هنا ؟ تركت الطفلة الباب لتهرع إلى الداخل تنادى والدتها، والأفكار تعصف برأسي في سرعة وظللت على وقفتي متجمدا وأنا أمد رقبتي للأمام انتظر القادم المجهول، وانعقد حاجباي في شدة حتى كادا أن يمتزجا سويا عندما سمعت صوت أقدام أنثوية خافتة، وارتفعت دقات قلبي حتى انفرج الباب وظهر من خلفه وجه ملائكي جميل، شعرت للبرهة الأولى اننى اعرفه وحدقت هي الأخرى في ملامحي عدة ثوان، حتى تهللت أساريرها فجأة وهي تهتف في سعادة : أستاذ مدحت ! وخطت خطوتان خارج الشقة وهي تصافحني في حرارة وأنا لا ادعى ماذا أقول وأنا اجهلها ... فشدت الفتاة على ساعدي وهي تشدني قائلة في مرح وفرحة : تفضل يا أستاذ مدحت ، ألا تذكرني ؟... أنا هند شهقت في دهشة وأنا أتأملها وارتفع حاجباي المعقودان لأهتف بدوري : هند، معقولة ... لقد اصبحتي امرأة ناضجة ؟ ضحكت هند في صوت صافي وهي تضع يدها على فمها وتجيبني : وهل يبقى كل شيء على حاله ، المهم كيف حالك وأين كنت طوال هذه السنوات ، أتدرى ... لولا أن أختي إسراء تحتفظ بالبوم الصور الخاص بها ... لما تعرفت عليك الآن ؟ ابتسمت في رصانة بعد هذا الانفعال وأنا أحاول أن أتمالك نفسي بعد أن ذكرت هند اسم إسراء وأنا أجيبها بالمقولة الشهيرة في هدوء : الدنيا تلاهي ياهند أومأت هند برأسها مقتنعة وهي تدعوني للجلوس في غرفة الضيوف وهي تنادي على طفلتها بصوت عالي : تعالى يا شوق لتلقي التحية على أستاذ مدحت جاءت الصغيرة وهي تجر عروسها خلفها على الأرض وترفع كفها عالياً مطلقة ضحكاتها الطفولية الجميلة، فأخذتها بين أحضاني لأرفعها عاليا وأداعبها، ثم التفت إلى هند وأنا اسألها : هذه ابنتك بالتأكيد، بارك الله فيها ارتفع حاجبا هند في دهشة ، ثم انفجرت ضاحكة وهي تجيب : أتمنى هذا ... ولكنها ابنة أختي إسراء يتبع....