ما من ثورة في التاريخ إلَّا وقابلها ثورة مضادة ! المسألة بديهية وحاصلة مثل ثنائية انبلاج شمس النهار من المشرق وبزوغ قمر الليل من المغرب . فكما هي القاعدة الفيزيائية القائلة بان لكل فعل ردة فعل توازي له بالقوة وتختلف معه في الاتجاه ؛ للثورات والافكار والمعتقدات والسياسات تجابه ايضا بثورات وافكار ومعتقدات وسياسات مناهضة لها ومختلفة معها قوة واتجاه . لكن ما هو عجيب واستثنائي في الثورات العربية المعاصرة هو ان الثورة الواحدة تقابل بثورات مناوئة في آن واحد ومن اتجاهات عدة ولغايات مختلفة ومتناقضة ومتضادة بحيث لا تجد فارقا بين نظام قديم وجديد ، بين ثورة تواجه نظام وبين نظام يواجه ثورة ، بين ثوار صاروا نظاما سابقا وبين رموز نظام سابق باتوا ثوارا ، بين ثورة خلعت رئيس نظام فاسد وبين نظام خلع رئيس ثائر ، بين ثورة شعب على حاكم طاغية وبين ثورة من اجل بقاء الطاغية .
ثورات الربيع العربي اعتبرها الحدث المهم والحيوي في سفر قرن من الزمن ؛ فلماذا وكيف بات منجزنا الوحيد عرضة للتشوه والاساءة والطعن بمشروعيته وجدواه ؟ إنه الفعل الثوري الحضاري الذي تأخرا تاريخا عن موعده المفترض تزامنه مع ثورات شعوب اوروبا واسيا وامريكا .
ومع تخلف المجتمعات العربية عقودا ان لم نقل قرونا مازال فعلهم المتأخر زمنا عن ركب التحضر والمعاصرة عرضة للشك والطعن والانتقاص والتشويه . لكأن ثورة الشعوب على حاكم فاسد ومستبد لم تكن إلَّا ترفا وعبثا وتخريبا وتمزيقا للدولة ومجتمعها الذي كان في افضل حالة مقارنة بوضعه الآن بعد بضعة اعوام على ثورات ما سمي بالربيع العربي .
فيكفي الاشارة هنا الى الثورة السورية التي دخلت عامها الثالث دونما تحقق بغيتها بإسقاط نظام عائلي طائفي بوليسي مازال يقاوم بصلف وشراسة كيما يبقى الرئيس بشار وريثا لجمهورية أبيه الاسد .
لا اود تذكيركم بما استغرقته ثورات امريكا وفرنسا وروسيا ، فما جدوى الكلام عن ثورات وقعت قبل ثلاثة قرون او قرن ؟ كيف ان الامريكيون والفرنسيون والروس خاضوا حروبا داخلية طويلة ومكلفة استنفدت من عمرهم عشرات السنوات – عشرين في الثورة الامريكية وعشر في الثورة الفرنسية وست في الثورة الروسية – ؟ فيكفي الاشارة هنا الى ان الثورة الروسية فقط كانت حصيلة سنواتها الست ازهاق ثلاثة عشر مليون انسان فضلا عما خلفته من اضرار نفسية ومجتمعية واقتصادية .
كذلك لا اريد مماثلة ما يحدث اليوم باعتباره محاكاة لثورات عنيفة من التاريخ القريب ، فما من شك بان مجريات الحالة السورية لهي أسوأ وافظع من حالات ثورية عُرفت بمسارها الدموي وبفظاعة انتهاكاتها المقترفة بجريرة الاساءة لقيم ومبادئ الثورات الصينية والكورية والإندونيسية والتشيلية والكمبودية والارجنتينية والعراقية والايرانية .
أو حتى السورية المزهقة لقرابة ربع مليون انسان ناهيك عن تشريد قسري لنحو ثمانية مليون ما بين نازح ومشرد علاوة لذلك ما لحق بسوريا كبلد ودولة واقتصاد ونظام وهيكلية وقدرات يتم اهدارها وتبديدها وبشكل عبثي غير مسبوق في أي ثورة على استعمار او نظام ديكتاتوري بوليسي قمعي .
اعجب حين اسمع مثقفا انتهازيا مغردا في مكارم وخيرات الحكام الطغاة الفاسدين ، بل تجاوز بعضهم بقدحه وتعريضه بهذه الثورات ولحد الطعن والتشكيك بصدق ثوارها وبنبل مقاصدها .
اذكر ان قناة عربية استضافتني وزميل صحافي مصري هاتفيا قبل يوم تقريبا من جمعة الكرامة 18مارس 2011م . وقتها قلت باننا إزاء ثورات تشبه الى حد ما ثورات الخمسينات والستينات على الاستعمار والطغاة المحليين وان اختلفت الوسيلة والغاية والزمن .
فالحال ان الرعيل الاول ثار على الاستعمار والانظمة العائلية السلالية الطائفية مستخدما الكفاح المسلح او الانقلابات العسكرية كطريقتين محققتين للاستقلال وقيام الجمهوريات العربية إذ ذاك . بينما ثورات الابناء والاحفاد في الحاضر هدفها حكام مستبدين فاسدين يحسب لهم سرقة ما حققته ثورات الاوائل من جمهوريات مستقلة احالها رؤسائها الى اقطاعيات يستملكها اولادهم وعائلاتهم واقاربهم واصدقائهم وجلاوزتهم .
نعم اؤمن بانها ليست ثورات جياع ومن اجل الخبز مثلما كان سؤال محاوري ؛ فلو ان باعثها نهم معدة ملتاعة لرغيف الخبز لكان فقراء الهند وافريقيا في طليعة الثائرين الجائعين . لكن الجائعون يموتون وربما ينتحرون او يقتلون او يسرقون على ان ينتفضوا ويضحوا في سبيل غاية نبيلة كهذه التي وقودها شباب في ريق عمرهم وألقهم .
فهذه الثورات ما كانت ستشتعل وتتسع دائرتها بهذه السرعة ومن بلد الى اخر لولا ان غايتها سياسية وتتمثل بالحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الانسان واستعادة الجمهوريات الى شعوبها صاحبة الحق الشرعي بها .
ثورات لأجل الدولة الديمقراطية الحديثة المستقرة القوية العادلة ؛ فمن يظن ان هدف الثورات العربية قد تحقق بخلع اربعة رؤساء – وخامس في طريقه طالت الثورة أم قصرت – فالثورات نجحت وحققت مبتغاها .
لكننا لا نتحدث عن ثورات على انظمة وحكام وإنما عن ثورات يستلزمها عقود كي تقيم دولا عادلة وجيوشا نظامية محترفة وانظمة ديمقراطية وقبلها جميعا مجتمعات حرة وكريمة وقوية .
نعم جميعها يستحيل تحقيقها في ظل انظمة عائلية فاسدة خانعة قمعية مغتصبة للدولة سلطة وثروة وقوة محتقرة للشعب منتهكة لكبريائه وانسانيته رافضة لتطلعه وحلمه . لذا كانت هذه الثورات ضرورة ملحة لإسقاط الحكام كفاتحة لمسيرة ثورية لا اظنها ستتوقف عند الاطاحة بالرؤساء وانما ستظل لحقبة قابلة ما بقي هدفها التغيير الجذري والكامل للدولة العربية القائمة منذ اكثر نصف قرن وكذا لصميم منظومتها ووظيفتها المشوهتين بفعل ممارسة سلطة فجة وعابثة لا تستقيم مطلقا مع وظيفة الدولة العصرية وسلطتها .