الفريق علي محسن الأحمر ينعي أحمد مساعد حسين .. ويعزي الرئيس السابق ''هادي''    ما لا تعرفونه عن الشيخ عبدالمجيد الزنداني    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السيول تقتل امرأة وتجرف جثتها إلى منطقة بعيدة وسط اليمن.. والأهالي ينقذون أخرى    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية اليمن .. من خارج النفق ومن اوسع الأفق !
نشر في عدن الغد يوم 15 - 05 - 2015


الى مؤتمر الرياض المزمع انعقاده غدا
تمهيد
ثمة ضباب كثيف واضطراب صاخب يكتنف المشهد اليمني الراهن هذا البلد العربي المسمم بالبؤس والفساد والعنف والخرافات والأوهام بما يجعل الرؤية الواضحة شبه مستحيلة ، وهذا هو شأن الظواهر السياسية وأزمات السلطة والحكم في المجتمعات العربية التقليدية. وفي عالم الفعل والانفعال عالم ما تحت فلك القمر، عالم الناس الأحياء الساعين لتحقيق مصالحهم وأهدافهم وأحلامهم وأوهامهم لا شيء يتم بدون سبب من الأسباب، والأسباب أربعة: ظاهرة, وخفية, قريبة, وبعيدة. والحال كذلك فلا غرو أن نجد الناس يخبطون خبطاً عشوائياً حينما يحاولون تعريف وتحديد مصابهم السياسي الاجتماعي الشديد الغموض فتشوش واضطراب الواقع ينجم عنه تشوش واضطراب ألأفكار وهذا ما يفسر الحضور الطافح للهذيان الجماعي والجدل الانفعالي والإعلامي بشأن أزمة اليمن الدائمة ، بما يعمق من سوء الفهم والتفاهم ويعمي البصر والبصيرة ويطيل أمد الجهل والخراب في هذا (اليمن السعيد بجهله!) وكما هو معلوم بأن أفضل السبل في حل المشكلات يكمن في القدرة على تشخيصها وفهم أسبابها والإحاطة العميقة بأبعادها وتفاعلاتها وعلاقاتها وتوقع مآلاتها المحتملة.
وتعود أهمية قضية من القضايا إلى ذلك الوقيد الانفعالي المستعر بشأنها وليس هناك من قضية اليوم تستقطب الاهتمام وتثير أمواجاً عاتية من الأفعال والانفعالات والتفاعلات مثل قضية الأزمة اليمنية التي أخذت تحظى باهتمام مضطرد في مختلف الفضاءات المحلية والإقليمية والعالمية بوصفها أزمة خطيرة وشائكة ونوعية وجديرة بالدرسة والبحث عن السبل الممكنة لحلها وتجاوزها.
والسياسة هي "الزمن الذي لا يمر بمعنى أنها حضوراً وتفاعلاً مستمراً وانشغالاً دائماً للكائن الاجتماعي السياسي بالطبع والتطبع. وليس بمقدور احد تجاوز استحقاقاتها أبدا. إذ يعاود سؤال السياسة الغائبة الحضور كالجرح النازف! وهي لذلك تمارس تأثيرا طاغيا في حياة الناس بأشد مما تأثر فيهم تقلبات الظواهر الطبيعية : المناخ, الحر البرد, الجدب, الخصب, الفيضانات, الرياح ,العواصف ,الزلازل والبراكين...الخ ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسية في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة وما نعيشه اليوم من شرور الفساد السياسي في غير قطر عربي( فلسطين والعراق وليبيا وسوريا واليمن والسودان والصومال ومصر وبلدان المغرب العربي فضلا عن أفغانستان ) لا يقاس بآي حال من الأحوال بما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية محتملة أو متخيلة. والحالة اليمنية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية.
في ذات السياق تأتي مقاربتنا من زاوية نظر منهجية عقلانية نقدية متجردة قدر الإمكان، لاسيما ونحن وإياكم نعلم ما لهذه الأزمة من حضور مؤلم في القلوب العقول بما تحمله شحنة انفعالية وعاطفية أيديولوجية بالغة الحساسية والتأثير في حياتنا بهذا القدر أو ذاك من الشدة والحدة والانفعال. وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر, يبدو معها المرء أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمن حد أدنى من الصدق والأمانة والنزاهة والإنصاف في معرفة الحقيقة وفهمها. إذ إن الحقيقة مستقلة دائما في أخر المطاف.

وليس لدينا سبيل آخر للتعرف على المشكلات التي تؤرقنا وفهم العلل والأمراض التي تفتك بحياتنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها غير البحث والدراسة فلا عذر لنا طالما وقد قّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام وبالمآسي والأزمات والإخفاقات , إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذ لم نبادر نحن بعمله ولا عذر لنا طالما ونحن موجودون هنا والآن .
منهجية النقد العقلاني
وفي سبيل التعرف الممكن على وضع اليمن الراهن وفهم واستشراف مستقبله تأتي حاجتنا الماسة للتوفر على رؤية عقلانية تستلهم منظور منهجية الوعي النقدي الانعكاسي، بمعنى ان يحاول الباحث النظر إلى موضوع بحثه من مسافة كافية للرؤية بإحداث قطيعة بين ذاته ورغباتها وموضوع البحث المستهدف والأمر كذلك فإن رؤية متبصرة للأزمة اليمنية الراهنة, تستلزم الابتعاد عن التبسيط والصيغ السهلة والكليشات الجاهزة, والتعريفات الشائعة, والأحكام المسبقة والآراء المتسرعة فضلا عن حسن النوايا أو التعصب ألأعمى فالانفعالات والشهوات لا تفسر شيئاً على الإطلاق بل تزيد الطين ضغثا على أبالة! فإذا ما عرفنا الأخطاء تعلمنا منها, وإذا ما عرفنا الأسباب الحقيقية التي أفضت بنا إلى ما نحن فيه من حال ومآل لتمكننا من تجاوز وضعنا المنذور على أشد وأوخم العواقب والإخطار. وكلما كانت صياغتنا للأسئلة المتصلة بالمشكلة صياغة دقيقة وواضحة كلما انجزنا نصف المهمة. فما هي المشكلة اليمنية؟ وما لذي يفسر عودة القوى التقليدية للهيمنة على المجال السياسي بعد اكثر من نصف قرن من ما يسمى ب(الثورة والجمهورية والدولة والتحديث والحداثة والوحدة) بين (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) ( دولة الجنوب) و(الجمهورية العربية اليمنية) ( دولة الشمال)؟ وكيف هي عصبية السلطة والولاء وتحولاتها في اليمن جنوبا وشمالا ؟ وكيف نفهم أزمة (الشرعية السياسية) والحرب الناشبة اليوم بين الحركة الحوثية (انصار الله) وحليفها الرئيس المخلوع في صنعاء الشمالية والرئيس التوافقي عبدربه منصور هادي وحكومته الشرعية الهاربة الى عدن ثم الرياض ؟ وما احتمالات ومآلات الأزمة في المستقبل؟ وكيف نقيم دور الخطر الايراني وتمدده السريع في اليمن الشمالي وحربه الغاشمة على الجنوب واحتلال عدن عاصمة دولة الجنوب الاستراتيجية المطلة على الخليج العربي وباب المندب بعد تدميرها على رؤوس ساكنيها منذ اكثر من ستين يوم في ظل اكتفاء دول التحالف وعاصفة الحزم بتسديد الضربات الجوية التي رغم كثافتها لم تتمكن بعد من ايقاف المد الايراني العسكري المحمول على اجنحة الطائفية الحوثية والعصبية الشمالية الجهوية بحيث طارت الحرب الدائرة اليوم في جنوب الجزيرة العربية تحمل الصبغة الجهوية الطائفية الشمالية الجنوبية الواضحة؟! ولماذا تركت عدن تحديدا والجنوب عامة تقاوم هذا الغزو الايراني الحوثي الشمالي لوحدها رغم ان معظم سكان الشمال على خلاف مذهبي مع الطائفية الحوثية ؟ بعض هذه الاسئلة تم تداولها في أعمال الورشة الفكرية التي عقدها احد مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية وصناعة القرار في دول مجلس التعاون الخليجي في دبي في منتصف شهر مارس الماضي والتي تم على عجل وتحت ضغط الاحداث المتسارعة الا ان الاوراق المقدمة من نخبة من الباحثين والباحثات العرب حاولت التركيز على اربعة محاور اساسية هي : البنية الاجتماعية والاقتصادية لليمن والقوى الفاعلة والمتقاتلة الراهنة والموقف الإقليمي والدولي من الأزمة وسيناريوهات ومآلاتها المحتملة. في اربع جلسات عمل متواصلة جرت الورشة ودارت المناقشات الجادة في فضاء رحب وسلس من تبادل وجهات النظر والآراء المختلفة والنقد البناء اذ طرحت اربعة سيناريوها منها: التعويل على استمرار العملية السياسية والحوار بين الأطراف المتنازعة وآخر يرى إمكان تفكيك التحالف بين قوى الهيمنة العسكرية القبلية بقيادة صالح والحركة الحوثية المدعومة من ايران ، وآخر كان يراهن على دور ( التكتل الواسع لقوى الإنقاذ الوطني) الذي أعلن حينها في صنعاء من لفيف من الاحزاب والنخب اليمنية ضد انقلاب الحوثي وفضلا امكان تفعيل القوى الاجتماعية والقبلية اليمنية ذات الاقلبية السنية في الشمال والتي لا يمكن لها ان تسمع للأقلية الزيدية من التمدد خارج صنعاء وكان الرهان هنا على محافظات وسط اليمن الكثيفة السكان اما السيناريو الاخير فهو الذي كان يراهن على الدور الحاسم لمجلس التعاون الخليجي في ترويض الأزمة المشتعلة تحت الرماد حينذاك
اما نحن القادمون من عدن المحتلة من القوى التقليدية المتنفذة من الشمال منذ غزوة التكفير والنهب والتدمير في عام 1994م فقد كان رأينا من واقع معرفتنا بمكة وشعابها، اكدنا ان القوى الشمالية المهيمنة في صنعاء وطابورها الخامس في عدن تتأهب الان لاعادة اجتياح الجنوب وعاصمتها عدن وان كل الرهانات الاخرى ليست بذات قيمة واعتبار في واقع حال اليمن وان المطلوب اليوم من مجلس التعاون الخليجي القيام بمسؤوليته الاستراتيجية في حماية العاصمة عدن المنزوعة السلاح من السقوط لقمة سائقة في براثن الامبراطورية الايرانية الثأرية الطائفية التي بات خطر تمددها يهدد الجميع في شبه الجزيرة العربية على نحو خاصة والعالم العربي برمته! اذكر أنني كنت شديد الاصرار على ان كل المؤشرات التي تتنضد في صنعاء حينذاك كانت تدل دلالة قاطعة بان الحرب هي الخيار الوحيد ليس لأنني احب الحرب وأريدها ولكن لمعرفتي بحقيقة القوى الانقلابية الفاعلة والمهيمنة في صنعاء اليمنية ورهاناتها الاستراتيجية في ظل ضعف القوى والنخب اليمنية الحديثة والتقليدية التي يفترض ان تكون مناوئة للحركة الحوثية الطائفية المدعومة من ايران. كنت اردد (( ان الحرب قادمة وأن عدن والجنوب سوف تحارب ولن ترضخ ابدا لغزوة شمالية جديدة لاسيما ونحن نعلم وكل العالم يعرف ان شعب الجنوب منذ عام 1994م وهو في ثورة مقاومة سلمية للاحتلال الشمالي التكفيري الغاشم ويستحيل ان يتقبل فكرة أي غزوة شمالية جديدة تحت اية راية او شعار وكل هدفه هو الخلاص من براثن هذه (الوحدة) القاتلة وتحرير السيادة المغتصبة بالقوة العسكرية الفجة ؛ كنت اردد ذلك بكل ثقة وكان بعض الزملاء يبتسمون غير مصدقين ما اقوله! ورغم ذلك سارت العربة بغير ما كان يشتهي السائق ! اذ لم تمض ساعات قليلة على نهاية ورشتنا الموقرة حتى اندلعت نيران الحرب في عدن بين عصابات الامن المركزي الشمالية والمقاومة الجنوبية في خور مكسر ومطار عدن الدولي في 19 مارس غير ان التداعيات المتسارعة للحرب والاجتياح الحوثي الشمالي الثاني للجنوب ودخول مليشيات الحوثي الى العند والحوطة جعلتني في غاية الصدمة والذهول ! كيف حدث هذا التداعي الخطير في (( ثورة التغيير اليمنية)) في ظل الشرعية الدولية وحوارات جمال بن عمر المكوكية والمبادرة الخليجية لتتمخض اخيراً غزوة ثانية للجنوب المسلوب تحت راية ( المسيرة القرآنية والصرخة الايرانية الشهيرة!)؟ وكيف تخاذلت وصمتت جميع قوى الرهان الشمالية التي ادعت معارضتها للحركة الانقلابية الحوثية الطائفية؟ وكيف استطاعت المليشيات الحوثية القادمة من جبال مران وحليفها في سنحان العبور الى عدن عاصمة الجنوب البحرية التي تفصلها عن صعده وصنعاء اكثر من 400كم؟ وكيف مرت تلك القوى العسكرية الشمالية مرور الكرام في صنعاء ذمار وأب وتعز وسط اليمن التقليدي المفترض انه _اعني الوسط اليمني _ مقاوم للحوثي وعفاش بحسب تعبير صاحبة نوبل توكل كرمان؟! انها اليمن التي نعرفها منذ اقدم العصور تختلف في كل شيء وتتوحد ضد الجنوب العربي حتى وان اضطرت لاستيراد جيشا إيرانيا يقاتل في عدن وقد كشفت الوقائع المتعينة من المعركة ان كثير من المقاتلين في عدن ولحج والضالع وابين وشبوة هم من مختلف المحافظات اليمنية الشمالية معززين بخبراء عسكريين من الحرس الثوري الايراني اذ تمكن رجال المقاومة في عدن من اسر بعضهم! هذا في حين ان قوة درع الجزيرة في الخليج ظلت تراقب الامر من بعيد وكأنما هو شأن لا يعينها ويهدد وجودها برمته! مكتفية بالضربات الجوية التي اثبتت الستين يوم الماضية من ايام الحرب الدائرة انها لم تعد تجدي نفعا في ايقاف تمدد المليشات الحوثية وحلفاءها في عدن ومعظم المدن الجنوبية التي انكتها الحرب ومازالت حتى اليوم تسطر ملاحم بطولية في مقاومة الغزاة الذين يتدفقون من الانفاق الارضية في عدن الساحلية والكهوف الجبلية الشمالية التى يأتون منها بعدها مناطق محمية وآمنة ومن المؤسف حقا_ ان يجد الغزاة القادمين من شمال الشمال ومن صعده الشمالية الجبلية الحوثية التي تبعد عن عدن عاصمة الجنوب الساحلية بمسافة تقدر باكثر من 600كم _ تجد الطريقة سالكة وآمنة لغزو واحتلال عدن وتمر مرور الكرام في عمران وصنعاء وذمار واب وتعز الشافعية السنية مرور الكرام بكل اريحية واطمئنان! وبعد ذلك يجرون على ان يتحدثون عن ما يسمى ب (( الوحدة اليمنية)) التي كانت هي حصان طروده في غزوة احتلال الجنوب السابقة وهذه الغزوة الحوثية الجهوية الفاحشة! تلك الوحدة الفخ كانت قد انتهت بحرب 1994م ودفن عظامها مؤتمر حوار صنعاء المنصرم الذي اكد واقر على ضرورة العقد السياسي الجديد لليمن معترفا بجريمة الابادة الجماعية التي ارتكبتها قوى الغزو السابقة في عدن والجنوب منذ عام 1994م وما حدث قبل ايام من مجزرة مروعة لسكان مدينة التواهي الكريمة هو دليل قاطع على اكتمال اركان جريمة الإبادة الجماعة الممنهجة المرتكبة في الجنوب والتي طالمنا وان كتبنا
عنها منذ زمن طويل. فهل ثمة من يفهم السر والمعنى؛ تعددت الرايات والقتل واحدا وسلام الله على الإنجليز (ملائكة الرحمة) بالقياس الى ما فعله ويفعله اليوم في عدن غزاة التكفير الاولين والاخرين
من انصار القتل والقنص والتدمير والاغتصاب القادمين من الشمال، اذ ان مآلات هذه الحرب الكارثية المستمرة على الجنوب وشعبه المقاوم
لم تكن بحسبان احد ابدا حتى من أشد الناس مساومة ومداهنة بحجم جرائمها ووحشيتها وعنفها وقسوتها وطولها وفداحة اضرارها التي يستحيل دملها مع السنين، انها الحرب التي لم يشهد لها تاريخ الجزيرة العربية وقد بلغ عدد شهداء المقاومة الوطنية الجنوبية منذ بدء ثورتهم السلمية في عدن اكثر من خمسة ألاف شهيدا وشهيدة بينهم الكثير من الاطفال الرضع والشيوخ والنساء وعشرات الالاف من الجرحى والمعتقلين ومئات الالاف من المطرودين من وظائفهم والمهجرين والنازحين ففي حي السعادة في خورمكسر فقط وهو حي صغير بلغ عدد الشهداء والشهيدات الذين اغتالتهم ايدي الغزو والإثم والعدون في هذه الغزوة الشمالية الحوثية الاخيرة اكثر من 170شهيدا وشهيدة وهو عدد يفوق عدد شهداء وشهيدات الجنوب الذين سقطوا في مقاومة الاستعمار الانجليزي طوال 129عام!
اننا نتطلع بان يكون لمؤتمر الرياض معنى وقيمة وجدارة في حلحلت الازمة اليمنية الناشبة ولن يكون ذلك إلا بفهم وتفهم حقيقة الازمة وأسبابها الفعلية ومن الشعور بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية ترونا نتوجه الى المؤتمر ومنظميه بهذه الوثيقة التي كانت حصيلة عمل وبحث طويل لعلنا نساعد في اضاءت السبيل لفهم فحوى المشكلة والبحث عن الحلول الممكنة لها لاسيما وقد لاحظنا ان الكثيرين من الاعضاء المشاركين في هذا المؤتمر الموقر يحرصون على تزييف الحقائق العميقة بوعي منهم او بدون وعي والغاطس في البحر لايراه والمشتغل في السياسة لا يعرف حقيقتها، وبعضهم متعيشين لا يهمهم امر اليمن وأهل اليمن ومصير اليمن حتى وان كانوا هم سبب وصوله الى هذا الوضع المهين والخطير جدا! الى مجلس التعاون الخليجي المنظمين للمؤتمر المزمع وللمشاركين المحترمين في أعماله اتوجه بخطابي هذا واتمنى ان يحظى باهتمامكم حتى لا يكون مصير مؤتمر الرياض القادم اسوأ من مصير (مؤتمر الحوار الوطني الشامل) الذي اشرف عليه مندوب هيئة الامم جمال بن عمر فكانت هذه نتيجته الفادحة! ودعوني اعيد القول : ( نادا ما فهمتوني ونادرا ما فهمتكم اما حينما نسقط كلنا بالوحل حيئذا ربما نتفاهم) لقد آن الاوان لدول الجزيرة العربية ان تفهم امرها وتتفهم حقيقة التهديدات التي تحيق بها اليوم باشد من أي وقت مضى فايران باتت على الابواب والخطر بات داهم والزمن يمضي بسرعة فما لم ننجزه اليوم يصعب اللحاق به غدا ولا يجدي تزييف الحقائق وان نعترف بحقيقة وضعنا ونتقبل انفسنا كما نحن عليه بالفعل هو اول الطريق للنجاة والتقدم الى الامام! افهموا الوقائع والحقائق ودعوا الاحلام والأوهام.

