من طبيعة البشر محاولة إخفاء نقاط ضعفهم، حتى لا يتمكن منهم عدو ويستغل تلك النقاط للهجوم عليهم، طبيعة حيوانية أكثر منها إنسانية أوجدتها غريزة حب البقاء، لذا فغالبا ما تجد الإنسان الأميل للحيوانية ميال لادعاء القوة والجبروت، أنا محدش يقدر يعلم عليا، كما يقول البلطجية في لغتهم التي انتشرت وصارت قدوة حتى في السينما، في عصر الانفلات الأمني بسبب شرطة خائنة قررت فقط حماية النظام ومصالحها، بينما كلما ابتعد الإنسان عن الحيوانية وجدناه أكثر رقة وإبداعا وشفافية، لديه ثقافة الاعتراف ومستعد للإفصاح عن مكنون صدره بكل أريحية.
من هؤلاء الشاعر أحمد رامي، فمن فرط ألمه ولوعته وإحساسه بالخسارة في الحب أنتج لنا الروائع التي شدت بها أم كلثوم، ولا نمل من سماعها أو تكرارها، وقبله قيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس بن ذريح الليثي الكناني مجنون لبنى، وعنترة بن شداد الذي جمع الحسنيين، الشدة والرقة.
وهناك ممن لا نعرف عن حياتهم الكثير خصوصا قبل شهرتهم، لكن فنهم يقول الكثير عنهم، فنجاة الصغيرة تستطيع أن توصل لك الألم واللوعة والشوق بل والشبق، تلك الفتاة الرقيقة، القصيرة اللذيذة كزجاجة الكوكا كولا، كما وصفها صلاح سرحان في فيلم الشموع السوداء، لم يكن لنجاة أن توصل لنا كل هذه الأحاسيس إن لم تكن مرت بها وجربتها، على النقيض نجد فتاة جميلة شكلها بنت ناس وعمرها ما إتمرمطت هي غادة رجب، تغني نفس الكلمات، لكن بدون روح، فلا يلمس روحك منها شيء، فشتان ما بين صاحب التجربة والألم، وبين الصنايعي، أو من يخفي آلامه.
يلخص التجربة لنا صلاح جاهين في الليلة الكبيرة في جملة واحدة، فبائع الحمص يدعو على من لا يشتري منه بأن يقول: اللي شاف حمص ولا كلش حب وإتلوع ولا طالش، مؤكد أن بائع الحمص يدرك أن هذه قمة الآلام التي لا يضاهيها شيء، هي الندبة التي لا تزول من القلب ولا ينساها الإنسان، فكيف توصل صلاح جاهين لتلك الحقيقة إلا عن تجربة أن تكون إنسانا مررت بتلك التجربة.
الحب مرض، يجعلك تفقد جزئيا السيطرة على تصرفاتك العاقلة الرزينة، تخلع ثوب الرزانة على باب المحبوب، حتى لو كان في نظر الناس كلها لا يستحق، لكن أنت فقط الذي أصابه الفيروس، ولا أحد يشعر بأعراضه إلا أنت، بل أنت تقاطع كل من يعيب في محبوبك، والقصص كثيرة نسمعها عن كل من حولنا، فلا تتخيل إن البنت اللي زي فلقة البدر دي اللي إنت نفسك تتمناها واقعة في حب هذا العربجي الجربوع، وهو مش معبرها، وهذا الرجل العاقل المثقف اللي دماغه يوزن بلد بييجي عند البنت الرخيصة دي ويبقى طفل بريالة بتلعب هي بيه، وأنا هنا أتحدث عن الحب لا عن الشبق فشتان بينهما، فالأخير يطفئه الوصال بينما الحب يؤججه الوصال.
في رواية ميجويل دي سيرفانتس سافيدرا المعروفة باسم العبقري النبيل دون كيهوته من لا مانشا، أو دون كيشوت كما نعرفها بالعربية، حيث يقع البطل ألونسو كيهانو في حب الدونزا لورينزو، فلاحة بسيطة من قرية توبوسو القريبة من لا مانشا، التي يصفها تابعه سانشو بانزا تابعه بأنها عاهرة يستطيع أي رجل أن يحصل عليها، مفتولة العضلات طويلة تستطيع أن ترفع الأثقال وأن تصرع أي شاب، وعالية الصوت يمكنك سماع صوتها على بعد ميلين وتلقي النكات الماجنة، لكنه كما يرى نفسه فارسا نبيلا شهما وجنتلمان ويسمي نفسه دون كيشوت، فإنه يراها في صورة حالمة كأميرة من سلالة ملكية، ويسميها دولثينيا ديل توبوسو، ويحبها من بعيد لبعيد في صمت، ويدافع عن شرفها، وهي صورة تناقض تماما صورتها الحقيقية.
فهونوا على أنفسكم يا صديقي ويا صديقتي، فالحب مرض، ولكل مرض عرض، فاستفد من التجربة، ولا تخجل من أن تظهر ضعفك إن غلبك، لست وحدك، ومن يسخر منك هو من لديه شيء يخبئه ليظهر قويا وهو في حقيقته ضعيف، فمن منا لم يقع في حب دولثينيا.