بفوز حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات الأخيرة تدخل القضية الفلسطينية منعطفاً جديداً. وبينما يرى البعض أن هذا التطور يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني ويصحح مساراً معوجاً كانت قد سلكته عملية إدارة الصراع مع إسرائيل خصوصاً بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو، يرى البعض الآخر أن هذا الفوز سيلحق أفدح الضرر بالعملية السياسية، وسيمنح إسرائيل ذريعة إضافية للتنصل من التزاماتها الدولية الملقاة على عاتقها بموجب خريطة الطريق، وسيمهد لها الطريق لتنفيذ وفرض خطتها للفصل أحادي الجانب. ومن المعروف أن هذه الخطة تستهدف قضم وابتلاع وضم نصف الضفة الغربية، حيث الكتل الاستيطانية الكبرى وبعض المناطق الاستراتيجية الحساسة، وتحويل ما تبقى منها إلى كانتونات منفصلة عن بعضها البعض، وبالتالي غير صالحة لتشكيل دولة فلسطينية مكتملة الأركان وقابلة للحياة. ولكي لا يتحول هذا الخلاف في وجهات النظر إلى جدل عقيم ويأخذ شكل الحرب الكلامية التي عادة ما تستنزف جهد وطاقة النخب العربية المتباينة المصالح والمشارب والأهواء، علينا أن نحاول فهم واستيعاب الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية لتوظيف واستغلال المستجدات التي طرأت مؤخرا على الساحة الفلسطينية خصوصاً بعد فوز حماس. فالحملة الشرسة التي أطلقتها إسرائيل بالتنسيق الكامل مع الولاياتالمتحدة لتجويع الشعب الفلسطيني وحصار حماس وعزلها محليا ودوليا تستهدف تحقيق واحد من هدفين: الأول: إجبار حماس على الاعتراف بإسرائيل والقبول بكل الاتفاقات السابق إبرامها مع منظمة التحرير ومع السلطة الفلسطينية، وفي المقدمة منها بالطبع اتفاق أوسلو وكل الاتفاقات المتفرعة منه والمترتبة عليه، كشرط لتشكيل الحكومة. ويلاحظ هنا أن إسرائيل لا تبدو مستعدة لاقتراح صفقة سياسية تنطوي على ما يكفي من التنازلات المتبادلة لإغراء حماس وتمكينها من التكيف مع تفرضه تلك الاتفاقات من التزامات وقيود، لكنها تستخدم كعادتها منطق الإملاءات وإصدار الأوامر» ولذلك فحماس مطالبة إسرائيلياً وأميركياً وربما أوروبياً وعربياً أيضا بتقديم تنازلات استراتيجية ضخمة تمس شكل ومضمون التسوية القادمة في مقابل الجلوس معها على مائدة المفاوضات. ولأنه ليس لدى إسرائيل مانع من التفاوض مع أي طرف شريطة أن لا يقيد حريتها في الاستمرار في بناء وتوسيع المستوطنات، فإن التفاوض في حد ذاته يتحول، في هذه الحالة، إلى أداة من أدوات إدارة وليس حله وبالتالي ميزة لها وليس عبئا عليها. ولا يخفى على أحد أن شروط إسرائيل تعجيزية لأن قبول حماس لها يصبح بمثابة انتحار سياسي. فالشعب الفلسطيني لم يمنح حماس ثقته إلا بعد أن تأكد من عدم جدية إسرائيل في مفاوضاتها مع سلطة تمكنت من حصارها وتصفية زعيمها، وبعد أن بات واضحا تماما عجز أوسلو عن الوفاء بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية المشروعة والمتمثلة في قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على كامل الأرض المحتلة بعد 1967 وعودة اللاجئين، وبالتالي فإن هذه الثقة ليست شيكا على بياض وإنما تفويض شعبي جديد بالاستمرار في نهج المقاومة وقبول مسبق بما ينطوي عليه هذا النهج من تضحيات. وتدرك حماس أن رضوخها للشروط الإسرائيلية والقبول باتفاق أوسلو الآن لن يكون مفهوما أو مقبولا وسيعتبره الشعب الذي منحها ثقته خيانة للعهد والأمانة ودليلا على أن حماس أصبحت مثل غيرها لا يهمها سوى البحث عن السلطة، حتى ولو لخدمة الاحتلال، وهو ما من شأنه أن يؤدي ليس فقط إلى اغتيال أسطورة حماس ولكن أيضا دفع الشعب الفلسطيني إلى القنوط والاستسلام. أما الهدف الثاني: فهو تحميل حماس، بعد رفضها المتوقع للشروط الإسرائيلية، كامل المسؤولية عن ما سيجري بعد ذلك على الساحة الفلسطينية وفي المنطقة من اضطراب وعدم استقرار، بما في ذلك مسؤولية تجويع الشعب الفلسطيني وتعثر وانهيار العملية السلمية وتصاعد العنف والعنف المضاد. فإذا ما نجحت إسرائيل في إلقاء تلك التبعة على عاتق حماس فسيسهل عليها بعد ذلك تبرير سياستها الرامية إلى