يقع المبنى الذي تقيم فيه مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة معرضها السنوي للكتاب؛ في الجهة الشمالية من مدينة تعز حيث تسيطر مليشيات الإصلاح ،وكان مؤكداً منذ اللحظة التي شاع فيها خبر مشاركة إحدى دور الكتب المهتمة بالفكر الزيدي والشيعي ضمن المعرض هذا العام أن قواعد وأنصار الإصلاح وسلفييهم سيحولون دون ذلك بشتى الطرق... وقد تم لهم ما أرادوا! فيما لو أقيم المعرض في الجهة الجنوبية من المدينة وكانت كل دور الكتب المشاركة وهابية صرفة فإن أيام الفعالية ستمضي هادئة وسلسة وبلا منغصات... ليس لأنه لا خصوم للوهابية هناك، بل لأن حالةً اجتماعية من التعايش المتعدد المتسامح والمتمدن تسود الأحياء الجنوبية للمدينة بحيث يمكنك القول إن تعز بوصفها فضاءً مدنياً تتبدى من خلال هذا النسيج وفيه أكثر سطوعاً منها في الأحياء التي نشأت كخليط قروي أُسري متجانس! ينبغي التأكيد بدءاً أن الفرز المذهبي الطارئ ليس انعكاساً لمزاج مجتمعي سائد في تعز بطبيعة الحال ؛ بل هو صناعة سياسية "باراسيسيولوجية" واستدعاء خارجي تراهن فيه السلطة على تنمية متعثرة ومدينة تنشأ بمنأى عن التخطيط السليم والتخديم في ظل أداء حكومي جبائي محض لا حضور له ولا بصمة نوعية على أي مستوى يمس حاجات المحكومين! تستشعر القوى التقليدية المسيطرة في الظل والتي تضعضعت سلطتها نسبياً بفعل احتجاجات فبراير 2011م، خطورة كون البنية الاجتماعية لتعز بنية انتقالية متجاوزة لخناق الروابط القبلية والمذهبية والمناطقية الضيقة، الأمر الذي يجعل من احتكامها على غير قاعدة المواطنة ولغير فضائها الرحب متعذراً، وإن بدا أنها رضخت فمرحلياً... إن شبح هذه الحقيقة يفسد على القوى التقليدية المسيطرة هجعتها التاريخية الهانئة على كاهل البلد ويشير بقسوة إلى تفسُّخ نسيجها التاريخي ويضعها أمام خيارين: إما الرضوخ لجدلية التحوُّل المستمر أو كبح عقارب الساعة.. إن عملية الشحن الطائفي الذي تزاوله المنابر الدينية والإعلامية المستحوذ عليها من قبل السلفية الإخوانية الوهابية كغطاء ديني وسياسي للقوى التقليدية هي إحدى أبرز محاولاتها المستميتة لكبح تروس الزمن ووقف حركة التاريخ، لصالح إطالة أمد سيطرتها المهددة بالزوال.. الهدف الجوهري الموارب من عملية الشحن تلك ليس الدفاع عن "تعز السنية"- بحسب وصفهم- إزاء "خطر التشيُّع الداهم"، بل تشتيت انتباه مجتمع المدينة عن حاجته للمواطنة كقيمة أساسية ومبدأ، مثَّل حافزاً رئيساً للانتفاضة كما وكَسْرِ اصطفاف أبنائها المناضلين في سبيله عبر استدراجهم إلى معارك قذرة وحروب فتات يجهزون خلالها على أنفسهم بأنفسهم، ومن ثم تتشظى المدينة إلى مجموعة أقبية وكانتونات ملغومة بالكراهية والذعر واللاآدمية تديرها القوى المسيطرة في الكواليس وتستمد منها شرعيتها وديمومتها.. لقد عملت هذه القوى المذعورة من مشهد التلاحم الإنساني والوطني الذي جسدته الانتفاضة في أسابيعها الأولى، على تفتيت هذا النسيج بصورة مباشرة من خلال قذفه بنعوت مناطقية وطائفية مبتذلة علناً، وبصورة غير مباشرة بالانضواء فيه وتحت مطالبة كمجال لإدارة صراعاتها الفوقية المحدودة عبره وإفراغه من مضامينه النقية والتكسُّب باسمه.. بوسع المراقب الحصيف- في تعز تحديداً- أن يلحظ ذلك التماس الافتراضي المصطنع الذي بدأ كعلامة مكانية تشير إلى تجمهرين ينشد أحدهما التغيير في الجهة الشمالية للمدينة وآخر في الجنوبية يهتف لبقاء الوضع كما هو عليه.. لقد عملت القوى