اليمن ومشكلة الهوية بين الجغرافيا والسياسة.

تجدر الاشارة في البدء إلى ان ضرورة توخي الحيطة والحذر حينما نستخدم الكلمة (يمن أو اليمن) في وصف الحالة اليمنية، إذ توحي الكلمة بأن هناك كياناً وبنية متجانسة اسمها اليمن، وهذا غير صحيح البتة، اليمن معنى جهويا اكثر مثله مثل الشام، ولم يعرف اليمن في كل تاريخه كيان سياسي يحمل وحدة الهوية الايديولوجية المصطنعة حديثا والتي صارت موضوع صراع شديد الحساسية بين الجنوب والشمال.
وفي المصادر التاريخية الأكثر وثوقية فإن لفظة «اليمن» كانت تدل باستمرار على اتجاه جغرافي بحت (يمين الكعبة)، ولم تشر في أي يوم من الأيام إلى إطار حضاري تاريخي ذي طبقات متعاقبة، وهوية ثقافية متجانسة، وكيان سياسي متعين عدا في وقت متأخر جداً، أواخر النصف الأول من القرن العشرين إذ تم استحضارها وشحنها بمضامين ودلالات سياسية وأيدلوجية ضمن المشروع التوسعي للدولة المتوكلية قبلها ( لم يتم إطلاق لفظة «اليمن» ومشتقاتها على اسم أي مملكة أو إمارة أو أسرة حاكمة على مدى آلاف السنين إلا في عهد الإمام يحيى بن حميد الدين «المتوكلية اليمنية»، ومنها شاع المفهوم العنصري الطائفي بتميزه ل«يمن أعلى» عن «يمن أسفل»، ولم يكن هناك «يمن» ثالث بينهما أو دونهما). فيما بعد، وضمن هذا الأفق، سعت ما تسمى ب«الحركة الوطنية» الهاربة من حُكم الإمام والتي استوطنت مدينة عدن إلى توسيع مفهوم «اليمن» وشحنه بمدلالات ومضامين أخرى لأهداف بيّنها المفكر العربي الكبير أبو بكر السقاف في مقاله الشهير «لاهوت الوحدة أرومة طاغوتها»
وفي السياسة والحياة الاجتماعية لا يمكن فهم الناس وحقائقهم مما يقولونه أو يعتقدونه هم عن أنفسهم وعن هويتهم بل لابد من التعرف عليهم مما هم عليه في الواقع في عالم الممارسة الفعلية المتعينة بعد محو الأشباح الإيديولوجية والأوهام والأساطير التي تبتعثها اللغة فينا والممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل ما يفعله الناس حقاً وفعلاً في عالمهم المعيش فالكلمة (الممارسة) كما يقول الفرنسي بول فين " تعبر بوضوح عن معناها وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد" فتلك هي وظيفة السياسة بوصفها علاقات قوى إذ "طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي" إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات"
والمتتبع للتاريخ اليمني سوف يجد أن الصراع على السلطة والثروة قد شكلا العامل الأساسي في الصراع بين العصبيات والقوى التقليدية المتنازعة على الاستئثار بعناصر وأدوات القوة ، السلطة والحكم والثروة والأرض والعقيدة والهوية وكل فرص العيش الممكنة، وفي سياق ذلك المحور الملتهب للعصبية بمعناه الخلدوني كان ومازال يجري توظيف الدين والطائفية لاسيما في الشمال ولأن اليمن بلد فقير وإمكانياته محدودة جدا فإن الحصول على الثروة قد تطلب أن يقوم على قهر وسلب الفئات المنتجة وحرمان الفئات الضعيفة والمهمشة، وبهذا أصبحت (السلطة) تسلطية عنفية تستخدم أداة للقهر والظلم والحرمان وبؤرة للصراع الدائم.
هكذا يمكن لنا الإمساك بجذر المشكلة التي أرقت الفكر السياسي " لماذا ينبغي أن تزيغ عقول الناس بمجرد أن يعيشوا في مجتمع؟ إذ ان السياسة في جميع الازمان قد جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أي بكلمة خطرين". وهذا هو السؤال الذي يجب علينا مواجهته في الحالة اليمنية خاصة وربما في حالة العرب عامة انه سؤال العيش المشترك في مجتمع مندمج منظم سياسي عادل ومستقر. فما الذي يفسر عجزنا المستديم عن أنجاز هذه النقلة الضرورية من الحالة الطبيعية حالة (حرب الجميع ضد الجميع) حسب هوبز إلى الحالة المدنية والعقد الاجتماعي والمؤسسة الجامعة دولة المواطنين الأحرار بحكم القانون ؟ يقول المستشرق لجرنز وويل" كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرؤون أقدم سجلات الصحراء الداخلية ، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة ، فهو غير أمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي وربما تكون اليمن هي النموذج الممثل لحالة الحرب العربية الدائمة. ين العنف والسلطة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية ؛ فهما منفصلان ومتصلان في آن واحد بحيث تتأسس الثانية على توقف الاول والعنف هو اولاً قبل- سياسي لأنه يشير الى الوضعية التي تسبق ظهور سلطة سياسية ما, تلك هي المشكلة التي استقطبت اهتمام كل من هوبز وروسو وكلاستر، وهو _ العنف_ ثانياً ضد - سياسي لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظام السياسي وهو اخيراً ما بعد - سياسي لأنه يبعد السياسية عن السلطة وينقل مركز القوة والنفوذ الى دوائر اخرى خارج المجال السياسي وقواعد لعبته اذ تأخذ صور شتى ؛ اقتصادية وتقنوية وبربرية وفوضوية تجعل تحقق المواطن والمواطنة في المجتمع امراً مستخيلاً. ورغم هذا التعارض بين السلطة السياسية والعنف من حيث الماهية، فإن العنف يجد نفسه تجريبياً مقترناً دائماً بالسلطة ومتداخلاً معها اذ يشغل مكانة داخلها، وداخل السياسة بما هي علاقات قوى تنافسية واستراتيجات مصالح متصارعة وهذا ما يظهر بقوة في مقدمة ابن خلدون وفي اعمال نيقولا ميكافيللي، الذي كان اول من حدد تقديرهما اي «العنف والسلطة» باكبر قدر ممكن من الدقة لا سيما في كتابه الشهير الأمير انجيل السياسية الحديثة إذ أن تقدير كمية العنف والسلطة هو ما يؤسس في نظره السياسة والمجال السياسي المستقل بقوانينه الخاصة ويتعلق الامر هنا بمقدار ما تحتاجه السلطة السياسية من العنف للحفاظ على السياسية، دون الخطأ في تقديره لأن الافراط في مقدار العنف يلغي السلطة فعلاً ويهدد السياسة والنظام السياسي بالتفكك والاضمحلال وبالزوال , وهذا هو معنى قول ابو الحسن الماوردي ( لا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) الاحكام السلطانية . بصورة مختلفة لما فعلته في الجنوب المسلوب فعلت تلكالقوى التسلطية العنيفة هناك بالشمال ودعمت جماعة الشباب المؤمن لتأسيس كيان مضاد للاصلاح والاخوان في صعدة وقدمت لعضو مجلس النواب ا حينها حسين الحوثي كل الدعم والاسناد لتأسيس جماعته الحوثية الطائفية في صعدة وبعد ثلاث سنوان فقط من تأسس جماعة الشباب المؤمن اعلنت صنعاء الحرب على الحوثيين بهدف تفكيك الجماعة ومقاومة خطرها،خاضت سبع حروب هناك حصدت آلاف الضحايا من ومليارات الدولارات والخراب والدمار والآثار ولازالت تستعر للمزيدانتهت بانتصار الجماعة الحوثية قوة موازية ومنظمة في الشمال ان لم تكن هي اليوم اقوى كيان سياسي يتأهب لاستلام السلطة في صنعاء الهشة وهكذا يمكن القول:

إن سلطة او تسلطية العنف والحرب والاحتلال والقمع والاستبداد, اي القوة الفجة في يلاد (اليمن السعيد بجهله) كما قال الدكتور ابوبكر السقاف اخذت تحل محل السياسة بوصفها تدبير امر الشأن العام ومحل السلطة بعدها حكم الناس برضاهم ومحل قوة الحق والرشد والحكمة والشرعية في حل المشكلات والازمات التي تواجه البلاد والعباد في الجنوب والشمال ليحل الخراب وتضيع السيادة ويصير الأمر كله مرهون في ايادي خارجية , اقليمية ودولية , وهذا هو الامر المتوقع من تغليب العنف على السياسة. والعنف حينما يزيد عن حده ويتسع مداه وتترسخ تجاربه وتتعمق آثاره في البنية الاجتماعية والحياتية للناس،لا ريب وانه على المدى الطويل سوف يخلق دينامياته الخاصة، وانماط علاقاته وقيمه واساليب ديمومته بحيث يستحيل على المجتمع وقواه السيطرة عليه وعلى نتائجه، ليس هناك ثمة امل في الافق الظليم لتجاوز هذا الوضع الذي صنعته سنوات طوال من ممارسة العنف العاري سوى مزيد من العنف والخراب والدمار وها هي رقعة العنف تتسع يوماً بعد يوم في الجنوب والشمال وها هي السياسية تختفي من حياتنا كما تختفي معالم الطريق في عاصفة من الرمال وكلما غابت السلطة السياسية، وحضر العنف، كلما عجل بزوال السياسة وسلطتها وشرعيتها وتفكك النظام وكل يوم تتدهور فرص الحياة الأمنة في بلد تغلبت فيه الجريمة والقوة والسيف والساعد على العقل والعقد والحق والسياسة وتجاوزت احتمال الاحتمال.
التقليد والتحديث في الجنوب والشمال

وقد حاولنا في دراسة سابقة لنا التمييز بين قضية الجنوب ومشكلة الشمال إذ يصعب النظر إلى (الجمهورية اليمنية المفككة اليوم ) ككتلة متجانسة او كيان موحد البنيان والعناصر. ونقصد بالقضية الجنوبية (دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتي تأسست عقب استقلال الجنوب من الاستعمار الانجليزي في 30 نوفمبر عام 1967م، وفي 12 ديسمبر 1967م حازت على عضوية جامعة الدول العربية، وفي 14 ديسمبر 1967م أصبحت العضو رقم (123) في منظمة الأمم المتحدة وهي الدولة التي دمجت تحت سيادتها (23) سلطنة وإمارة ومشيخة فضلاً عن عدن عاصمة المستعمرة البريطانية بمساحة تقدر (336,869) كيلومتراً مربعاً تشتمل مجموعة من الجزر المتناثرة في حدودها المائية. وامتداد على الشريط الساحلي يقدر ب2000 كيلومتر طولي، هذه الدولة بشعبها ومؤسساتها وخبرتها وتاريخها، ومقدراتها وهويتها ورموزها ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الريديكالي الساري الشمولي ذي التوجه الاشتراكي الحديث حد الافراط في حداثته. هي الدولة الجنوبية.
وتقصد بالمشكلة الشمالية (الجمهورية العربية اليمنية) التي أعلنت في صنعاء في 26 سبتمبر 1962 عقب انقلاب عسكري قام به بعض ضباط جيش المملكة المتوكلية اليمنية في صنعاء ضد الإمام البدر بن أحمد يحيى حميد الدين، بحدودها مساحتها ونظام حكمها التقليدي الطائفي الزيدي الذي يعد النموذج الممثل للنظم التقليدية التي ظلت محكمة الانغلاق وصعبة الاختراق أمام تأثيرات الحداثة والتحديث حتى عهد قريب.
وهو البلد الذي وصفته الطبيبة الفرنسية كلودي فايان، في كتابها المهم (كنت طبيبة في اليمن) في العقد الخامس من القرن العشرين إذ كتبت في وصف العزلة المطلقة للمملكة المتوكلية قائلا : " لو قدر للحضارة الحديثة ان تختفي من الأرض لبقى الشاهد الوحيد عليها في اليمن ( تقصد الشمال) صفيحة تنك الجاز فقط"
بينما كان الجنوب بفضل موقعه الجغرافي بمحاذاة البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن والمحيط الهندي ولأسباب كثيرة أخرى على احتكاك واتصال وتواصل وتأثير وتأثر مباشر وغير مباشر بقوى الحداثة والتحديث العالمية الغربية والشرقية الإقليمية والعربية، وذلك منذ اكثر ستة قرون من الزمن. وقد تنوعت مصادر التأثير والتأثر بأنماط الحياة الحديثة عند الجنوبيين عبر الهجر والسفر إلى المستعمرات وعبر الاستعمار المباشر للبرتقاليين والانجليز لعدن وحضرموت والجنوب عامة أو التبعية الأيديولوجية مرحلة الحرب الباردة وذلك بتجاذبات الصراعات الدولية بين القوى الاشتراكية الصينية والروسية والأوروبية الشرقية و وعبر الدراسة والبعثات الخارجية وغير ذلك؛ وتروي الدراسات التاريخية الحديثة ان الهجرة من حضرموت الى الارخبيل الهندي قد بدأت منذ القرن ال15 الميلاد حيث أسس الحضرميون مستوطنات كثيرة في جاوة واندنوسيا، ونشروا تعاليم الإسلام المعتدل، وكان بينهم بعض المهاجرين من المناطق الجنوبية القريبة لاسيما من شبوة ويافع، بينما لم يكون بينهم أي احد من الشمال اليمني التقليدي كل هذه الخبرة المتراكمة من احتكاك الجنوب على مدى مئات السنين بأساليب وأنماط وطرق ورموز الحداثة والتحديث ، أفضى إلى نتائج كثيرة على صعيد تطور وتحول البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لحياة المجتمع الجنوبي، الذي زج به عام 1990م إلى (وحدة اندماجية) مع الشمال التقليدي المختلف البنية والسلطة والنظام الذي لم يخبر أو يألف العيش في نظام المؤسسة السياسية الوطنية الجامعة، بل ظل ولازال خاضعا لهيمنة القوى التقليدية القبلية والطائفية والعسكرية الراسخة الجذور في بنيته. وهذا هو ما أشار إليه المؤرخ الانجليزي أرنولد تويني في فحصة لطرق استجابة المجتمعات الإسلامية لتحدي الحداثة الأوروبية إذ أشار إلى وجود نزاعتين ((الزيلوتية) المتزمتة والسلفية التقليدية لمحافظة و الهيدورتيه) المستقبلية وذكر الأسرة الحميدية الزيدية الحاكمة في اليمن الشمالية من بين النماذج الممثلة للنزعة السلفية، مستشهداً بواقعة حدثت بين الإمام يحيى حميد الدين وبين الموفود الانجليزي من عدن المستعمرة لحضور حفل تجديد البيعة للإمام. مثل الإمام الزيدي يحيى حميد الدين إمام صنعاء الذي كان يعتقد بأنه يمكن أن يكتفي بأخذ التكنيك العسكري الغربي من الحضارة الغربية وتكريس حياته الباقية (لحفظ الشريعة) في شتى المناحي ألأخرى وبذلك يستديم لنفسه ولذريته استحقاق نعمة الله وبركاته، إذ أجاب على محدثه الإنجليزي بعد أن امتدح هذا الأخير الإمام لمظهر جيشه على الطراز الحديث مضيفاً بقوله: "أعتقد أنكم ستتبنون كذلك المؤسسات الغربية ألأخرى وأجابه الإمام مبتسماً: لا أعتقد ذلك. وحينما سأله عن السبب قال: إنني أحب أن أكون أنا نفسي الحكومة لأن المجلس النيابي متعب كما أنني لا أسمح بدخول الخمر إلى بلادي"
ويعلق توينبي على تلك الواقعة بقوله: "إن هذه الكلمات كانت تنفذ إلى صميم القضية وتدل على أن تحدي إمكانية إدخال المستحدثات الغربية الأخرى إلى صنعاء كانت لدى الإمام أكثر أهمية مما شاء أن يعترف به، فالواقع أن تلك الكلمات تدل على أن الإمام، في نظرته إلى الحضارة الغربية إنما كان يراها عبر المدى وحدة لا تتجزأ، وكان يعد بعض مظاهرها جزءاً متصلاً اتصالاً عضوياً بتلك الوحدة الكاملة، بينما لا يرى الغربي في هذه المظاهر نفسها غير أجزاء منفصلة لا علاقة الواحد منها بالآخر، ومن هنا كان الإمام بمجرد اقتباسه أصول التكنيك الحربي عن الغرب يعترف ضمناً بأنه قد أدخل في حياة شعبه الطرف الحاد لإزميل يشطر مع الوقت حضارته الإسلامية التقليدية المحكمة التماسك إلى شطرين اثنين. فقد بدا انقلاب ثقافي لن يترك اليمنيين في النهاية إلا أمام بديل واحد هو "تغطية عريهم بملابس جاهزة من المصنوعات الغربية أي المضي قدماً حتى النهاية في التغريب"
وربما كان الانجليزي بول دريش في دراسته (اليمن: الإئمة والقبائل.. كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) قد استطاع القبض على جذر مشكلة السلطة وعصبيتها التقليدية في اليمن الشمالية إذ كتب قائلاً: " أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبتا بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور الاجتماعي وهذا لا ينطبق على اليمن (الشمالي).. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة ... ومن المثير للدهشة في المعايير الإقليمية أن الرئيس (يقصد صالح) قد ذهب إلى حد التصريح أن اليمن بلد قبلي .. وفي جواب الرئيس على السؤال إلى أي حد قد نجحت اليمن في الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة؟ (أجاب الرئيس بحزم) الدولة جزء لا يتجزأ من القبائل. وشعبنا اليمني هو مجموعة من القبائل فمدننا والريف كلها قبائل وكل أجهزة الدولة الرسمية والشعبية هي مشكلة من القبائل .. إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله" من الطريف الاشارة إلى انه قبل أكثر من ثلاثة عقود(أي 1975 ) عبّر الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي في حديث أدلى به لمجلة "الصياد" اللبنانية عن حجم النفوذ القبلي في اليمن بقوله: (إن قبيلة واحدة تستطيع أن تجنّد سبعين ألف مُسلح إذا أرادت)!. كان الرئيس الحمدي يشير لهذا الرقم بالذات ليقارنه إلى عدد المنتسبين إلى الجيش النظامي وقتها! هذا وإذا أخذنا في الاعتبار عدد المنتسبين إلى الجيش النظامي من أفراد هذه القبيلة أو القبائل الموالية لها والذين بطبيعة الثقافة اليمنية المسيطرة إلى الآن يقدمون الولاء للقبيلة قبل الولاء للدولة في حالة تعارض المصالح بين القبيلة أو شيخها والدولة.. فسنكتشف حجم ما عاناه الحمدي والنخب الداعمة له من صعوبات كبيرة لعل أخرها اغتياله في إقامة دولة يمنية حديثة يتجسد فيها الولاء للوطن، وتكون لها الكلمة العليا، والسيادة المطلقةومع مّضيّ الرئيس الحمدي قدماً في تنفيذ سياسته من إقصاء الشيوخ عن المراكز القيادية، ومحاولته مصادرة أسلحة القبائل، وتقوية السلطة المركزية.. اغتيل بعد فترة قصيرة من تطبيق سياسته، وأرجع كثير من المحللين عملية الاغتيال إلى مقررات مؤتمر "خَمِر" التي صعدت من لغة الصراع مع الرئيس الحمدي.
كان هذا أهم مراحل تصادم الدولة مع القبيلة، أما بقية المراحل فقد رضخت الدولة لنفوذ القبائل ومصالحهم، وتم ترضيتهم بنصيب وافر من "كعكة" الحكم، حيث بلغت نسبة تمثيل زعماء القبائل في المجالس النيابية والشورى وكل المجالس الوطنية التي شُكلت ومحافظين المحافظات والقادة العسكريين أكثر من 50% من النسبة الكلية لهذه المجالس والمؤسسات(قبل الوحدة بالذات).. ولم يقتصر الأمر على المناصب الحكومية فحسب، بل تعدى ذلك إلى الأحزاب السياسية التي لا توجد في الحكم. وبهذا الرضوخ المقصود، ظهرت المؤسسات السياسية والمدنية كشكل من أشكال النظم القديمة ذي الزعيم الأوحد الذي لن يطاله النقد أو العزل مدى الحياة، ثم يرثه الابن في نفس المنصب، وظهر شكل منصب رئيس الدولة يخضع للمفهوم الخلدوني في أن "العصبية أساس الملك" كما أسلفنا !.. صحيح أنه لم توجد عصبية غالبة في اليمن الحديث يؤول إليها الحكم بفضل التوازن العصبي بين قبيلتيّ "حاشد" "وبكيل"، لكن مفهوم ابن خلدون تجلى في هذا التوازن الذي شكّلته القبيلتان. وعلى قدر البعد والاستعداء لهذه العصبية بقدر ما يكون الاستعجال في زوال الرئاسة. كما حدث في حالتي الرئيسين عبد الله السلال وإبراهيم الحمدي، وكما ينادي مؤخراً ابن شيخ "حاشد" ( الشيخ حسين الأحمر) في عدم انتماء الرئيس اليمني الحالي (علي عبد الله صالح) إلى "حاشد"، وكأن هذا الانتماء يحدد شرعية الرئيس في البقاء بالسلطة بعيداً عن الشرعية الدستورية من عدمها!.
حقيقة التوازنات هذا معناه أن اليمن الشمالية أخفقت في تحويل فكرة (الجمهورية) إلى مؤسسة سياسية تسمى (دولة) الشعب الجمهور المواطنون، وهو شكل من أشكال الائتلاف الاجتماعي السياسي لا يمكن أن يوجد بدون مؤسسة سياسية أو دولة جامعة، وهذا هو ما أصاب ( ثورة التغيير اليمنية) في صميمها لأنها تألفت من لفلف غير متجانس من المراتب الاجتماعية التقليدية قبائل ومشائخ وطوائف ونحل وملل مختلفة.