استكمال بناء الجدار العازل، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى لإسرائيل وعزلها عن محيطها الفلسطيني بطرق التفافية مرتبطة مباشرة بالدولة الإسرائيلية وخاضعة لسيطرة جيشها، وبالتالي وضع الجميع أمام أمر واقع جديد. وهذا هو بالضبط ما تأمل إسرائيل في تحقيقة كخطوة تالية بعد أن تكون قد نجحت في احتواء حماس أو في إنهاء أسطورتها. وإذا صح هذا التحليل، وأظن أنه صحيح، فقد كان ولا يزال من المتوقع أن تمضي إسرائيل قدما، أيا كان اسم الفصيل الذي يشكل «الحكومة» الفلسطينية، في تنفيذ خطتها لفصل أحادي الجانب يستهدف في الواقع ترسيم حدودها النهائية وفق فهمها الخاص لمفهوم «الجدود الآمنة» المنصوص عليه في القرار 242. وفي تقديري أن مجمل النخبة الحاكمة في إسرائيل، وليس يمينها المتطرف فقط، كانت قد أدركت تماما، وبالذات في ضوء ما جرى في مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000، أن أقصى ما يمكن أن يقدمه أكثر الأطراف الإسرائيية اعتدالا، لن يكون كافيا للاستجابة إلى الحد الأدنى لما يمكن أن يقبله أكثر الأطراف الفلسطينية اعتدالا. ولأن العودة إلى ما قبل أوسلو بسبب هاجسها الدائم من «القنبلة الديموغرافية العربية» فلم يكن أمام النخبة الإسرائيلية من خيار آخر سوى تهيئة الأوضاع لخطة الانفصال أحادي الجانب، وهو ما يفسر قبولها بقيادة شارون وتحالف بيريز معه. ومن المؤكد أن إسرائيل كانت قد قررت المضي قدما في هذه الخطة دون أن تشغل نفسها كثيرا بنوعية الأغلبية التي يمكن تأتي بها الانتخابات «التشريعية» الفلسطينية!. وفوز حماس لا يزعجها كثيرا. فقد اعتادت على، ونجحت دائما في استغلال وتوظيف التطورات الجديدة وغير المتوقعة لمصلحتها. ولذلك فستعمل إسرائيل على إظهار حماس بأنها المسئولة عما ستصنعه مستقبلا، بالطريقة نفسها التي اعتبرت عرفات مسئولا عما صنعته هي في الماضي. ومن الواضح أن لدى إسرائيل والولاياتالمتحدة خطة جاهزة للتعامل مع الموقف الجديد، تسمى «خطة إفشال حماس»، تقوم على العناصر التالية: 1- توليد أكبر قدر ممكن من الضغوط الدولية والإقليمية والمحلية على حماس لإجبارها على الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات السابقة قبل تولي الحكومة وكشرط من شروط التكليف بتشكيلها. 2- تعميق التناقضات بين الحكومة الجديدة وبقية الفصائل الفلسطينية، خاصة فتح، مع اتخاذ احتياطات قانونية وسياسية مسبقة تسمح لرئيس السلطة الفلسطينية في حالة احتدام الأزمة بين جناحي السلطة التنفيذية، ممثلة في رئيس «الدولة» ورئيس «الحكومة» من حل المجلس التشريعي في الوقت المناسب بعد تحميل حماس مسئولية تفجير هذه الأزمة. 3- إجراء انتخابات جديدة تسمح بعودة الجناح الأكثر اعتدالا في حركة فتح للسلطة بعد إظهار حماس بمظهر الكرف غير المؤهل لقيادة وتحمل مسئولية الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة والعاجز عن التعامل بكفاءة مع المعطيات الإقليمية والدولية. ورغم توافر مؤشرات عدة توحي بأن السيد محمود عباس قاوم قدر ما يستطيع محاولات ابتزاز، إسرائيلية وأميركية وربما عربية أيضا، كانت تدفعه للذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه فعلا في الضغط على حماس، إلا أن حسه الوطني من ناحية وبراجماتية حماس من ناحية أخرى حالا من دون في انفجار أزمة ليست مستحبة الآن على اي حال. فمن الواضح أن محصلة التفاعلات الناجمة عن ردود الأفعال على فوز حماس صبت في اتجاه بلورة أوضاع لا تزال ملتبسة وقابلة للدفع في اتجاهات متباينة. 1- فالدول العربية استطاعت مقاومة ضغوط إسرائيلية وأمريكية استهدفت حملها على الامتناع عن تقديم أية أموال للسلطة الفلسطينية في حال تولي حماس قيادة الحكومة قبل الاعتراف بإسرائيل، لكن حرصها على عدم التصادم مع الولاياتالمتحدة حال دون التعهد بتعويض السلطة عن أي نقص في مواردها المالية، وهو أمر كان ضروريا، مما جعل الموقف الإيراني يبدو في هذا السياق أقوى من نظيره العربي. 