المسيطرة بتوافق لئيم على أن يتسع هذا التماس ليصبح شرخاً اجتماعياً وقبلياً ومذهبياً يشطر جسد المدينة إلى ضفتين متباعدتين نفسياً تجري تغذية كليهما بصور مفبركة عن الأخرى وتفخيخهما بهواجس عصابية شوفينية مريضة.. الكارثي أن هذا الشحن لا يزال قائماً ويطرح ثماره المقيتة على هيئة غزوات خاطفة متقطعة تشنها السلفية الوهابية ذوداً عن "حياض السنة" ضد "الروافض"، أو الفئة الجهوية المسلحة التي جرى تكريسها كرافعة "قبلية" لقبيلة افتراضية لا وجود لها وك "حامية للمدينة" التي خذلتها مؤسسات الدولة المعنية باستتاب الأمن وحراسة الفضاء العام.. تضعنا تداعيات المواجهات الراهنة بين "الشوافي – البرطي" و"مرزح – قراضة" في صورة السيناريو اللئيم ذاته... إن استدعاء ملفات الدم والخلافات الاجتماعية التافهة وتضخيمها وتأجيجها ومَدِّ أطرافها بوقود الاحتراب والحرص على عدم حسمها هي الآلية القديمة الجديدة التي تَسُوسُ بها السلطة محافظة تعز وتضمن بقاءها قيد السيطرة ...ليس بوسع الآلة العسكرية الرسمية إخضاعُ المدينة لسلطة مراكز القوى ؛ لكن "تعز" وحدها بوسعها أن تُخضع "تعز" لمشيئة تلك السلطة وتمنحها أسبابَ البقاء حين تقع في فخ الاحتراب تحت لافتة المذهب أو القبيلة! أشعر بفرط الألم لمجرد تناول مجريات كهذه واستقطابات لا صلة لها بمزاج المدينة الحضري المتسامح والمنفتح، الذي تنجح مسوخ المقابر يومياً في إلحاق المزيد من الخدوش به.. إنني أحد أبناء تلك المديرية التي قدمتها السلطة وتقدمها على نقيض حقيقتها.. إنها في هذا التنميط اللئيم والمتعمد "مديرية قبلية ميالة للطيش وموصومة بالبداوة" غير أنها على أرض الواقع "مديرية الأكثر من مائتي دكتوراه وأكاديمي في مختلف التخصصات والأكثر من مائتي صحفي وإعلامي يؤلفون ثلث قوام الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين.. مديرية العاشق الجميل عثمان أبو ماهر والفنان البديع عمر غلاب.. مديرية صادق القاضي وعبدالحكيم محمد مقبل ومحمود عبدالواحد ووداد البدوي وصباح عبدالمجيد وعبده سعيد قاسم.. وعبود العزوبي.." ولا حصر لمنسوب جمالها وجميليها.. ومبدعيها.. إلى ذلك فإنني أقيم في الجهة الشمالية للمدينة...في حارة لا تزال تفوح بأنفاس عبدالحبيب سالم مقبل.. أطوف غرباً تراب المدينة القديمة المدروز بالأولياء لأحصد بركاتهم وأزور منزل "الأستاذ محمد عبدالرحمن مجاهد" لأقيس قامتي على قامته المديدة..و حديقة منزل "أمل باشا" لأتنفس حريةً وآدمية وضريح "الشبزي" لأتعلم أن المدينة لا تقبل القسمة على واحد... أما "الجحملية" شمالاً فمهبط قلبي المتيَّم بدفء التنوُّع الثري حيث بوسعي أن أتعدد دون أن تتلاشى ذاتي.. إنها "بلد في حارة" كما أطلق عليها محقاً توأمي الجميل "فكري قاسم".. حارة نجوم السياسة والثقافة والرياضة .. حارة "علي خان ومحمد غالب الجرموزي والقيري وجميلة رجاء وأمة العليم السوسوة، والمحويتي وعصام إبراهيم وأحمد زيد وشادي جمال.. عزيزي "فكري" لقد شذَّبتني حكايات جدك الراحل "المحنِّي الهمداني" كما لم تشذِّبني روايات "أمين معلوف".. إن المدينة المكتظة بالغربان والمناقير الجارحة اليوم أصبحت تضيق بركن ورقي ومجموعة رفوف في معرض كتاب محملة بفكر أعزل إلا من السرد والمعطيات والحجج.. ما أجدر المدينة بأن تتعمد لتبرأ من برص الكراهية بفيض إنسانية أمك "لطيفة" ذات الروح الكونية المحلقة والتي أشاطرك أمومتها يا صديقي.. قد تغدو امرأةٌ من "همدان" مدينة وبلداً ودنيا..