السلطة والعصبية والولاء في اليمن الراهن

أن السلطة بعدها علاقات قوة وهيمنة ونفوذ هي محور ومرتكز العملية السياسية، وأن منطق السياسة لا يتحدد في (صحيح أم زائف) بل ممكن عمله أم غير ممكن؟ ممكن تحقيقه أم غير ممكن؟ وبهذا المعنى سميت السياسة بفن الممكن، وخلاصة الأمر في فهم منطق السياسة هو يفعل المرء ما في وسعه فعله لا ما يريد أو يرغب فيه.
وفي ضوء ذلك أدعوكم للنظر إلى المشهد السياسي الراهن كما يتنضد أمام أبصارنا هنا فيما يفترض أنه (الجمهورية اليمنية) التي يفترض أنها حصيلة اتحاد بين (دولتين) دولة الجنوب وسلطة الشمال، في 22مايو1990م ما الذي نراه هنا والآن في عاصمة يفترض أنها (عاصمة الوحدة) بعد 25 عام من إعلانها وبعد 21 عام من (ترسيخ الوحدة وتعميدها بالدم والحرب وهزيمة الانفصال المزعوم) بعد حرب اجتياح عسكري همجي شمالي للجنوب ودولته في 1994م، وأن أميز هنا بين الشمال السياسي العسكري المهيمن والشمال الاجتماعي الثقافي المهيمن عليه.
حتى نعرف ونفهم حقيقة المشكلة على نحو أعمق وأوضح لا بد لنا من تعليق الأحكام والأفكار والمعتقدات والأحلام والأوهام والشعارات والخطابات والهذيانات والتصورات والقيم والنماذج والأقوال والخطابات التي اكتسبناها طوال السنوات الماضية بالجبر والاختيار وبالتثقيف والتربية وعبر الوسائط الإعلامية والمؤسسات الإيديولوجية الدينية والحزبية والسياسية ... الخ.
تعالوا نضع ما تعارفنا على تسميته ( بثورة 1948م ضد الإمام وثورة 26 سبتمبر 1962م والجمهورية العربية اليمنية، في الشمال وثورة 14 أكتوبر 1963م وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية أو الديمقراطية الشعبية، والوحدة والديمقراطية، والأحزاب والاشتراكية والمعارضة والدستور والقانون والدولة والحرية والعدالة والجيش الوطني، والوطنية، والمواطنة والمجتمع المدني وثورة التغيير وثورة الشباب، أي كل ما يتصل بالحداثة والتحديث من مؤسسات وعلاقات وقيم وأفكار ورموز) نضعها بين قوسين وننساها وكأنها لم تكن وننظر إلى ما الواقع اليمني الراهن وما يعتمل به هنا والآن وأمام ألإبصار. ماذا يقول المشهد العام في صنعاء (العاصمة الجمهورية الوحدوية ) وكيف يمكن قراءة ذلك النص المكتوب بأحرف من نار وحديد ومنحوتة على الأجساد والنفوس يلمسها المرء ويدركها ويشمها ويفهمها حتى وأن كان كفيف السمع والبصر، فما بال من يمتلك عينين وأذنين سليمتين! صوبوا نظركم صوب ( المركز المقدس) انظروا إلى صنعاء العاصمة ما الذي يمكن لنا رؤيته هنا والآن وبعد نصف قرن من خرافة التحديث والحداثة والثورة والجمهورية والدولة والاشتراكية والوحدة والديمقراطية وغير ذلك من القيم الثقافية الحداثية. وهنا يلزمنا التمعن بالتعريف الانثربولوجي للثقافة (الثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) وهكذا اذا ليست المسألة سياسية خالصة كما قد يتصور البعض بل ذات جذور وإبعاد تاريخية اجتماعية ثقافية راسخة وبين السياسة والثقافة علاقة عكسية حسب الانثوبولوجيا السياسية ، اذكلما كان الاندماج الثقافي قويا كان الاندماج السياسي ضعيفا والعكس صحيح ، وهذا ما نراه واقع حال وشاهد عيان في حياتنا الان ، اذ ان تجربة وخبرة الشمال الثقافية السياسية تختلف اختلافا واسعا مع الجنوب
فما الذي بقي لنا من الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية فيما يتمخض الآن من نتائج وخلاصات وتجليات شديدة الوجود والحضور في المشهد الراهن.إننا وبعد كل حساب لا نرى إلا السياسة وقد تعثرت عن كل حلتها الزائفة، نرى تلك القوى التقليدية البطريركية المهيمنة الراسخة الجذور في أعماق البنية السياسية اليمنية قبيلة حاشد وقد تناسلت ثلاث قوى سياسية مهيمنة هي 1- عصابة الحكم الممثلة بالمشير علي صالح وعائلته حاشدي من سنحان 2- اللواء علي محسن الأحمر، حليف صالح ورفيق دربه وصنوه في القوه والسلطان والنفوذ وفرقته العسكرية الضاربة وهو حاشدي من سنحان. 3- مشيخة حاشد صادق وأخوانه (شيخ الرئيس) وهناك قوة رابعة جماعة الحوثي القادمة من صعدة باسم ( انصار الله) التي تنتمي تقليدياً إلى المؤسسة الإمامية الزيدية التليدة والتي هيمنت على الشمال منذ أكثر من ألف عام، تلك القوى التي تتصدر المشهد السياسي والعسكري وتلعب في الميدان بدون منافس تقريباً، هي المؤسسات الفاعلة القوية المهيمنة والقابضة على زمام القرار والحل والعقد والتبديل والتحويل والسلم والحرب، تلك القوى الأربع هي الأقوى والأعنف والأكثر قدرة على الفعل والمناورة والمفاوضة، هي أبرز النتائج التي تمخض عنها تاريخ (اليمن) الآن تبسط هيمنتها على الجنوب والشمال والشرق والغرب والوسط في حين أنها لا تمثل سياسياً إلا حيزاً ضئيلاً من الجغرافيا السياسية والمجتمع السياسي المفترض أنه (الجمهورية اليمنية)، وهناك امتدادات وفروع لتلك القوى فيما يسمى بالأحزاب السلطة والمعارضة وكانت الأحزاب التي يفترض أن تكون مؤسسات حديثة، قد ارتبطت عضوياً بتلك القوى التقليدية لا غرابة أن نجدها وقد انكمشت وتلاشت واختفت بلا حول ولا قوة، وحزب الإصلاح بكونه يستند على المؤسسة الدينية الإسلامية السنية يستمد قوته وحضوره من قوة المؤسسة القبلية التقليدية المهيمنة من حاشد وبكيل وغيرهن. ولا يخفى على أحد ما تمثله بعض القوى التقليدية القبلية من بكيل أمثال بيت الشايف وبيت سنان والحداء وحرف سفيان ونهم وأرحب وخولان وغيرها من القوى ذات الوزن السياسي التي تناوش هنا وهناك بين الكتل الأربع في سبيل القوة والسلطة والنفوذ والفوز بما يمكن الحصول عليه من المقدرات والدساميل المادية والرمزية وعناصر القوة المعروفة في الثقافة التقليدية الأرض والمال والسلاح والمكانة والهيبة والسلطان والنفوذ وغيرها، وهذا ينطبق على كل المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي السائد اليوم في الشمال في مستويات متعددة، في جميع المحافظات المهيمنة والمهيمن عليها، صنعاء وعمران وصعده والحديدة وإب وتعز وذمار والبيضاء والمحوت وحجه ومأرب... الخ.
إذ أن النخب الفاعلة والمهيمنة فيها هي تلك المنتمية والمجسدة للمؤسسة القبلية التقليدية، الممثلة بالمشائخ كالباشق ومحمد المنصور والمخلافي وكعلان وكهلان وهذا ما عبرت عنه شخصية الشيخ "طفاح" في مسلسل (همي همك) الرمضاني ونموذج الهيمنة التقليدية يختلف جذرياً من نموذج الهيمنة الحديثة، (نموذج المؤسسة الدستورية في الدولة، في النموذج التقليدي تقوم العلاقات الشخصية والقرابة والعرفية بدور الدعامة للسلطة السياسية، عبر ومن خلال مجموعة من المؤسسات الحيوية الراسخة البنى التاريخية الصلبة، وكما أن الوعي يشكل جوهر حياة الأفراد النفسانية، فكذلك تشكل المؤسسات والتمثيلات السياسية جوهر الحياة السياسية للجماعات، وليس وعي الناس هو الذي يحدد هذا الوعي عبر ومن خلال شبكة من الأفعال والعلاقات والقيم والرموز الظاهرة والخفية ونحن هنا إذ نقوم برصد الواقع ووصفه كما يظهر لنا لا نحكم عليه حكماً قيمياً سلبياً كان أم إيجابياً بقدر ما نهتم بتقرير المعطيات والوقائع المحسوسة الملموسة المتعينة في مشهد ينضح بما فيه ويدل على طبيعته وما هيته التاريخية الراهنة.
وفي سبيل أن نكون على بينة من الأمر لا بد لنا من نقد خطاب الهيمنة (ومفارقة المعتقد) الذي يجهد دائماً لإخفاء الحقيقة التاريخية للنتائج المتحصلة المتمثلة في انتصار وسيادة القوى التقليدية بنيات ومؤسسات وأفعال وعلاقات وممارسات ورموز وقيم بما لم يشهد له التاريخ مثيل وأهيمن بالنظر إلى ذلك وكأنه من طبائع الأشياء أو أمر بديهي طبيعي اعتيادي لا يستثير أي شك أو نقد أو تفسير، وهذا هو ما يفسر ذلك الظهور السافر للرموز والنماذج التقليدية، مشايخ القبائل ومشايخ الدين والعسكر للحديث بلا حرج عن (الثورة) وحمايتها كما لاحظنا الشيخ الزنداني والشيخ صادق الأحمر والسؤال هو هل القوة التي ظهرت فيها قبيلة حاشد في رؤوسها الأربعة عصابة الحكم الرسمية والفرقة الأولى مدرع والمشائخ والحوثية الإمامية وتفرعاتها ونماذجها ورموزها التقليدية من الأمور الطبيعية البديهية الاعتيادية أم هو وضع تاريخي ونتيجة لجملة من الأسباب والشروط والاستراتيجيات الواعية واللاواعية؟.
ولا يخفى على أحد أن هذه النتيجة الكارثية لانتصار القوى التقليدية على مؤسسة الدولة النامية في الشمال لم يكن شأناً عرضياً أو صدفة بل هو استراتيجية مخططة ومدروسة لمواجهة احتمالات الحاضر والمستقبل بعناصر قوة تفاوضية لترسيخ الهيمنة التقليدية في أي استحقاقات ممكنة بأكثر من قوة وأكثر من طريقة!.
ألم تكن المؤسسة القبلية التقليدية في الجنوب حتى عهد قريب جداً قرابة أربعة عقود من الزمن من 1967م حتى الآن وهي لحظة قصيرة جداً في عمر الشعوب ومسار التاريخ العام، ألم تكن تلك المؤسسات التي تقدر بأكثر من 23 كيان سياسي سلطنات ومشيخات وإمارات، في وضع أفضل بما لا يقاس من حيث التنظيم والقوة والقدرات من حاشد وبكيل ومثيلاتها الشمالية المنتصرة في الحرب بل ، السلطنة العبدلية والدولة القعيطية أو الدولة الكثيرية والسلطة الفضلية والسلطتين العولقية والسلطنتين اليافعية والواحدي والحوشبي والضالع وغيرها.فماذا كانت حاشد وبكيل أمام هذه الدويلات الوحدات السياسية الذائعة الصيت؟ وهل اختفاءها اليوم من المشهد الراهن من الأمور الطبيعية أم شأن تاريخي قابل للفهم والتفسير. وهي مؤسسة حديثة من رأسها حتى أخمص قدميها بل حداثة يسارية رديكالية في تجسدت ب (دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ) التي أخضعت جميع القوى والمؤسسات التقليدية الجنوبية لهيمنتها واحتكرت كل مقومات ومقدرات وعناصر القوة السياسية العسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإيديولوجية وكل شيء تقريبا في جهازها المركزي الصارم التنظيم والبالغ القوة والنفوذ بدعم نصف العالم حينذاك اقصد الحليف الاشتراكي بل أنها لم تقتصر على احتكار عناصر القوة والعنف والسيادة والقرار والحكم والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في جهاز (الحزب الشمولي الواحد) فقط بل صادرت وأممت جميع الممكنات والمقدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية والتربوية ومختلف المجالات المتعددة والمتنوعة التي تطورت عبر التاريخ الطويل لحياة الناس في عدن والمكلا وعموم الجنوب والتي تم اكتسابها عبر الكفاح المرير والصدام والجوار والاحتكاك المباشر وغير المباشر مع قوى الهيمنة الكونيالية بما حملته من قيم ونماذج وخبرات حديثة وجديدة تأثرت بها عاصمة الجنوب عدن والمحميات الشرقية والغربية على مختلف الصعد المدنية والرسمية والأهلية والخصوصية، وفي مختلف المجالات الحياتية للسكان , الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية والاخلاقية والدينية والجمالية .
إن الغرض من هذه المقارنة العابرة يهدف إلى تسليط الضوء على طبيعة الفروق والاختلافات الجوهرية بين المسارين التاريخي للجنوب والشمال. ويكمن الاختلاف الأساس في أن الجنوب خبر وعرف وشهد تجربة الدولة الحديثة، الدولة المؤسسية الوطنية الجامعة وهي مؤسسة حديثة من رأسها حتى أخمص قدميها بل حداثية سارية رديكالية دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي أخضعت جميع القوى والمؤسسات التقليدية الجنوبية لهيمنتها واحتكرت كل مقومات ومقدرات وعناصر القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإيديولوجية في جهازها المركزي الصارم التنظيم والبالغ القوة والنفوذ، بل أنها لم تقتصر على احتكار عناصر القوة والعنف والسيادة والقرار والحكم والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في جهاز (الحزب الشمولي الواحد) بل صادرت وأممت جميع الممكنات والمقدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية ومختلف المجالات المتعددة والمتنوعة التي تطورت عبر التاريخ الطويل لحياة الناس في الجنوب والتي تم اكتسابها عبر الكفاح المرير والصدام والجوار والاحتكاك المباشر وغير المباشر مع الهيمنة الكونيالية بما حملته من قيم ونماذج وخبرات حديثة وجديدة ومفيدة، تميزت بها عاصمة الجنوب عدن والمحميات على مختلف الصعد المدنية والرسمية والأهلية والخصوصية، وفي مختلف المجالات العامة والخاصة والمحلية.
هكذا في 1967م تنازل جميع سكان الجنوب اختياراً أو كرهاً عن كل كياناتهم وقدراتهم وثرواتهم وسلطاتهم ومؤسساتهم التقليدية والحديثة لصالح عقد اجتماعي جديد الممثل في دولتهم الوطنية الجمهورية الحديثة التي وضعوا فيها للأسف الشديد كل بيضهم وفراخهم ودفعوا ثمنها غالياً جداً من حياتهم ودمهم وعرقهم وكدهم وكفاحهم وأمنهم وأمانهم وصحتهم وغذاءهم وبكلمة مصالحهم الحيوية وحقوقهم الأساسية الضرورية حق الحياة والملكية والحرية والكرامة والرفاه والتنمية والسيادة ... الخ. هذه الدولة الجنوبية المسماة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) كانت في شكلها ومضمونها في ديكورها ونسيجها حديثة 120% بما جعلها تختلف اختلافاً كلياً عن ما كان عليه الحال فيما يسمى (الجمهورية العربية اليمنية) في الشمال الذي لم يخبر تجربة وسياق شكل ونمط التنظيم السياسي الاجتماعي المسمى (دولة) لا بمعناها التقليدي ولا بالمعنى الحديث ولا بأي معنى من المعاني.
من هذه البؤرة الساخنة والحاسمة يمكن لنا النظر والفهم لجوهر الاختلاف والتناقض بين (المشكلة الشمالية والقضية الجنوبية).كتب الباحث الفرنسي (فرانك مرمييه) دراسة بعنوان (اليمن: موروث تاريخي مجزّأ) ما يلي:" كان للقطيعة مع النظام القديم والناتجة عن قيام نظام جمهوري في الشمال وفي الجنوب نتائج مختلفة على البنية الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين... وبدا أن النظام الاشتراكي في الجنوب قد (حل) المشكلة القبلية ونجح في خلق دولة حديثة ومواطنة حقيقية متحررة من التعصب العشائري. وهكذا بدا متناقضاً تناقضاً قوياً مع (دولة) الشمال التي ظلت خاضعة لمشايخ القبائل الزيدية ... وتناقضت السيطرة على سكان الجنوب، وفقاً لنموذج بلدان الكتلة السوفيتية السابقة، تناقضاً قوياً مع الاستقلال الذاتي لرجال القبائل في الشمال ... ولم يؤد إنشاء جيش وطني في الشمال إلى وجود قوة معادلة لقوة المؤسسة القبلية لأن رجال القبائل والمشايخ اخترقوا الجيش نفسه..." ويضيف قائلاً: "تبدو الجمهورية اليمنية اليوم على المستوى السياسي استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن وقد شبهت هذه السيطرة للسلطة الشمالية على جميع مناطق البلاد ب(الاستعمار الداخلي).
حرصنا على إيراد هذا النص الذي يعود إلى عام 1997م بهدف تأصيل الفهم بشأن الأسباب والعلل الكامنة خلف النتائج التي نراها اليوم، والتي تم التخطيط المنهجي لها من قبل قوى الهيمنة التقليدية المتسلطة في الشمال منذ القدم والمحتلة للجنوب منذ عام 1990م بالمكر الدبلوماسي والغزو الهمجي منذ 1994م.أما وقد تجلت الحقائق الصارخة للعيان والأذهان وتكشف الأسرار والألغاز وأعترف أمراء الحرب ضد الجنوب بما فعلوه من جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي تعني في الشرعية الدولية تدمير المؤسسات الحيوية لجماعة أو لشعب أو حرمانه من الوجود الفعال وهذا جوهر ما تم فعله في الجنوب من خلال وعبر الحرب الغاشمة والتدمير والنهب الممنهج لكل (دولة) الشعب الجنوبي بجميع مؤسساتها الحديثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية .. إلخ , بحيث أننا اليوم وبعد 21 عام من ارتكاب تلك الجريمة البشعة لم نجد للجنوب أثر يدل على وجوده المفترض فيما يسمى زوراً وبهتان ب(الجمهورية اليمنية) ، هل هناك شاهد أوضح أو برهان مما نراه هنا والآن من فداحة الجرم المرتكب ضد دولة وشعب الجنوب فإذا كانت القوى الفاعلة الحاضرة المتصارعة اليوم في (عاصمة الوحدة) هي شمالية الأصل والفصل والحسب والنسب والسياق والتاريخ، وهي أربعة أساسية عصابة الحكم ومشيخة حاشد وجيش الفرقة وجماعة الحوثي، ومثيلاتها وفروعها المؤسسية التقليدية الاجتماعية والسياسية والدينية والإيديولوجية المهيمنة فأين هي دولة الجنوب ومؤسساتها الحديثة الكثيرة، أهي فصح ملح ذاب وهل يعقل أن لا يمتلك الجنوبيين الذين ساهموا في (فخ الوحدة) بثلثين المساحة و 80% من الثروة، هل يعقل أن لا يمتلكون مؤسسة واحدة فاعلة تدل على وجودهم السياسي والاجتماعي والثقافي التاريخي (والوحدوي)؟.
هكذا يجب أن نفهم معنى القضية الجنوبية، إذ أن المسألة ليست مجرد حرب ولا استعمار (الجنوب) كما اعترف أحد فرقا الحرب، أو فتوى استحلال وإباحة الدم والأرض والعرض، كما أكد الفريق الآخر ولا نهب وسلب وتدمير وسرقة خيرات ومقدرات دولة شعب الجنوب كما أكد الفريق الثالث بل هي (جريمة إبادة جماعية) بكل ما تعنيه الكلمة، جريمة نراها اليوم ماثلة في المآل الذي وصل إليه الجنوب وأهله من عجز وغياب عن الوجود الفعال والفعل الجدير بالاعتبار، فليس للجنوب اليوم أي مؤسسة أو قوة فاعلة تلعب في الميدان السياسي، ولولا (ثورة) المقاومة السلمية التي انطلقت في 7/7/2007م من عدن المحتلة الممثلة في الحراك الجنوبي، والتي تكالبت ولا زالت تتكالب عليها جميع القوى التقليدية المهيمنة في الشمال لاختفاء صوت الجنوب كما تختفي على شاطئ البحر بيوت الرمال، فإذا كان الشمال المقهور قد غيب صوته طوال القرون من قبل الشمال القاهر والحاكم والمتسلط والمهيمن، فأين الجنوب إذن؟ بيد أن المثير للأسف الشديد أن بعض النخب المثقفة ممن يفترض أنها تمثل الثقافة الحديثة من الأحزاب والمنظمات والأفراد لا زالت حتى اللحظة تكشف عن سوء فهم معيب وغريب لحقيقية (القضية الجنوبية) وجوهر المشكلة الشمالية، مكتفية بمشاعر المؤمن بإزاء الجرائم البشعة والفضاعات الخطيرة، وحينما تحاول النظر إلى القضية من زاوية نظر أخلاقية وإيديولوجية فهي تمعن في تكريس حالة سوء التفاهم.
إننا إذ نكن عميق التقدير والاحترام لتلك الأصوات والأقلام الشمالية التي هبت للدفاع عن الجنوب والجنوبيين وعبرت عن مشاعر صادقة من التعاطف والمواساة والإحساس بما أصاب الجنوبيين من فاجعة كارثية منذ الاجتياح العسكري القبلي في 1994م، إلا أن غياب الفهم العميق والصحيح لجوهر القضية الجنوبية هو الغالب والسائد عند معظم الناس والأمر الذي أود إعادة التأكيد عليه هو (الدولة) الحديثة المركزية الشمولية هذه المؤسسة التي كانت لأسباب تطول شرحها هي كل رأس مال الشعب الجنوبي وحصيلة مساعيه، وهي بمثابة السلة الوحيدة التي وضع الجنوب فيها كل بيضه وفرخه، ليأتي الثعلب القادم من الشمال في ليلة سوداء ليخطفها ويلتهمها بما فيها، ليس من أجل (دولة الوحدة المزعومة) ولا من أجل نمو (دولة الشمال) الغائبة ولكن في سبيل تدمير وسحق كل ما يمت للدولة والنظام والدستور والقانون والمؤسسة الحديثة بصلة، تم ذلك في ظل صمت أو تواطؤ أو مباركة كثير من الشرائح والفئات المفترض أنها حديثة أو (مدنية) كرهاً لا اختياراً، كما تحاول تعريف نفسها والتي تسعى اليوم للبحث عن دولة النظام والقانون الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية، وهو الشعار الحلم والأمل الذي ترفعه جموع واسعة من جماهير (ثورة التغيير ) في تعز وصنعاء وعموم الساحات الثائرة التي أسلمت زمام أمرها لذات القوى القديمة المهيمنة التي أكلت الثورة والوحدة والجمهورية والديمقراطية والدولة الجنوبية وتضخمت حتى غدت اليوم وحش الغابة الرهيب، والنتيجة بعد كل حساب أن هناك أربع قوى تقليدية أساسية واجتماعية وإيديولوجية، تمتلك مؤسسات قوية وفاعله ونافذة تنتمي إلى ما قبل الدولة وتعبر وتمثل مصالح جماعة جغرافية صغيرة في الشمال وهناك قوة واحدة ووحيدة حديثة الاتجاه والهدف هي (شباب الثورة) في تعز والحديدة وصنعاء وذمار ولكنها بدون مؤسسة قادرة للدفاع عن نفسها وهي تمثل وتعبر عن مصالح أكثر من 90% من سكان الشمال وبعض الجنوب. وقوة واحدة ووحيدة يتم الإشارة إليها هي (الحراك الجنوبي) تعبر عن القضية الجنوبية ولكنها لم تتحول إلى مؤسسة سياسية قادرة على حماية ذاتها وإثبات قوتها ووجودها الفعلي، وهي تبحث عن دولتها الحديثة المخطوفة في واقع بالغ التعقيد وشديد الخطورة وشراسة القوى المعادية والمتربصة، وهذا ما يجب للحراك أن يعيه. لكن ما هي حظوط هذه القوى وآمالها بتأسيس الدولة المدنية الحديثة؟
من المؤكد أن (الدولة) هي الهدف والغاية من كل ثورة سياسية حديثة، لكن ليس هناك ما هو أصعب من بناء وتأسيس (الدول) وحينما تكون قوى (الثورة) المهيمنة والفاعلة من المؤسسة التقليدية القبلية والعشائرية والدينية والطائفية كما هو الحال في (اليمن) فهذا لعمري من المفارقات التاريخية التي تعي قوة التمييز والحكم وتحبط الآمال والأماني. فكيف يمكن تخيل مشروع دولة ممكنة من اي نمط كان مع من يزعم انه (الثوري والحامي والوطني الاول في اليمن بينما يعلن في اخر مقابلة له قبل اشهر من اجتياح مليشيات الحوثي لعمران قال الشيخ الثوري ورئيس حزب الاصلاح اليمني حميد الاحمر وبالحرف الواحد في مقابلة مع صحيفة المصدر قائلا ( من خان حاشد خان الله والوطن! ) وغير ذلك من الكلام الواضح الدال الذي يعكس ثقافة مهيمنة سائدة وعميقة وفاعلة وقوية وحاضرة في المملكة المتوكلية اليمنية التي اعيد انتاجها اليوم باسماء وصيغ اخرى وهكذا يمكننا القول ان الحقائق الايديولوجية لا توجد بمعزل عن حياة الناس الذين يعتقدونها و يؤمنون بها ، ولكل جماعة حقائقها المقدسة
ا لابد من الإقرار بأن القضية الجنوبية هي قضية نوعية ومختلفة عن كل ما عداها من المشكلات والقضايا الشمالية، وهي قضية الدولة الشعب الأرض الهوية التاريخ الثروة والمقدرات وكل رأس مال وقوة الجنوب الحديث التليد الذي تعرض إلى جريمة إبادة جماعية منذ 22 مايو 1990م وحتى الآن وهذا ما جعل مركز (مجموعة الأزمات الدولية) يعنون تقريره الصادر في 20 أكتوبر 2011م (نقطة الانهيار .. قضية اليمن الجنوبي) أكد فيه على عادلة ومشروعية القضية الجنوبية وخطورتها الحاسمة، ودعا جميع الأطراف المعنية إلى ضرورة الاعتراف علناً بمشروعيتها والالتزام (بإيجاد حل عادل لها عبر الحوار والمفاوضات).

لإبادة الجماعية: محددات المفهوم والقانون

يعود أول ظهور لمفهوم" الإبادة الجماعية" إلى فترة الحرب العالمية الثانية في سياق الجهود الساعية إلى تحريم وتجريم "البربرية" و"التخريب المتعمد" و"إبادة الجماعات الوطنية والأثنية". ويرجع الفضل في صياغة هذا المفهوم إلى القانوني البولندي رافائيل ليمكين الذي استخدمه في دراسة أعدها عام 1944 لتوضيح خصوصية الجرائم المرتكبة من النازيين والفظائع التي ماسوها ضد الإنسانية؛ خاصة تلك الأفعال الهادفة لتدمير دول أوروبا الواقعة تحت الاحتلال النازي، وإلى "جرْمنة" هذه الدول. ومصطلح "الإبادة الجماعية" مشتق من الكلمة اللاتينية Genus وتعني الجماعة أو الجنس، ومن كلمة Cide ومعناها يقتل، وتعني في مجملها "قتل الجماعة" أو" إبادة الجماعة"، وقد أطلق ليمكين على تلك الجريمة فيما بعد مصطلح "جريمة الجرائم " Crime of Crimes لعظم آثارها التدميرية، ثم أورد تعريفًا لتلك الجريمة مضمونه أن "كل من يشترك أو يتآمر للقضاء على جماعة وطنية بسبب يتعلق بالجنس أو اللغة أو حرية أو ملكية أعضاء تلك الجماعة يعد مرتكبًا لجريمة إبادة الجنس البشري".
غير أن مفهوم "الإبادة الجماعية" يثير الكثير من الالتباس عند استخدامها في توصيف حالة ما، لاسيما في سياقات ثقافية واجتماعية تفتقد إلى الثقافة الحقوقية والقانونية، فضلاً عن معناها المزدوج: الشائع والقانوني.
ففي المعنى الشائع تستخدم لوصف حالة وحيدة فقط، وهي حالة الإبادة التامة لجماعة أو شعب ما، أي إزالتهم النهائية من الوجود، لذلك غالباً ما تكون هناك مهابة وتردد في استخدامها لوصف جرائم الحروب التي تتجسد فيها.
ويرى القانوني إيان دوجلاس أن الخلاف الدائر حول المفهوم يعكس ما يحمله من معنى "ملتبس". فالبعض يحذر من استخدام مفهوم "الإبادة الجماعية" وبدون حذر كي لا يفقد قيمته. وهذا يُعدُ سوء فهمٍ لما يعنيه مفهوم الإبادة الجماعية في مضمونه القانوني. إذ أن قصد التدمير هو الأساس في جريمة الإبادة، والمتمثلة في أفعال محددة تؤدي، أو قد لا تؤدي، إلى الإبادة الجماعية.
وربما كان البولندي رافائيل ليمكين قد أنتبه مبكراً إلى الالتباس وسوء الفهم اللذان قد يثيرهما المفهوم في الأذهان، لذا قام بتوضيحه على النحو التالي: « بشكل عام، لا تعني الإبادة الجماعية بالضرورة التدمير الفوري لأمة ما، إلا في حالة تنفيذ ذلك عن طريق القتل الجماعي لجميع أفراد تلك الأمة. إنما المقصود هو خطة منظمة، مركبة من طائفة واسعة من الأفعال المختلفة تستهدف تدمير الأسس الضرورية لحياة جماعات وطنية بهدف القضاء على الجماعة ذاتها. إن أهداف تلك الخطة عادة ما تتضمن تحطيم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والقيم والرموز المفضلة عند أفراد الجماعة الوطنية المحلية، وتحطيم أمانهم الشخصي وحرياتهم وصحتهم وكرامتهم ومقدراتهم وحتى حياة هؤلاء الأفراد المنتمين إلى تلك الجماعات».
وفي مسودة "اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية" التي أقرتها الأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1946م، بقرار رقم 96 (1-د)، جاء تعريف "الإبادة الجماعية" على أنها: «الحرمان من حق الوجود لجماعة من البشر، في حين أن القتل هو إنكار حق الشخص في الحياة». وهو ما يعني أن جريمة الإبادة الجماعية لا تقتصر، وكما هو شائع، على عملية المحو الكلي لجماعة ما بيولوجياً، وإنما مجرد حرمان جماعة ما من الحق في الوجود ك"جماعة" لها شخصيتها الاعتبارية المعترف بها، أي كمؤسسة سياسية اجتماعية ثقافية ذات هوية محددة ومقدرة، يدخل في المضمون القانوني لمفهوم الإبادة الجماعية.
وقد اعتمدت الأمم المتحدة في العام 1948م " اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" كوثيقة قانونية ملزمة لجميع الأعضاء بعد التوقيع والتصديق عليها من قِبل الدول المعنية. وقد دخلت هذه الوثيقة حيز التنفيذ في 12/1/1951م.
وفي مادتها الثانية، أقرت الاتفاقية الأتي:
«تعني "الإبادة الجماعية" أياً من الأفعال التالية المرتكبة عن قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:
قتل أعضاء من الجماعة.
إلحاق أذى جسدي أو روحي بأعضاء من الجماعة.
ج. إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
نقل أطفال عنوة من جماعة إلى جماعة أخرى».
أما المادة الثالثة من الاتفاقية فتنص على أن كل من الأفعال التالية مُجرمة تستحق المعاقبة:
الإبادة الجماعية.
التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
ج. التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية .
محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
التواطؤ في الإبادة الجماعية.

لقد أثارت المادة الثانية من الاتفاقية وما احتوت عليه من كلمات عامة جدلاً واسعاً بشأن المعنى المقصود ب"جزئي"، "جماعة"، "التدمير"، "الإيذاء".
ولقد جرى الاتفاق على أن مصطلح "جزئي" تعني جزءاً جوهرياً من الجماعة. وفي البند رقم (18) من الفقرة رقم (1093) من قانون الولايات المتحدة الأمريكية جاء أن مصطلح "جزء جوهري" يعني جزءاً من الجماعة على درجة من الدلالة العددية بحيث أن تدمير أو فقدان ذلك الجزء يؤدي إلى تدمير الجماعة ككيان حيوي في داخل الأمة التي تمثل تلك الجماعة جزءاً منها.
ومصطلح "كيان حيوي" يعني ببساطة أن الجماعة المعنية تتوقف عن إمكانية الأداء بحيوية في حالة أن جزءاً جوهرياً منها تم تدميره أو فقده.
أما مصطلح "جماعة" فيقصد به مجموعة من الأفراد هويتهم في ذاتها مميزة فيما يخص الجنسية السياسية والأحوال الوطنية أو المحلية أو الخبرات التاريخية والثقافية.
وشبه الجملة "في ذاتهاّ" التي وردت في الاتفاقية هي عنصر له خصوصية قصدية، بمعنى أن أي من الأفعال المنصوص عليها أعلاه المادة الثالثة من الاتفاقية قد تم اقترافه ضد أي فرد أو أفراد بصفتهم جزء من جماعة مفهوم أنها جماعة في ذاتها.
وعلى هذا الأساس، عند المحاولة لتقديم دليل الإدانة، يجب تقديمه مبنياً على أن الجماعة المعنية قد استهدفت "في ذاتها"، الأمر الذي يمكن إثباته على أساس نمط الأفعال المتراكمة وليس بالضرورة على أساس هدف معلن أو قصد معلن. وكذلك فإن استهداف الجماعة يمكن أن يُفهم في سياق "قصد محدد" لاقتراف الجريمة.
ولقد ركزت المادة الثالثة من "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" على معنى "القصد"، إذ تستدعي إقامة الدعوى في إطار معطيات هذه الاتفاقية تبيان عنصر "القصد المحدد" وما يشار إليه أيضاً ب « Mens rea» (أي العقل المذنب، الغرض المذنب أو الجائر، أو القصد الجنائي).
إن القصد المحدد يستند عليه في العادة، وإن لم يكن دائماً، في إدراك أن الفعل الذي تمّ القيام به سيؤدي إلى التدمير أو إلى تحويل جماعة بعينها، كلياً أو جزئياً أو قسم جوهري منها، إلى جماعة غير قابلة للحياة، وأنه بذلك يمثل فعلاً غير قانوني، وأن نتائجه مستهدفة مسبقاً.
ويتضمن القانون الجنائي تقليدياً خمسة مستويات من القصد، يُميّز فيما بينهما على أساس من الدرجات المختلفة للعلم والإرادة الجنائية.
القصد الهادف، بمعنى أن تكون النتيجة غير القانونية متوقعة ومرغوباً فيها ومخططاً لها.وفي هذه الفئة لا يُشترط بالضرورة تحقيق الفعل المحدد أو مجموع الأفعال التي تمثل الإبادة الجماعية، على الرغم من أن حدوثها يضيف ويدعم وزن وجسامة الاتهام بارتكاب الجريمة.
القصد غير المباشر، حيث يمكن توقع التبعات كنتيجة مؤكدة لفعل ما أو مجموعة من الأفعال.
القصد مع سابق المعرفة، حيث يكون المتهم على علمٍ، أو يجب منطقياً، أن يكون على علمٍ بالنتائج لفعل أو مجموعة من الأفعال.
التهور، حيث النتائج متوقعة، وعلى الرغم من ذلك يتم آتيان الفعل أو مجموعة الأفعال.
الإهمال، حيث تستند المسئولية القانونية قناعة ثابتة بأنه كان من الضروري التنبؤ بالنتائج لكن المتهم لم يتنبأ بها.
ويذهب القانوني أيان دوجلاس إلى أن: «إذا أمكن إثبات وجود رغبة قوية حتى وإن لم يُعلن عنها في إحداث النتائج التي تمثل الإبادة الجماعية، فلا يمكن التنصل عندئذ من المسئولية عن جريمة الإبادة الجماعية»
وتشير المادة الثالثة من الاتفاقية فضلاً عن القصد إلى جريمة التواطؤ مع الإبادة الجماعية. إذ تنص الفقرة (ب) من المادة على "التآمر على الاقتراف" كأحد الأطراف التي تشملها العقوبة.والتآمر هنا بمعنى التواطؤ على ارتكاب الجريمة، لذلك فقد كانت الاتفاقية واضحة في تجريمها الشديد "للقصدّ نفسه بالتساوي مع تنفيذ ذلك القصد".

الجريمة الممنهجة في الجنوب
إن حرب صيف 1994م ليست بأي معنى تقليدي ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، بل إنها ليست حتى حرباً تقليدية فمسارات تلك الحرب وتداعياتها وتبعاتها قد حمّل الأحداث من الانتهاكات والتدمير بما لم يخطر على بال أكثرهم تشاؤماً من نتائجها. فقد تبين، بعد وهلةٍ قصيرةٍ من خفوتِ سعيرها؛ والذي لم يخفت إطلاقاً، أن الحرب والتخطيط لها وأهدافها ونتائجها كانت تستهدف تدمير دولة الجنوب كمؤسسة سياسية وجماعة وطنية وقوة حيوية وتاريخ وهوية وأرض وثروة ونظام اجتماعي واقتصادي مختلف عن الشمال (أو دولة الجمهورية العربية اليمنية) فقد قضت الحرب على إنجازات ما يُقارب الستين سنة من جهود تحديث الجنوب، إذ أنه وبتدمير مقومات الدولة، ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وكياناتها الفاعلة، وبتدمير البُنى التحتية الرئيسية قد تجاوز السعي لهزيمة الاشتراكيين لأنه شمل التدمير للمدارس والجامعة والمستشفيات والمتاحف والمكاتب الحكومية؛ بتدمير كل ذلك أصبحت الساحة خالية ليفعل نظام الجمهورية العربية اليمنية ما يشاء في الجنوب.

كيف تم تدمير عدن ونهبها ؟!

يروي الكاتب السوري بشير البكر في شهادته على الأحداث، والبكر كان مقيماً في عدن أثناء الحرب، أنه وبعد إسقاط مدينتي عدن والمكلا من قِبل القوات الغازية، حصلت عملية اجتياح واسعة للجنوب ونهب وانتقام على طريقة ما قبل القرون الوسطى؛ فكتب يقول: "ما تعرضت له عدن بعد سقوطها، وعلى مدى أسبوع يفوق الوصف، ولكن يمكن تلخيصه بعبارة واحدة "السبي الكيفي المُنظم". أي أن هناك تجاوزات منظمة وتجاوزات كيفية. لكن اختلاط الناهبين من جنود ومقاتلي القبائل والإسلاميين أراح الحكومة في صنعاء من المسئولية من دم تلك المدينة التي تفرق بين القبائل".لقد نُهبت المؤسسات والقطاعات العامة للدولة والمحلات والمتاجر وأرزاق المواطنين وممتلكاتهم من سيارات وأدوات كهربائية ومواد غذائية وأثاث، فاكتظ طريق عدن-صنعاء البري على نحو غير معهود بالسيارات الذاهبة شمالاً وهي تحمل الغنائم أو تلك الآتية للبحث عن الغنائم. فخبر سقوط عدن والفتوى لاستباحتها انتشرا بسرعة البرق في أوساط الشمال، الذي هبت قبائله للسبي وفقاً للعُرف الذي اعتادت عليه. وبعد أسبوع من السبي، والجانب الرسمي المحلي والعربي والدولي مطبق في صمته، خرج نائب رئيس الوزراء ليقول أن عمليات النهب توقفت. فرد عليه عُمر الجاوي، الذي عُين بعد الحرب رئيساً للجنة إنقاذ عدن، بالقول: "لم يبق ما يُنهب" كما انتشر على نحو مخيف الاستيلاء على المنازل والممتلكات بالقوة والعنف. فتعرضت الممتلكات العامة للنهب الكلي. وفي خريف ذلك العام نقلت تقارير عن وجود حالات استيلاء على ممتلكات خاصة بالقوة, وتحدث السكان عن حالات تدخلت فيها القوات المسلحة مقابل الحصول على نظير نقدي لمصلحة بعض الشخصيات النافذة لطرد السكان من مساكنهم. وفي المجال الاقتصادي قام المتحالفون مع النظام بمصادرة الأراضي سواء في عدن أم في المكلا على أساس إعادة توزيع الممتلكات المصادرة سابقاً من قِبل الدولة في الجنوب. وهكذا تم فرض النموذج المعروف في صنعاء على العاصمة الجنوبية والمناطق الأخرى. وقد كان استخدام مؤسسات الدولة الرسمية، كالجيش والأمن، في دعم وتوفير غطاء للتجاوزات والانتهاكات ، فضلاً عن السهولة البالغة في جلب واستخدام وحدات عسكرية وأمنية (رسمية) من قِبل النافذين لردع أي مقاومة لتجاوزاتهم حاول أن يبديّها بعضُ المدنيين، في حالات نادرة، دفاعاً عن ممتلكاتهم.. لقد كان ذلك بمثابة سابقة خطيرة ومدمّرة في الجنوب على مدى عقود طويلة من تاريخه.
وبعد هيمنة نظام الجمهورية العربية اليمنية، يشير الباحث الفرنسي مرمييه إلى مدى الاختلال الفج الذي ظهر في مجالٍ هامٍ للغاية؛ هو المجال القضائي، أنه في العام 1997م اعتدى ضابط أمن سياسي ينتمي إلى قبيلة شمالية بالضرب على قاضٍ في حرم محكمة عدن بعد أن ذكّره هذا القاضي بمنع حمل السلاح في المحكمة! ومع معرفة الضابط (الذي لم يتعرض للمساءلة قط) وضع ضحيته، ذبح ثوراً في اليوم التالي عند باب المحكمة "تعويضاً" عن فعلته وفقاً للتقاليد القبلية الصِرفة! وهكذا تؤدي يُعلق مرمييه على الحادثة ممارسة السلطة العليا الخفية، ممثلة بضابط الأمن السياسي، للعنف والتعسف ضد شخص يمثل عدالة يفترض أن تكون رمزاً للمساواة بين المواطنين أمام القانون إلى زيادة الشعور بفرض قانون غريب عن المدينة.
هذه الأمثلة على الانتهاكات في الحقوق الخاصة، وفي النظام الضبطي الاجتماعي العام، وفي آليات عمل مؤسسات الدولة، هي في حسابات الكم قطرة في بحر الانتهاكات التي تعرض لها الجنوبيون منذ غزو 1994م، ولا سبيل إلى سردها هنا، وتأتي في إطار سلسلة طويلة من الانتهاكات والخروقات والتجاوزات لم تتوقف قط حد اللحظة. أما إذا نظرنا إليها من حيث الكيفية، فسيقودنا ذلك إلى استنتاج فرضية وحيدة كان مرمييه نفسه قد توصل إليها بعد سنوات عدّة من هذه الحرب، إذ يقول في دراسته "اليمن: موروث تاريخي مجزّأ": « تبدو الجمهورية اليمنية اليوم على المستوى السياسي استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن». فبعد انتصار القوات الشمالية، وهزيمة الطرف الجنوبي «اختفى نموذج المجتمع العدني، وأغرقته السيطرة المتزايدة لنموذج الحكم والمراجع الثقافية القادمة من صنعاء. وقد شُبّهت هذه السيطرة للسلطة الشمالية على جميع مناطق الجنوب ب"الاستعمار الداخلي"».
ولأن الاستعمار، كما حلل ظاهرته الفيلسوف الشهير جان بول سارتر في وقتٍ مُبكرٍ، يقوم على إستراتيجية النزوع المتأصل الذي يهدف من خلاله "المُستعمِر" إلى التحطيم المُنظّم والمنهجي للطابع الخاص للسكان الأصليين بما يفقدهم شخصيتهم الوطنية وثقافتهم وعاداتهم وقيمهم، وبما يؤدي إلى حرمانهم من الاندماج في بلدهم الأم والاستفادة من مزاياها، ليعيشوا في البؤس مثل الأشباح!
إن هذا التحطيم المنظم (أو "التدمير المنهجي"وفق ما أعترف به المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بنعمر وضمنه إحدى تقاريره المُقدّمة إلى مجلس الأمن الدولي). إن هذا التحطيم الذي سعى إلى المحو الكلي لمؤسسات الدولة في الجنوب ، والتدمير المنهجي لكل أشكال الروابط والأسس والقيم التي تقوم على تنظيم العلاقات بين الناس، وتحدد لهم حقوقهم، وتحافظ على أمنهم وأمانهم واستقرارهم واستمرارهم في الوجود... إن هذا التدمير كان قد قلب حياة الجنوبيين رأساً على عقب، وجلب الكارثة إلى كل بيت. فالجنوبيون باتوا يعيشون في ظل شروطٍ لا قِبل لهم بها؛ فهم بلا أية حقوق، ولا أمن، ولديهم قليل من الفرص للبقاء أحياء على أرضهم، وليس لديهم أية فرصٍ لتنظيم أنفسهم، والدفاع عن حقهم في العيش الكريم، كان عليهم فقط أن يتقبلوا شروط العيش الجديدة بخضوعٍ تامٍ.
والمفارقة أن كاتباً (شمالياً)، وهو بالمناسبة رجل قانوني كبير في اليمن، كتب مقالاً في الفترة الأخيرة يشرح فيه سر تفاؤله بعدم إمكانية حصول الجنوبين على مطلبهم في الانفصال عن الشمال؛ في المدى القريب، على الأقل، على حد تعبيره. ومن ضمن النقاط الهامة التي أوردها الكاتب واعتبرها معوقات جوهرية أمام " الحركة الانفصالية"هو افتقارها للإمكانيات السياسية والعسكرية التي تمنحها القدرة على بسط سيطرتها المادية في المناطق الجنوبية لفرض واقع انفصالي فعلي. وقد أرجع هذا الافتقار في القدرة إلى عوامل عدّة، أهمها، هشاشة الكيان الجنوبي، خاصة بعد تدمير المؤسسات السياسية والعسكرية الجنوبية في حرب 1994. فحتى حالة التشتت والنزاع التي تعيشها حاليا "الحركة الانفصالية"؛ فلا وجود لتنظيم سياسي أو عسكري حقيقي حتى الآن، رغم مرور ستة أعوام على بدايتها، هي من تبعات هذا التدمير.
إن هذا التفسير، وخصوصاً من رجلٍ قانوني، لا يوحي فقط بأن ما فعلته القوى الغازية منذ اجتياحها الجنوب من تدميرٍ للدولة بمؤسساتها المختلفة والشاملة، وللمجتمع بمرجعياته القيمية والتنظيمية، وللإنسان بما هو فاعلٌ وحيويٌّ، كان مُخططاً له، بل كان متوقعاً حدوث نتائجه، ومرغوباً فيها باستمرار!!
لقد دفعتنا تفحص ومعاينة الأبعاد والمسارات المختلفة والمتصاعدة التي اتخذتها الجريمة المرتكبة في الجنوب منذ اجتياحه في حرب صيف 1994، من حيث: طبيعة الأفعال المرتكبة، وحجم التدمير وأهدافه، والقصدية الكاملة في إحداث النتائج، ثم تداعياتها المختلفة على كافة الأصعدة؛الفردية والجماعية، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خلال السنوات الماضية إلى السعي الدائم والدءوب للوصول إلى فهم صحيح، وتفسير مقنع، لما حدث ويحدث في الجنوب بما يُمكّننا من إطلاق الوصف الأنسب لمأساته الكبيرة. وقد قادنا هذا بالضرورة إلى التأمل والبحث والقراءة في مجالات الحرب والشرعية الدولية وحقوق الإنسان وتاريخ الانتهاكات، حتى اهتدينا في النهاية بالعثور على كلمة السر التي فتحت لنا آفاق رحبة وواسعة للإطلالة على لغز الجنوب، وجوهر قضيته، وفصول مأساته، وعمق كارثته.
وتهدف السطور التالية إلى مقاربة الجريمة في الجنوب كجريمة إبادة جماعية ذات أركان مكتملة، وبنيان سامق، ولا يلزمها التصريح بها على الطريقة الهتلرية كي تتوافر أركان القصد، فالقصد يمكن إثباته عن طريقة الأفعال المتراكمة التي قادت في النهاية إلى فعل التدمير.

استراتيجيات الإبادة الجماعية ضد الجنوب:
أولاً: الحرب الاستعمارية بوصفها إبادة جماعية
إن جريمة الإبادة الجماعية هي غاية ونتيجة كل حرب استعمارية خارجية أو داخلية، بل أن منطق الحرب ذاته ينطوي بالضرورة على جريمة الإبادة الجماعية. فالحرب في معناها اللغوي تعني القطع، البتر، الفصل، ومن هنا اشتقت أسماء "الحربة" بمعنى الحد القاطع، والحرابة بمعنى قطع الطريق أو التقطّع. والحرب بما أنها، وبطريقة ما، شكل من أشكال التفاعل والاتصال بين الذوات الاجتماعية، فهي تعني بأن العلاقة بين الذوات قد استنفذت جميع قنوات التواصل والاتصال والتفاعل العقلاني الإنساني الحواري التشاوري والكلامي السلمي.. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للوحدة والتوحد والاتحاد، فحينما تنشب الحرب، تختفي الوحدة، وحينما تحضر الوحدة تغيب الحرب، إذ أن الوحدة هي وصل واتصال وحب وانسجام واحترام واعتراف متبادل بين الأطراف الداخلة فيها، إما الحرب فهي قطع وقطيعة وعنف وتدمير، كره وعدوان وقتل وحرمان، حقد وقهر وثأر وانتقام. ومن هنا نفهم المعاني العميقة لفحوى موقف الأمم المتحدة من حرب 1994م، ورفضها القاطع "للوحدة بالقوة".
يُفسّر جان بول سارتر، في مقالته "الإبادة الجماعية"، النتيجة الوحيدة التي تفضي إليها أي حرب تُشن تحت أهداف وغايات أو حتى عوائد استعمارية. فالانتصار في هذه الحروب يُعادل الإبادة السياسية والثقافية والاقتصادية للشعب المحتل، في حين تطرح الهزيمة الإبادة الجماعية كحل للدولة الاستعمارية. إن منطق الإبادة الجماعية متأصل في كافة أوجه الحرب الاستعمارية، من حيث فترة استمرارها في مواجهة المقاومة الشعبية، ومن حيث إمكانية التصعيد الشديد في مواجهة المقاومة الشعبية، ومن حيث نتيجتها في حالة الاستسلام.
وقد كانت حرب 1994 الشاملة التي شنّها نظام صنعاء على الجنوب، وتبعاتها المتلاحقة، وتداعياتها المختلفة، من نوعية تلك الحروب، ومنذ يومها الأول. ويمكن الإشارة هنا إلى أبرز الممارسات التي رافقت الحرب ودلّت على مستوى أو أكثر من مستويات القصد الجنائي، أهمها:
إصدار فتوى رسمية (تكفيرية) من قِبل رجل الدين عبدالوهاب الديلمي، الذي كان يشغل منصب وزير الأوقاف وقتها، أحلّت دماء الجنوبيين، وشرعنت لتدميره وهدره جذرياً وكلياً بنصٍ صريحٍ واضحٍ. وقد جاء نص هذه الفتوى على النحو التالي: «إننا نعلم جميعاً أن الحزب أو البغاة في الحزب الاشتراكي اليمني المتمردين المرتدين هؤلاء لو أحصينا عددهم لوجدنا أن أعدادهم بسيطة ومحدودة, ولو لم يكن لهم من الأنصار والأعوان من يقف إلى جانبهم ما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه.. وهنا لابد من البيان والإيضاح في حكم الشرع في هذا الأمر:
أجمع العلماء أنه عند القتال؛ بل إذا تقاتل المسلمين وغير المسلمين فإنه إذا تترس أعداء الإسلام بطائفة من المسلمين المستضعفين فإنه يجوز للمسلمين قتل هؤلاء المُتترس بهم مع أنهم مغلوب على أمرهم وهم مستضعفون من النساء والضعفاء والشيوخ والأطفال، ولكن إذا لم نقتلهم فسيتمكن العدو من اقتحام ديارنا وقتل أكثر منهم من المسلمين ويستبيح دولة الإسلام وينتهك الأعراض».
إن هذه الفتوى، من وجهة نظر جنائية، هي بمثابة الدليل الدامغ على أعلى درجات القصدية والإفصاح عن نيّة إحداث جريمة الإبادة الجماعية خصوصاً وأن الجنوب لم يكن في أي وضعية من وضعيات المُعتدي بالصورة التي حاولت الفتوى أن توحي بها، وكأسلوبٍ مراوغٍ للتخفيف من فجاجة وفداحة الدعوة الصارخة لارتكاب الجريمة.على عكس من ذلك تماماً، كان الجنوب، في واقع الأمر، هو المُعتدى عليه، وعلى كافة المستويات.
ومن أكثر الأمور غرابةً في هذه الفتوى، أنها تتناقض مع الأصول والقواعد التي استندت عليها، وهي المبادئ الإسلامية العامة؛ وكما تبين من الاعتراضات الحازمة ضدّها التي أبداها رجال دين بارزون في العالم الإسلامي، البعض منهم ينتمي إلى ذات المرجعيّة التي ينتمي إليها الديلمي. وفي هذا ما يؤكد بوضوحٍ، بأن الفتوى، خصوصاً على الصعيد الرسمي، لم تصدر تحت إلحاحٍ وغايةٍ دينيةٍ قد تتكرر في أكثر من مكان من العالم الإسلامي بفعلٍ مزاجٍ عامٍ سائدٍ، بل كانت غايتها الوحيدة التهيئة والتبرير للطابع التدميري الذي اتخذته الحرب، وتبعاتها فيما بعد.
وعلى أي حالٍ، يستحيل تبرير دعوة (فتوى) كهذه تحت أي صيغةٍ وغايةٍ كانت. فالطابع الذي تتخذه الفتاوى (التكفيرية) يقوم على منهجية الانشطار والتقسيم الحاد بين الذات والآخر كما تذهب دراسات علم النفس الاجتماعي، فالآخر يكتسب دلالة قصوى للسوءِ المحضِ، وأسطورة لا حدود لها للشر. ومن خلال هذه الانشطار والتقسيم بين الإيمان والكفر، الإنسان واللاإنسان، تنهار العلاقة الإنسانية كلياً، ومع انهيارها يُصبح فعل القتل وهدر الدم والتصفية ممكناً بدون شعور بالإثم. وفي هذه الحالة، لا تصبح التضحية به، وتصفيته، والقضاء عليه، ممكنة فقط، بل هي تصبح واجبة، وتتخذ دلالة العمل النبيل للقضاء على السوء والشر، كما لا يُصبح فعل القتل مبرراً فقط، بل هو يرقى إلى مستوى الواجب والرسالة النبيلة: القضاء على الضلال والفساد واستعادة الحق والفردوس المفقود!.
إن ما يزيد الأمر سوءا وتعقيداً في هذا الجانب، أن إصدار الفتاوى التكفيرية صارت مع مرور الوقت عادة يُقْبِل عليها رجال الدين في الشمال بنهمٍ منقطع النظير عند أبسط حادثة دون أن يكون للجهات المخولة أي تدخل كان لوقف مثل هذه الدعوات التي ما زالت تُبيح فعل الإبادة بحق الجنوبيين، أو حتى أن يكون هناك من يدين. بل على العكس تماماً، فأغلب المحافل التي يتم فيها إصدار مثل هذه الفتاوى التحريضية ضد الجنوبيين يتم الدعوة لها من على المنابر الإعلامية للنظام الحاكم، فضلاً عن أن رجال الدين هم من ذوي الحضوة البالغة في بلاط السلطان.
في مطلع شهر يونيو 1994، وبعد مُضي ما يُقارب الشهر على شن الحرب الشاملة ضد الجنوب، أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراره رقم (924) وطالب فيه بوقف فوري لإطلاق النار، وحث طرفي النزاع للعودة إلى طاولة المفاوضات لحل الخلاف السياسي بالوسائل السلمية. ونظراً لأن النظام في صنعاء، الذي كان في وضعية الهجوم، لم يبد معه أدنى استجابة، مواصلاً حربه على جميع جبهات القتال، أضطر مجلس الأمن في التاسع والعشرين من ذات الشهر (يونيو) إلى إصدار قرارٍ ثانٍ برقم (931). أكد فيه على ما تضمنه القرار السابق (924) الخاص بالوقف الفوري لإطلاق النار، وأيّد بقوة دعوة الأمين العام لوقف فوري وكامل لقصف مدينة عدن، وشجب عدم الاستجابة لهذه الدعوة. كما شدّد على أهمية وجود وتنفيذ فعلي لوقف إطلاق النار يشمل جميع العمليات البرية والبحرية والجوية بما في ذلك البنود الخاصة بوضع الأسلحة الثقيلة خارج نطاق مدينة عدن، وندّد بسقوط جرحى وقتلى من المدنيين العُزّل وكذلك بالدمار الناجم عن استمرار الهجوم العسكري على المدينة.
لم يستجب النظام في صنعاء لهذا القرار، ولم يستجب أيضاً لأي مناشدة دولية كانت أم إقليمية لوقف الحرب ومنع التدمير وسقوط الضحايا، والجلوس، بدلاً عن ذلك، للحوار، منها البيان الذي صدر عن مجلس التعاون الخليجي في شهر يونيو بدورته رقم 56، وجاء فيه: «انطلاقا من حقيقة أن الوحدة مطلب لأبناء الأمة العربية فقد رحب المجلس بالوحدة اليمنية عند قيامها بتراضي الدولتين المستقلتين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في مايو 1990م وبالتالي فان بقاءها لا يمكن أن يستمر إلا بتراضي الطرفين. وأمام الأمر الواقع المتمثل بأن أحد الطرفين قد أعلن عودته إلى وضعه السابق وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية فانه لا يمكن للطرفين التعامل في هذا الإطار إلا بالطرق السلمية وتقديرا من المجلس لدوافع المخلصين من أبناء اليمن في الوحدة فأنه يؤكد انه لا يمكن إطلاقا فرض هذه الوحدة بالوسائل العسكرية، كما يبين المجلس أن استمرار القتال لابد أن يكون له المواقف المناسبة تجاه الطرف الذي لا يلتزم وقف إطلاق النار والتشاور مع الأطراف العربية والدولية حول الإجراءات اللازم اتخاذها في مجلس الأمن تجاه هذا الوضع المتفاقم بناء على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة». ومع كل ذلك، استمر الهجوم على الجنوب، عبر مختلف الطرق والوسائل، وازداد القصف والحصار الخانق لمدينة عدن، فمنع عن قاطنيها الماء والكهرباء ووسائل الاتصالات وكافة الخدمات، في عز صيفٍ جهنمي، وكنوع من العقاب الجماعي، حتى سقطت المدينة، في النهاية!
ومن زاوية تتجاوز الانتهاكات والتجاوزات والممارسات المصاحبة لمجريات الحرب، يبدو، من خلال مراجعة مواقف وممارسات القوى المهيمنة في نظام الجمهورية العربية اليمنية منذ تشكله، على الأقل، في صنعاء، أن هنالك أسباباً ودوافعاً عدّة جعلت الجنوب ودولته وجميع مكتسباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي كل الإمكانيات والقدرات التي لا تجعله في وضعيّة الخاضع الضعيف وتحول دون الهيمنة عليه ونهب كل ممتلكاته وأصوله وموارده وثرواته، هدفاً استراتيجياً ثابتاً للتدمير، ولا يخبو تحت السطح إلا في فتراتٍ ومراحلٍ تفرض أولويات وانشغالاتٍ داخليةٍ طارئةٍ. إن هذه الزاوية مهمة لإعادة النظر في الأبعاد والدوافع والأهداف المختلفة للحرب، تتجاوز تصوير البعض لها وكأنها حادثةٌ عرضيّةٌ نشأت كنتيجةٍ حتميةٍ لخلافٍ (آني) طرأ بين شريكي الوحدة حول مسائل تتعلق بالسلطة والنفوذ، وأظهر عدم الكفاءة في إدارة مشروع الدولة الجديدة لأسبابٍ تتعلق بشمولية النظامين المتحدين.
ويمكن، في هذا الصدد، رصد ثلاثة دوافع رئيسية بارزة حتى أن البعض كان قد سبق بالإشارة إليها، وهي دوافع متقاطعة ومتداخلة، ويرتبط بعضها ببعضٍ ارتباطاً تكاملياً وثيقاً:
الدافع السياسي: يشير المحلل البريطاني باتريك كريجر إلى أن أمر السعي من قِبل حُكام الشمال لضم الجنوب وإخضاعه والاستحواذ عليه ليس بجديدٍ، بل يعود إلى اليوم الأول لإعلان الاستقلال في الجنوب (وقد أوضحنا في الفصل الأول من هذا الكتاب الصيغ التي يتم من خلالها تبرير هذا الإخضاع). فالشيخ سنان أبو لحوم يقول في مذكراته (اليمن – حقائق ووثائق عشتها، مؤسسة العفيف، صنعاء، 2002، الجزء الثاني، ص262): «تم جلاء الاستعمار البريطاني من الشطر الجنوبي من الوطن في 30 نوفمبر 1967م، وأعلنت دولة مستقلة في الجنوب بزعامة الجبهة القومية. ولم تكن فكرة إقامة دولة في الجنوب واردة في ذهن القيادة في الشمال، وإزاء ذلك اختلفت القيادة في موقفها بين رافض قيام الدولة في الجنوب وبين قابل للأمر الواقع، لأن الموقف خطير والملكيين بعد انسحاب القوات المصرية شددوا من هجماتهم وبدءوا يحاصرون العاصمة، فليس بإمكاننا والوضع كذلك أن نحارب على جبهتين». يستخلص كريجر من خلال هذا الحديث، وأحاديث أخرى، أن حكام الشمال ينكرون أصلاً على أبناء الجنوب استقلالهم في دولتهم التي قاتلوا لطرد الاستعمار البريطاني منها، وأنه كان عليهم بعد نيل الاستقلال أن يسلموا بلادهم لحكام الشمال. كما يُفهم من شهادة أبي لحوم أنه لولا أن النظام في صنعاء كان حينها منشغلاً بالحرب مع الملكيين الذين وصلوا إلى تخوم العاصمة، لكان قد شن حرباً مبكرة على دولة الجنوب.
الدافع الثقافي: كانت مدينة عدن بمثابة وهج ثقافي وحضاري وتجربة سياسية واجتماعية حديثة ونظام إداري عصري منذ دخول الاستعمار البريطاني إليها، ثم استمر هذا الوهج، وإن كان بشكلٍ مختلفٍ، بعد خروج الاستعمار وقيام نظام يساري علماني في الجنوب. وقد شكل هذا النموذج تحديا صعبا وعسيرا للقوى التقليدية لدرجة أن أحد أبرز ممثليها وصف مدينة عدن ب"قرن الشيطان"(كان الناس في خير وأمان إلى أن بزغ قرن الشيطان من عدن سنة 1972م). وحضور الشيطان في المخيال العربي- الإسلامي، هو حضورٌ كثيفٌ بكل دلالات ومعاني السوء، والذي ينبغي على المسلم ألا يوقف موقفاً محايداً (سلبياً) إزاءه، بل عليه أن يُسارع، وباستخدام جميع الوسائل، إلى إخراسه في جميع صوره وأشكاله وتمثلاته.
الدافع الاقتصادي: يذكر الكاتب السوري بشير البكر في كتابه "حرب اليمن: القبيلة تنتصر إلى الوطن" أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وقبل أسبوعين من إعلان الحرب، اتهم "الأقلية الجنوبية" بأنها تحاول الانفصال بالجنوب كي تستأثر بثلثي ثروات وأراضي وممرات وسواحل اليمن البحرية، لتحويل الأكثرية الشمالية إلى عمالة لديها، كما هو حال اليمنيين في دول الخليج، وما علينا، والكلام هنا للشيخ عبدالله، سوى إن نعد سلاح الأكثرية لإفشال مشروع الأقلية حتى لو أدى الأمر إلى إبادتها. وهذه التهديد يتفق مع عرفٍ راسخٍ في جذور التاريخ كان يجري التعامل به مع المناطق التي تُعتبر "مناطق خراجية"، ومستباحة دوماً لكل عمليات الغزو والغنيمة من قِبل النظام القبلي في صنعاء. كما يفصح هذا التهديد عن إعلان صريح بنية الإبادة، وحتى لو لم تتحقق الإبادة البيولوجية بشكل فعلي لكامل الجماعة، فإن التهديد بحد ذاته يوفر القصد الجنائي لجريمة الإبادة الجماعية ، فضلاً عن كونه يطرح "منطق الإبادة المتأصل" الذي تحدث عنه سارتر، أي أن يعيش الناس في رعبٍ مستمرٍ من التصفيّة. فأي نزوع محليّ باتجاه السيطرة على هذه الموارد، وفرض السيادة عليها، سيدفع بالذهنية العقابية إلى ابتكار واستخدام شتى الوسائل لمحق هذا النزوع من جذوره، والذي يعني، في جوهره، تدمير كل مقومات البيئة التي احتضنت، بأي كيفية، ولادته ونموه.
استراتيجيات الإبادة بعد الحرب
يذهب القانونيون إلى أنه يمكن استنتاج القصد في ارتكاب جريمة "الإبادة الجماعية" من تراكم "نمط الفعل الهادف". فإذا كان إجمالي ما حدث قد أدى إلى نتيجة التدمير الكلي أو تدمير قطاع جوهري من جماعة بعينها، وإذا كانت تلك النتائج معروفة مُسبقاً أو كانت قابلة للتنبؤ بها مقدماً، أو تم الإخطار بها فجرى تجاهلها، فإن ذلك يُعتبر بمثابة إبادة جماعية وقصد جنائي محدد، وكما صرّح القانوني لينون: «إذا كان ممكناً التنبؤ بالنتيجة، فإنه من المؤكد أخلاقياً أن ندّعي بتوفر القصد».
في الحالة الجنوبية، موضوع دراستنا، يمكن رصد كثير من الممارسات والانتهاكات والأفعال التي هدفت إلى تحقيق إستراتيجية تحويل الجنوب إلى كيان غير حيوي, والجنوبي إلى شخصٍ عاجزٍ عن الفعل والفاعلية وبدون شخصية اعتبارية كاملة الأهلية.
فالكاتب السوري بشير البكر يوّثق في شهادته على الأحداث أنه وبعد اجتياح وسقوط المدن الجنوبية جرى لها استباحة كاملة، وتعرضت لأبشع عمليات وصور وأشكال النهب والسلب، وبطريقة لا يمكن وصفها. ففي مدينة عدن، عاصمة دولة الجنوب، جرى نهب كلي لممتلكات الدولة والمؤسسات ومقرات الحزب الحاكم آنذاك. كما جرى نهب جميع الوثائق الرسمية والأثاث والمكيفات والسيارات ومخازن الغذاء ومحتويات المستشفيات والمطار والمرفأ والمصانع، وكذلك المدارس وجامعة عدن التي تفخر كلية التربية بأهم مكتبة متخصصة في منطقة الجزيرة العربية وقتذاك، كما أن المتحف الوطني الذي يحوي على ذاكرة المنطقة سواءً من خلال المقتنيات الفلكلورية أو التحف الأثرية والحُلي والألبسة والمخطوطات، سُرق بأكمله. بينما أُحرقت سجلات الدولة في خطوة وصفت بأنها تهدف إلى محو شخصية الجنوب. أو "اقتلاع الجنوب" وفق توصيف آخر لعبدالله البردوني. وهذا بالفعل ما عناه مرمييه في عبارة أنفة الذكر "تبدو الجمهورية اليمنية اليوم استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن"!، إذ لم يعد هناك من وجود للجنوب في معادلة دولة ما بعد الحرب.
وطالما أننا فهمنا الدوافع، فإن الكشف عن الوسائل يصبح أمراً أكثر سهولة. ويتضح مما سبق أن نظام الجمهورية العربية اليمنية كان لديه من الأسباب ما يجعله يرغب في سياق منطقه الخاص في تدمير الجنوب كدولة وشعب. أما الوسائل التي استخدمها في تدمير الدولة، وفي محاولته تدمير الشعب، فإنها تنبع من تلك الأسباب وتتوافق معها: لقد سعى النظام في صنعاء بشكلٍ خاصٍ إلى:
تفكيك وتدمير المؤسسات العسكرية والأمنية الجنوبية، وبما أن المؤسسات العسكرية والأمنية كانت مكان التجمع الوحيد لقوة منظمة، وينظمها تراتب إداري يجعلها قادرة على الحركة وممارسة القوة، وكذلك بما هي رمز القوة للجماعة الوطنية، واهم كيان حيوي يحافظ من خلاله المجتمع على وجوده وسيادته وشخصيته الاعتبارية المميزة، فإن تدمير هذه المؤسسات قد جعل الجنوبيين باعتبارهم جماعة سياسية في عجزٍ تامٍ عن حماية أنفسهم وكيانهم ومجالهم الحيوي، وعرّضهم لكل صنوف التهديدات منذ الحرب حتى يومنا هذا. والأمثلة كثيرة على ذلك، وأكثرها دلالة هو ما جعل محافظِين كبيرتِين (أبين وشبوة) في عام 2011 تقعان بقبضة عشرات من المسلحين أسلحة خفيفة في لمح البصر، بينما كانت قوات الأمن والجيش (الشمالية) في موضع المتفرج، وفي حالات عديدة لم تكتف بدور المتفرج (السلبي)، بل قامت بتسهيل ودعم الجماعات المسلحة.
نجم عن عملية تدمير المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية الجنوبية، ونهب مؤسسات القطاع العام الاقتصادية من تعاونيات ومزارع ومصانع؛ تسريح مئات آلاف من الموظفين قسرياً، بين ذكورٍ وإناثٍ، وهذا ما جعل الجنوبيون يرزحون تحت وطأة أوضاعٍ معيشيةٍ صعبةٍ للغاية، ويصابون بحالةٍ مفرطةٍ من الشعور بالإحباط واليأس والحرمان. وهي حالة يُصطلح عليها في علم النفس ب"وضعية الصدمة"، أي عدم القدرة على التكيّف مع الأوضاع المفروضة قهراً، وإحساس المرء بأنه لا يستطيع التحكم في وضعه، وعدم القدرة على التغلب على الصعوبات والحوادث غير المتوقعة، وعدم احترام المرء لذاته..إلخ.وقد نجم عن ذلك بروز ظواهر عديدة كالانتحار والأمراض النفسية والطلاق والعنف والثأر... وبما أن بعض الظواهر ليست ظواهر شديدة الانتشار في المجتمعات الإسلامية، كظاهرة الانتحار مثلاً، فإن وجودها له دلالة خطيرة من الناحية الاجتماعية والسياسية، إذا تشير إلى أن الحياة غدت جحيماً حقيقياً لا يُطاق.
كان الاختلاف جوهرياً بين نظام الدولة في الجنوب ونظام الجمهورية العربية اليمنية، الأول كان يقوم على الملكية العامة لأدوات وعلاقات الإنتاج، والآخر يقوم على قُدْسيّة الملكية الخاصة، مما تعني أن الناس في الجنوب كانوا يعتمدون بشكلٍ كليٍّ على الوظيفة العامة وشبكة الضمان الاجتماعي التي توفرها الدولة بما فيها مجانية التعليم والصحة والمواصلات، ودعم المواد الغذائية والاستهلاكية وتوفيرها بما يتناسب مع قدرات المواطنين الشرائية... وربما كانت الجريمة في عمقها المادي والمعنوي تكمن هنا؛ فبتدمير المؤسسات،وإلغاء شبكة الضمان الاجتماعي والاقتصادي كاملةً تم حرمان الجنوبيين من الحصول على فرص الحياة في مستواها البسيط. وقد أدّى ذلك إلى انتشار الأمراض والأوبئة وسوء التغذية خصوصاً عند الأطفال والموت المُبكر والتفكك الأسري وجنوح الأطفال وزواج الصغيرات والهجرة والتشرد وعمالة الأطفال وحرمانهم من فرص التعليم..إلخ. وما جعل هذا الوضع وضعاً مقصوداً، ومرغوباً به في نفس الوقت، وليس وضعاً طبيعياً كنتيجة لتطبيق نظام مختلف كلياً كما يحلوا للبعض تفسيرها، أن النظام الجديد لم يفعل شيئاً أمام هذه الفجوة الكبيرة الناشئة عن عملية "فرض" نظامه، بل زاد عليه تسريح مئات الآلاف من الموظفين، ونهب وتدمير المؤسسات والمصانع والمتاجر والتعاونيات وكل ما من شأنه أن يُشكل مصدراً ضئيلاً للكسب.وبدا الهدف واضحاً بالإصرار على إخضاع الجنوبيين عمداً لظروفٍ معيشيةٍ يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
القتل الممنهج الذي طال الجنوبيين، وقد اتخذ هذا الأمر مسارين: المسار الأول تم في الفترة الواقعة
بين 90-94م ، حيث تم اغتيال أكثر من 160 من كوادر الدولة الجنوبية في صنعاء. أما المسار الثاني فأتخذ شكلا أكثر منهجية، وتم سن قوانين لأجل ذلك، وهو ما تنبه له تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش (Human Right Watch) الصادر في ديسمبر 2009 م، الذي كان صارما في التشديد على أن يتم وضع حد لاستخدام الاتهامات الجنائية المبهمة والفضفاضة، مثل المواد 125 و 612من قانون الجرائم والعقوبات لعام 1994، الذي يعاقب بالإعدام كل من "قصد المساس و"أذاع أخبار... أو إشاعات كاذبة أو.. عمد "* باستقلال الجمهورية أو وحدتها أو سلامة أراضيها إلى دعاية [ب] إثارة الفزع بين الناس أو إضعاف الروح المعنوية في الشعب"، على التوالي والمادة 136 التي تعاقب بالسجن ثلاث سنوات كل من "أذاع أخباراً... أو إشاعات كاذبة... بقصد تكدير الأمن العام أو... إلحاق ضرر بالمصلحة العامة". ويجب إلغاء هذه المواد وتعديل المواد 127 و 128 و 129 و 131 لإلغاء الاتهامات الفضفاضة المبهمة إلى حد بعيد.
في تقريرها سالف الذكر "باسم الوحدة.. قتل الجنوبيين"، تشير هيومن رايتس ووتش إلى أن الاحتجاجات الستة التي تعمقت في التحقيق فيها، انتهكت قوات الأمن اليمنية جميع أوجه المبادئ الأساسية للأمم المتحدة. ففي أغلب هذه الاحتجاجات، لم يمثل المحتجون تهديداً على الشرطة أو آخرين بشكل استدعي استخدام القوة المميتة، فأغلب المظاهرات كانت سلمية وراح يردد فيها مدنيون عُزل شعارات ويرفعون اللافتات. وعندما بدأت أعمال إلقاء الحجارة أو غير ذلك من أعمال العنف، كان بإمكان قوات الأمن اللجوء إلى سُبُل غير مميتة لاحتواء هذا العنف. ولم تقم قوات الأمن في أي من المظاهرات التي حققت فيها هيومن رايتس ووتش، بدعوة المتظاهرين إلى التفرق، أو هي أطلقت أعيرة نارية تحذيرية، أو غير ذلك من سُبُل تحذير المتظاهرين بأنها مقدمة على استخدام القوة المميتة. وفي أغلب هذه المظاهرات، لم تبذل الشرطة محاولات جدية تُذكر لاستخدام سبل غير مميتة لتفريق الحشود، مثل خراطيم المياه أو الرصاصات المطاطية أو القنابل المسيلة للدموع. وعندما استخدمت الغاز المسيل للدموع تلتها على الفور باستخدام الذخيرة الحية. كما رصد التقرير، بالإضافة إلى الاحتجاز التعسفي الجماعي بدون اتهامات وبدون سند قانوني، والمحاكمات غير العادلة، واحتجاز الأطفال دون السن القانونية، والتعذيب والخطف والإخفاء القسري، إصرار النظام على حرمان المصابين من الحصول على الرعاية الطبية، حيث قام الأمن بمنع المستشفيات العامة من استقبال أو علاج المصابين جراء الاحتجاجات، ووضعت ضباط من الأمن السياسي وأجهزة أمنية أخرى في المستشفيات، بل ونفذت هجمات داخل المستشفيات وأخذت مرضى مصابين من على أسرتهم، ومثل هذه الأعمال تعرض حياة المصابين لخطر جسيم، وكان كثيرون منهم قد أصيبوا بأعيرة نارية على نحو غير قانوني من قبل قوات الأمن. وفي تقرير أحدث، دعت المنظمة الحكومة الانتقالية في اليمن إلى اتخاذ خطوات عاجلة لضمان تحقق العدالة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ويجب على السلطات، ضمن هذه الجهود، أن تجري على الفور تحقيقا في مقتل ما لا يقل عن أربعة متظاهرين في مصادمات مع قوات أمن الدولة بعدن في 20 و21 فبراير/شباط 2013.
وما من شك أن الانتهاكات وعمليات التدمير الممنهجة غدت شبكة عذاب محكمة يتسع مداها ليشمل حياة أبناء الجنوب في كافة مجالات الحياة، الخاصة منها والعامة. فمنذ غزو الجنوب في 94م، باتت الانتهاكات، كما يرى المفكر أبو بكر السقاف، تتويجاً دموياً للعنف الممنهج واستمراراً لمحاولة جعل أبناء الجنوب في أوضاعٍ ليس بمقدورهم التأقلم معها. كما بات الجنوبي يُعامل كمُدانٍ حتى تثبت براءته في كل يوم، وهذا الشعور عبءٌ نفسيٌّ مُدمّرٌ، قد يتيح في ما يتيح عصاباً مدمراً للذات والآخر.
وهذه الانتهاكات لا تشير إلى حوادثٍ عرضيةٍ أو عابرة في عهد ما بعد الحرب، بل تُلخِّص سياسية رسمية وجدت طريقها إلى الحياة اليومية في الجنوب منذ 7/7/1994م، وهي تصفية القواعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية بصورة هوجاء، وقد وصل الأمر حتى إلى محاولة تصفية القطاع الخاص بواسطة الترهيب والمحاكمات رغم بُعد أصحابه عن السياسة. إن صفة الجنوبي، كما يذهب السقاف، كانت باستمرار هي المستهدفة. وبمراجعة نص المادتين (2) و (3) من اتفاقية " منع جرائم الإبادة الجماعية"، يمكن استخلاص التالي:
لا يوجد حد أدنى لجريمة الإبادة الجماعية في حد ذاتها، بل أنها تحدد على أساس تحديد التدني الأخلاقي المرتكب في أفعال محددة تتم بقصد التدمير أو تحويل مجموعة كلياً أو جزئياً أو قطاع جوهري من المجموعة إلى "كيان غير حيوي".
تتعلق جريمة الإبادة الجماعية بالقصد في تهديد وجود جماعة محددة حتى لو لم يتحقق تدمير تلك الجماعة.
تتعلق جريمة الإبادة الجماعية كذلك بقصد القضاء على التطور البيولوجي والسيكولوجي الإيجابي لجماعة ما سواء عن طريق الأذى الجسدي أو النفسي أو عن طريق إعاقة النمو الاجتماعي والسياسي للجماعة.
على ضوء ذلك، يتضح من خلال رصد وتحليل طبيعة وأنماط الانتهاكات والجرائم المرتكبة أن النزوع نحو إحداث التدمير الممنهج بتحويل الجنوب كلياً أو جزئياً أو قطاع جوهري منه إلى "كيان غير حيوي" كان يجري وفق سياقٍ مرغوبٍ به سواء تم الإفصاح عنه أم لم يتم، لكن نتائجه كانت أكثر جلاء وبروز وتعاظم مع مرور الوقت، وهو الأمر الذي لامسه القانوني اليمني عبد الناصر المودع في سياق حديثه عن هشاشة الكيان الجنوبي اليوم بفعل تدمير المؤسسات العسكرية والسياسية الجنوبية منذ حرب 1994م والذي أوردناه في موضعٍ سابقٍ من هذه الدراسة.
وهذا التدمير الذي تم وفق خطة ممنهجة، ومركبة من طائفة واسعة من الأفعال المختلفة،سعت إلى تدمير الأسس الضرورية لحياة الجنوبيين باعتبارهم جماعة سياسية ووطنية بهدف القضاء على وجودهم الفاعل. وتتضمن تلك الخطة تحطيم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والقيم والرموز المفضلة عند الجنوبيين، وتحطيم أمانهم الشخصي وحرياتهم وصحتهم وكرامتهم ومقدراتهم وحتى حياة هؤلاء الأفراد وبصفتهم كجزء من جماعة مفهوم أنها جماعة في ذاتها. وهذا هو لب جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للقانوني الدولي رافائيل ليمكين الذي صك هذه المصطلح .
التسلطية بقوة السيف والساعد مخاطر العنف والعنف المضاد
بين العنف والسلطة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية التأثير والتأثر ؛ فهما منفصلان ومتصلان في آن واحد بحيث تتأسس الثانية على توقف الاول والعنف هو اولاً قبل- سياسي لأنه يشير الى الوضعية التي تسبق ظهور سلطة سياسية ما, وهو ثانياً ضد – سياسي لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظم السياسية وهو اخيراً ما بعد – سياسي لأنه يبعد السياسية عن السلطة وينقل مركز القوة والنفوذ الى دوائر اخرى خارج المجال السياسي وقواعد لعبته المعروفة والمتعارف عليها منذ فجر التاريخ , نقل مركز القوة الى دوائر وبؤر اخرى خطرة غير خاضعة للتحكم والسيطرة والتنبوء تتجلى بصور شتى ؛فوضوية بربرية وفوضوية وهمجية ووحشية وثأرية وانتقامية وتمزيقية تجعل من التعايش والتساكن والتفاهم والتجاور الاجتماعي المطمئن جحيم لا يطاق وأمر مستحيلا حتى لاولئك الذين لم يكونون طرف من اطرافه المباشرة , لا سيما في المجتمعات العربية التقليدية الثأرية الهشة , .
وربما كان الثار من بين جميع مظاهر العنف اخطرها على الاطلاق ، ذلك لان الثار الحر يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، ففي كل مرة ينبثق منها من أي نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار كالنار في الهشيم الى ان يعم مجمل الجسد الاجتماعي ، ويهدد وجوده بالخطر . وهذا ما نراه في ماساة الشعب الصومالي الشقيق وكارثة افغانستان وسوريا والعراق ، اذان اقل عنف يمكن ان يدفع الى تصاعد كارثي ، فنحن جميعا نعرف ان مشهد العنف له شيء من العدوى ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى ، فاتجاه العنف يمكن بعد يظهر التعصب مدمرا كالتسامح معه تماما ، وعندما يصبح العنف ظاهر يومية وشيء معاش ومألوف في حياة الناس .
يوجد الكثيرون ممن ينساقون بحرية وحماس وحمية اليه ،كمايوجد اخرون ممن يعارضونه ويستبشعون نتائجه مكتفين بترديد خواطرهم السلامية الطيبة بدون ان يفعلوا شيئا لايقاف عجلته المهلكة, ولكنهم بهذا الموقف السلبي هم انفسهم ، غالبا الذين يتيحون له الشيوع والانتشار والدوام والهيمنة حسب المفكر الفرنسي رينيه جيرار في كتابه ( العنف المقدس ) اذ يشبه العنف في المجتمعات الثارية كمجتماعاتنا (( باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن ان يلقي عليه بقصد اطفائه ))
ورغم هذا التعارض بين السلطة السياسية والعنف من حيث الماهية، فإن العنف يجد نفسه تجريبياً مقترناً دائماً بالسلطة ومتداخلاً معها اذ يشغل مكانة داخلها، وداخل السياسة بما هي علاقات قوى تنافسية واستراتيجات مصالح متصارعة وهذا ما يظهر بقوة في مقدمة ابن خلدون وفي اعمال نيقولا ميكافيللي، الذي كان اول من حدد تقديرهما اي «العنف والسلطة» باكبر قدر ممكن من الدقة لا سيما في كتابه الشهير الأمير انجيل السياسية الحديثة إذ أن تقدير كمية العنف والسلطة هو ما يؤسس في نظره السياسة والمجال السياسي المستقل بقوانينه الخاصة ويتعلق الامر هنا بمقدار ما تحتاجه السلطة السياسية من العنف للحفاظ على السياسية، دون الخطأ في تقديره لأن الافراط في مقدار العنف يلغي السلطة فعلاً ويهدد السياسة والنظام السياسي بالتفكك والاضمحلال والزوال , وهذا هو معنى قول ابو الحسن الماوردي ( لا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) الاحكام السلطانية .
وترى كل من الامريكية حنة ارندت وكلود لوفور بأن العنف يفضي الى اختفاء السياسة في الانظمة التسلطية , واحلال العنف قوة تسلطية وحيدة محل السلطة السياسية يسيران بنفس الوتيرة ويتلازمان بحيث ان حضور احدهما يعني غياب الآخر لأن حلول العنف محل السلطة جعل هذه الاخيرة ضائعة المعالم وغير متعرف عليها وعلى شرعيتها السياسية , وبذلك كان الطغيان والاستبداد اللذان يستندان على قوة العنف والقهر والاجبار هو تسلطية وليس سلطة حقيقية اذ لا تكون المبادئ (المداخل والمخارج) مستبطنة من طرف اولئك الذين يخضعون له اي المحكومين به فضلاً عن ذلك فهو لا يتوفر على دعامة ايديولوجية سوى ارادة المستبد الحسنة او السيئة .
ومثلما اكد افلاطون بأن المستبد بوصفه سجين عالم باطني لا يستطيع السيطرة عليه يعيش مفتوناً باضطراب رغباته واهوائه الخاصة به، اذ ان الاستبداد شكل سياسي يوجه فيه العنف الباطني للمستبد السلطة ويحيلها الى تسلط , وهكذا نتعرف في هذا التحليل على أحد اوجه ال«بدون- اساس» الذي اشار اليه هيدجر في كتابه (مبدأ العلة) فالقوى الاستبدادية لا تعرف لماذا ولا بواسطة ماذا هي جائرة انها هي نفسها تسقط اولاً ضحية هذا الجور قبل ان تصير استبدادية، انها لا تعلم بتاتاً بأن العنف «بدون لماذا» «بدون علة» «بدون- اساس» يستحيل تبريره بل ينكشف بعده باطل وجور لايجب السكوت عليه .

ان السلطة التي تتخذ من العنف الخيار الوحيد في حل مشكلاتها وأزماتها تعمل على تقويض ذاتها وتهديد حياة مجتمعها، اذ يستحيل تبرير مشروعية العنف في كل الحالات، فاذا لم يكن العنف استثناء تستدعيه ضرورة قاهرة وفي لحظة مباغتة للحفاظ على حياة الناس ومصالحهم وتأمين سعادتهم ومستقبلهم ضد اي تهديد خارجي مؤكد، فإن السياسة والتسلطة السياسية تضع نفسها على شفير الهاوية و«حينما يكون الحصان على شفأ الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لا يقافه».
اما القوى الاستعمارية والاحتلالية الداخلية والخارجية فالعنف والعنف العاري من كل تبرير هو أرومتها الجوهرية أليس هذا هو حال قوى الهيمنة التقليدية الشمالية التي حولت مشروع (فخ الوحدة )الدبلوماسي الماكر الى جريمة حرب تكفيرية شاملة و تدمير ونهب واحتلال غاشم للجنوب دولة وشعب وارض ووطن وسيادة وتاريخ وهوية , منذ اليوم الاولى من الوقوع في شركها الكارثي , انني وانا اشهد تلك الجرائم والمذابح الوحشية التي ترتكبها عصابات الغزو والاحتلال هذه الايام في الضالع الباسلة واخرتها مذبحة اليوم البالغة القسوة والوحشية , واعود بالذاكرة الى البدايات , في مطلع تسعينات القرن الماضي حينما قدر للجنوبيين الذهاب الى((( صنعاء العاصمة الوحدوية ))) وكيف استقبلتهم قوى الغدر والاجرام ذاتها في دارها وضيافتها بان اعدت لهم القتل والموت الزؤوم غدرا وعدوانا وعلى نحو منهجي مقصود ومخطط اذ فتكت في باكورة السنتين الاولى من الجريمة باكثر من 160 شهيد من خيرة قيادات وكوادر دولة الجنوب المسالمين العزل , وقيدت تلك الجرائم ضد مجهول .
حينما نستذكر البدايات الغادرة وما تلاها من جرائم بشعة جرائم ضد الانسانية وجريمة الابادة الجماعية التي ارتكبتها قوى الغزو والتكفير والاحتلال منذ الاجتياح العسكري الهمجي في 94 م بحق الجنوبيين ونربطها مع ما تم بعدها ومازال مستمر حتى اللحظة بعد عقدين من الجريمة والعنف المفرط نعتقد جازمين ان ثمة ارادة واستراتيجية واعية عند هذه القوى الشريرة في اخضاع وقهر شعب الجنوب بهذه الطريقة المروعة من القتل والمزيد من القتل ولا شيء غير القتل بلا حدود , قتل الاجداد والابناء والاحفاد , كما يحصل اليوم في الضالع الابية وحضرموت الثائرة , تحت شعار وحدتهم الدموية , التي هي حقا وفعلا ظلت ومازالت امينة مع ذاتها وهويتها الاصلية وهوية وارادة اصحابها , وهذا هو ما جعل كل شعب الجنوب يثور وينتفض ويهب ويقاوم هذا الاحتلال الغاشم الذي ارتكب بغزوه وتكفيره واحتلاله افضع الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية انها جريمة الإبادة الجماعية التي هي غاية ونتيجة كل حرب استعمارية خارجية أو داخلية، بل أن منطق الحرب ذاته ينطوي بالضرورة على جريمة الإبادة الجماعية.
فالحرب في معناها اللغوي تعني القطع، البتر، الفصل، ومن هنا اشتقت أسماء “الحربة” بمعنى الحد القاطع، والحرابة بمعنى قطع الطريق أو التقطّع. والحرب بما أنها، وبطريقة ما، شكل من أشكال التفاعل والاتصال بين الذوات الاجتماعية، فهي تعني بأن العلاقة بين الذوات قد استنفذت جميع قنوات التواصل والاتصال والتفاعل العقلاني الإنساني الحواري التشاوري والكلامي السلمي.. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للوحدة والتوحد والاتحاد والعيش المشترك في مجتمع أمن ومستقر .
الوحدة بما هي اندماج اجتماعي وخير سياسي ونفع اقتصادي ومساواة وتكافوء فرص وتنافس شريف وتعاون وتضامن واحترام وثقة وتفاهم ومودة وتعاشر وتساكن ونما وتقدم ورقي وازدهار وامن وعدل وحرية وسلم وعزة وكرامة وحماية ورحمة وشفقة ومشاعر متبادلة …الخ الوحدة التي هي دائم وابد على الطرف النقيض للحرب والقتل والتدمير والاحتلال فحينما تنشب الحرب، تختفي الوحدة، وحينما تحضر الوحدة تغيب الحرب، إذ أن الوحدة هي كما اسلفنا ونكرر وصل واتصال وتواصل وتفاهم وانسجام واحترام واعتراف متبادل بين الأطراف الداخلة فيها انها ويجب ان تكون حياة وليس قتل وموت !!! إما الحرب فهي قطع وقطيعة وعنف وتدمير، كره وعدوان وقتل وحرمان، حقد وقهر وثأر وانتقام وشر وظلم وجرم وقسوة وفحش ومنكر وكل ما يمكن تخيله من آثام وعذابات ومرارات وجراحات تظل غائرة في النفوس والاجساد حتى بعد زوالها “.
منذ 24 عام عام يمضي وعام يأتي والجريمة تزداد والعنف يتسع والضحايا تزداد والبشاعة تتسيد والقسوة تتضاعف , والمجازر ترتكب ضد شعب الجنوب المسالم الاعزل في ظل صمت مهين للناس في الشمال , ولا تلوح بارقة امل لعمل شيء في سبيل ايقاف هذا العنف المفرط والقتل المجاني للنساء والاطفال في الضالع والجنوب عامة , انني اكتب هذا والحزن والغضب يخنقني مما بلغناه من حال ينذر باشد الاخطار على حياة الجميع في المستقبل , القتل بهذه الصورة يا جماعة لم يبقي للباطل طريق , وكلما طال سكوت الناس زادت احتمالات انتشاره , الوحدة يا جماعة ليست بكل هذا العنف المفرط والموت والقمع والقتل البشع والمجازر المروعة , الوحدة يا خبره ليست بكل هذا العتاد الرهيب من القتلة والضبعان والذئاب المتعطشة للدم والجريمة والجند والسلاح , الوحدة ليست بكل هذا الغل والحقد والسخط والانحطاط فاذا لم تكن في القلب فمن المستحيل ان تكون في اي مكان أخر , وحينما يزيد القتل فعلى الجميع ان يستشعر المسؤولية قبل فوات الاوان
ثمة ارادة قصوى في صنعاء لدفع الناس دفعا الى الاحباط وفقدان الامل من جدوى المقاومة السلمية , نحن مجتمعات عربية تقليدية ونفهم بعض , الجور زاد ولا معنى للكلام حينما يفقد الناس صبرهم ويجن جنونهم , وللصبر حدود , ولا مجال للامنيات والرهانات هنا , المسالة ليست اخلاقية ولا ايديولوجية ابدا انا هنا اكرر للمرة الاف , ان العيش تحت التهديد والقتل والعدوان لن يجعل الناس افضل حال بل قد يدفعهم الى القيام ردود افعال لم تكن بالحسبان , فهل من يدرك الخطر هنا والان , ثمة ارادة قتل وتصميم عجيب عند قوى الشر والجريمة الى مواصلة السير في هذا المنحدر الى النهاية , فاذا ما تركت وشأنها فقد نجد انفسنا جميعا في آتون مهلكة لا احد يعلم اغوارها لا سمح الله , والناس هم الناس في كل مكان وزمان احفاد هابيل وقابيل , هل من يفهمني ؟؟؟؟؟!!!!
ان القوى التقليدية المهيمنة في صنعاء تسوق الجميع الى هاوية سحيقة بما ترتكبه اليوم في الجنوب المثخن بالجراح من جرائم ومذابح بشعة في الضالع وحضرموت ,
وهي بفضاعاتها هذه احلت العنف المفرط محل قوة الحق والاقناع المشروع بل انها استمرأت العنف وعملت جاهدة على خلق شروطه واسبابه حتى حينما لا تكون هذه الاسباب والشروط قائمة في الواقع، ، بدلاً من استثمار وتوظيف واغتنام فرصة مشروع « الاتحاد السلمي الذي ولد منفصلا كما اكد الراحل عبدالله البردوني » بدلا من اغتنامه تجربة وخبرة للتعارف والتعاون والخير والسلام والنمو والتقدم والازدهار وجعله ذكرى طيبة ونقطة مضيئة في حياة شعب الجنوب الذي اجبر على التضحية بكل شيء من اجل تحقيقة بهذا الصورة الجائرة بدلا من اغتنام المستفيدين لهذه الفرصة التي جاءت اشبه بهبة من السماء لصنعاء للاسف الشديد فضلت تلك القوى الشريرة اخضاعه بلحرب والعنف والاحتلال , اذ راحت التسلطية الحربية التكفيرية الاحتلالية منذ السنة الاولى و الاجتياح الغاشم في 94 وحتى الان تعمل على تقويض كل مقومات التعايش الجواري الاجتماعي التعاون الطيب بين الجنوبيين والشماليين وتعميق الفرقة والشقاق وتزرع العدوات والضغائن بين الناس بما لم يشهد تاريخ التعايش والجوار الطويل من الف السنين .
ولم تحاول طول السنين الماضية استئناف الفعل السياسي وقوة الحق القانوني، بل ظل العنف والتهديد والقمع والوعيد هو البديل، وها هي الحرب اليوم تطل برأسها من جديد بعد مومفبيك الحوار ومسرحية الاعتذار المهين لشعب الجنوب الثائر هاهي تلك القوى ذاتها قوى الحرب والتكفير والاحتلال تستئنف لعبتها الاثيرة لاسيما بعد ان خلعت بزتها القديمة وارتدت حلة ثورية وحصانة قضائية خليجية يمنية هاهي تلك القوى العنيفة تتأهب لاعلان الحرب الجديدة ضد شعب الجنوب الذي سئم القمع والوعود وكسر كل حواجز الخوف واعلن ثورته الوطنية التحررية من الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية الجنوبية الكاملة على ارضه وحدودة الكاملة .
فليعلم الجميع ان ممارسة العنف المفرط والقتل الوحشي سيخلق على المدى الطويل دينامياته الخاصة، وانماط علاقاته وقيمه واساليب ديمومته بحيث يستحيل على المجتمع وقواه السيطرة عليه وعلى نتائجه، ليس هناك ثمة امل في الافق الظليم لتجاوز هذا الوضع الذي صنعته سنوات طوال من ممارسة العنف العاري وماتزال سوى مزيد من العنف والخراب والدمار وها هي رقعة العنف تتسع يوماً بعد يوم في الجنوب والشمال وها هي السياسية تختفي من حياتنا كما تختفي معالم الطريق في عاصفة من الرمال وكلما غابت العقلانية السياسية، وحضر العنف والقتل ، كلما عجل بزوال السياسة وسلطتها وشرعيتها وتفكك النظام وكل يوم تتدهور فرص الحياة الأمنة في بلد تغلبت فيه الجريمة والقوة والسيف والساعد على العقل والعقد والحق والسياسة وتجاوزت كل احتمال الاحتمال , وليس ثمة قوة في هذا العالم يمكنها ارغام شعب على ارادة ما لا يريد ، كل جريمة اضافية توسع هوة الواسعة بين الشمال والجنوب , وتعزز القناعة الجنوبية بعادلة قضيتها الراسخة في فك الارتباط واستعادة السيادة , ولا شي يمكن انتظاره من تطويل هذا الامر غير المزيد من التدهور والتفسخ والنحلال , فهل هناك من يعقلها يا اهل الشمال , لسنا في بداية التاريخ ولا في نهايته , وقد عاش واتجاور اسلافنا هنا في شبه الجزيرة العربية منذ اللاف السنين دون ان تتردى العلاقات بينهم الى هذا الحضيض المخزي.

ختاما نقول لمؤتمر الرياض المزمع انعقاده الاحد القادم ان فهم حقيقة المشكلة الناشبة في جنوب الجزيرة العربية وفهم اسبابها الفعلية هو نصف الطريق الى حلها وان الجنوب وقضيته العادلة هو محور المشكلة اليمنية وبؤرتها الملتهبة وان أي حل ممكن لازمة اليمن الراهن لا يمكنه ان يتم بدون البحث العميق والجاد والمسئول في جذور هذه القضية التي ران الصمت عليها طويلا وينبغي ان لا يستمر اكثر من هذا حتى لا تكون العواقب وخيمة.
ونقترح على هذا المؤتمر ان لا يخلط بين متطلبات اللحظة الراهنة في مواجهة المد الايراني والتي تتطلب اتخاذ قرارات سريعة وعاجلة لانقاذ ما يمكن انقاذه من براثن السيطرة الحوثية في عدن والجنوب وبين المستحقات التاريخية السياسية العادلة للجنوب وشعبه المقاوم .
وان يتم تحديد مشروع مبادرة ومؤتمر لاحق لبحث قضية الجنوب ومصيره السياسي الكفيل بدمجه في مجلس التعاون الخليجي بعده العمق الاستراتيجي للجزيرة العربية ومستقبلها في ظل هذا الهجمة الايرانية الشديدة الخطورة والتهديد. وان من ينصح بتأجيل تحرير مدينة والمدن الجنوبية من قبضة المليشيات الحوثية الشمالية حتى تحرير صنعاء الخاضعة للحوثي خضوعا كليا هو ناصح يضمر الشر والكيد لليمن والخليج، على مؤتمر الرياض الحفاظ على ما هو بات ممكن الاحتفاظ به عصفور باليد افضل من عشرة عصافير فوق الشجرة، وكل ما اخشاه الآن اذا ما طال الصمت عن اغاثة ونجدة عدن وحضرموت والجنوب عامة ان يتم احباط المقاومة الجنوبية الحقيقة مما يجعلها تسلم امرها لقوة ايران الغاشمة ويستحيل استنهاضها اذا ما احبطت وفقدت الامل بالإغاثة العاجلة. عدن تستغيث فلا تحبطوها وتفقدونها الى اجل غير مسمى وكل ما على صنعاء وذمار ومحافظات الشمال هو ان تفعل ربع ما فعلته عدن حتى يستقيم ظلها وتستعيد مكانتها ويمكن ادماجها في النسيج السياسي والاجتماعي لشبه الجزيرة العربية التي تتأهب ايران الفارسية لبلعها وهضمها كما ابتلعت العراق والشام في غفلة من الزمن. والله من وراء القصد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.