2- والمجلس التشريعي المنتهية صلاحيته أقدم، دون ما مبرر أو ضرورة تمليها مصلحة وطنية واضحة، على إجراء تعديل تشريعي يسمح لرئيس السلطة الفلسطينية بتعين قضاة المحكمة الدستورية دون الرجوع للمجلس. ويثير هذا التعديل شكوكا حول صدق نيات بعض الأطراف داخل السلطة، باعتباره تعديلا يستهدف دعم نوقف السلطة التنفيذية في مواجهة السلطة التشريعية حال نشوب أزمة وتحسبا واستعدادا لها، ويعكس بالتالي منطق تغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية. 3- والسيد أبو مازن رأى ضرورة تضمين خطاب تكليف اسماعيل هنية فقرة تقول «أدعوكم كرئيس للحكومة المقبلة الالتزام بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، والحفاظ على مكتسباته وتطويرها والعمل على تحقيق أهدافه الوطنية كما أقرتها وثيقة إعلان الاستقلال وقرارات المجالس الوطنية ومواد القانون الأساسي وقرارات القمم العربية والالتزامات التي وردت في خطابنا الأخير أمام المجلس التشريعي يوم 18/2». ورغم أن الصياغة الدقيقة حاولت أن تراعي توازنا، مفهوما، بين ضغوط داخلية وخارجية تريد إفشال حماس، ومصالح وطنية فلسطينية عليا تقضي منحها الفرصة وعدم إجبارها على تقديم تنازلات لا تخدم سوى المصالح الإسرائيلية، إلا أنها تركت الباب مفتوحا في الوقت نفسه لاجتهادات وتفسيرات شتى تسمح بتأجيل الخلافات وليس حسمها. وأيا كان الأمر، فلا جدال في أن المنعطف الحاد الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية بعد فوز حماس يمكن أن يقود إلى واحد من بديلين، الأول: مأزق يساعد على خلق ظروف تسمح بتصفية القضية الفلسطينية نهائيا لمصلحة الطرف الإسرائيلي إذا ما نجح في تحويل الصراع معه إلى مواجهة بين الفصائل، والثاني: انفراجة تساعد على خلق ظروف أفضل لتسوية حقيقية إذا ما نجحت الأطراف الفلسطينية المختلفة في تحقيق تعاون يستهدف تجاوز وتصحيح الأخطاء المتراكمة في عملية إدارة الصراع. ولقطع الطريق أمام احتمالات الدخول في مأزق جديد وتعظيم فرص تحقيق انفراجة، يتعين على كافة الأطراف الفلسطينية أن تأخذ في اعتبارها مجموعة من الحقائق: الأولى - أن التعايش داخل نظام سياسي يقوده رئيس «دولة» ينتمي إلى فصيل مختلف عن الفصيل الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة ليس بدعة أو ضلالة. ويمكن الاستفادة هنا بخبرة النظام السياسي الفرنسي المليئة بالدروس الغنية. الثانية - أن فلسطين ليست دولة، وإنما وطن محتل ينبغى أن تسمو متطلبات تحريره على عمليات التنافس المشروع على السلطة في الأحوال العادية. الثالثة - عدم وجود ضرورة قانونية أو سياسية تلزم حكومة حماس أو تجبر عباس ممارسة الضغط عليها للاعتراف بإسرائبل أو بالاتفاقات السابقة. فعباس هو رأس السلطة والمتحدث باسمها، وهو في ذات الوقت رئيس المكتب التنفيذي للجهة التي اعترفت بإسرائيل ووقعت على اتفاق أوسلو، وهي منظمة التحرير، وبالتالي لا حاجة ولا ضرورة سياسية أو قانونية لاعتراف جديد بدولة أو باتفاق سابق. فشارون نفسه كان رافضا لأوسلو وخرقها، وحين جاء رئيسا للوزراء لم يطلب منه أحد تجديد التزام أو اعتراف، بل سمح له بأن يقول ويتصرف على أساس عدم وجود شريك فلسطيني. الرابعة - أن المرونة السياسية مطلوبة من حماس، لكنها مرونة تتعلق بإبداء استعداد للتفاوض وليس للاعتراف المسبق بإسرائيل أو بالاتفاقات السابقة. وولكي يصبح التفاوض مجديا على المجتمع الدولي تقديم تفسير موحد وملزم لمرجعية التسوية. فالتفاوض يجب أن يقتصر على بحث ترتيبات الأمن وبناء السلام بعد التسوية ولا يمتد لبحث شروط تحقيقها، وبالتالي فالاعتراف المطلوب من حماس هو اعتراف لاحق بما ستفسر عنه المفاوضات من تسوية يرضى عنها الشعب الفلسطيني، من خلال استفتاء عام حر يشارك فيه كل الفلسطينيين ويجري تحت إشراف ورقابة الأممالمتحدة، وليس اعترافا مسبقا بدولة توسعية لا حدود لها تصر على استيطان أراض يفترض أن تكون جزء من الدولة التي يجري التفاوض لإقامتها! لقد آن الأوان لكي تدرك جميع الأطراف المحلية والعربية والدولية أن تقديم التنازلات المجانية أضر كثيرا بعملية التسوية وسمح لإسرائيل بالاستهتار بالجميع، وبالتالي فكل من يساعدها فيما تخطط له يصادر على مستقبل فلسطين وليس على مستقبل حماس. * صحيفة الحياة: