لمقاهي مدينة المكلا القديمة عبق يفوح من ثنايا تاريخ مجيد، ولجلساتها حضورا طاغ في حياة كافة شرائح المجتمع، والحوارات التي تجمع روادها تشكل إحدى المحاولات البدائية لتشريح الواقع كما هو بطريقة مجردة قد لا تخلو من التندر والسخرية والفكاهة العابرة أو المعبرة عن مرارة تختلج في النفوس وتضطرب في الأفئدة. ومن بينها هذا الحوار الشيق الماتع. كان الصباح في مدينة المكلا ليس كصبحات الدنيا كلها، أشياء كثيرة تغيرت في عاصمة حضرموت، منذ أشهر، لم يعد للحياة معنى أو نكهة، صار البؤس شبحا جاثما على الصدور، ولا شيء غير التشبت بحبال الأمل وخيوط الرجاء يجعل الناس أكثر تمسكا بالعيش، كل شيء هناك كان قد تغير الحجر والبشر، الرمل والصخر، الشواطئ والبحر، الليل والنهار، كان مصبوغا بمسحة من الشقاء والحزن العميق وغيمة ثقيلة عصيه على الرحيل والنسيان .. وسط هذه الأجواء المشحونة اعتاد العم مبارك على مغادرة منزله باكرا في رحلة التنقيب عن لقمة العيش، اشتاق للأيام التي يولي فيها الأدبار بعيدا عن الحي الذي يقطنه بمنطقة ديس المكلا والكهرباء مستمرة من دون انقطاع. ذات يوم.. مضي في طريقه ساهما، فكره مشغول وخطواته غير منضبطة الإيقاع. يقف في الممرات الجانبية طويلا يحتار أين يمضي وأي منحى يختار ليقربه من السوق دون أن يلمحه صديق استلف منه مبلغ من المال، ولم يفي بوعد تسديده. وصل المقهى أخيرا، سحب كرسي وجلس أمام طاولة خشبية وحيدا بعيدا عن الناس والصخب الذي لا يطيقه. ألقى بعكازه جانبا، وطوى المسبحة في معصمة الأيمن، واخرج منديل ليمسح حبات العرق التي بدأت تتصبب من جبينة بغزارة، اليوم الجو (زره) والرطوبة عالية، لطفك يارب.. نطق بهذا الكلمات.. وعاد ليغوص في بحر من الصمت. لاحظ أن سحابة ثقيلة من الوجوم والضيق خيمت على وجوه ونفوس معظم من ارتادوا المقهى الشعبي أو مضوا في دروبهم بأجساد متعبة وثياب مهلهلة، ابتسم إبتسامة صفراء، وهو يصرخ مناديا أكثر من شخص ويلوح بكلتا يديه دون أن يلقى رد أو جواب.. قال محدثا نفسه: الكل شكله (مرفع المرايات وعطونا عدن) ولا مدوخين، معذورين والله، اللي شافوه ماهو قليل وين عادهم ماشي يبشر بخير طول، أعوذ بالله. صوت مباغت دب بقشعريرة خفيقة في أوصاله، واقتحم خلوته العابرة دون سابق إنذار.. العم مبارك كيف حالك واه الاخبار شيء جديد.. كان محدثه الذي جلس إلى جانبه شابا في الثلاثنيات من العمر أسمر، حليق الدقن، متوسط القامة، يخفي صلعه وسط رأسه ببقايا شعر ناعم أملس، تقاطيع وجهه متناسقة وملابسة أنيقة نسبياً. حدجة العم مبارك بنظرة باردة وهو يحتسي رشفة من كوب الشاي الأحمر الذي قدمه له المباشر في المقهى، وقال: لا جديد أبدا، شيء معك شغل، ولا (هدره) وتضييع وقت ياصالح. خليها على الله، بتقع بالسهالة، الجماعة قالوا بيخرجوا من المكلا، بيني وبين شكلهم غبقوا من صدق، الطائرات من دون طيار ما خلت لهم حالهم، تلاحقهم وين ماراحوا، والناس خلاص ضبحانه منهم. غليان ونقمة حتى من المقربين منهم واللي كانوا (يطبلوا) لهم. الكل صدم بهم، طلعوا مشبوهين، ولا لهم علاقة بحضرموت، ومدري هم اتباع عفاش ولا علي محسن. المهم يخرجوا، معي أنت ياعم مبارك. رد عليه العم مبارك وهو يمسح زجاج نظاراته القديمة ويقول: معك، معك.. بس شكلك ما تتابع الاخبار، الجماعة والمجلس الأهلي يتبادلوا الأدوار فيما بينهم، ونجحوا بإمتياز في إخماد التحركات الشعبية المطالبة بإخراج القاعدة، والتخلص من العناصر الفاسدة في المجلس، وأنتم في انتظار القائد وعاده ما ظهر ولا بيظهر. ايوه المكلا فيها رجال، بس من يقودهم.. ضحك العم مبارك.. وقال: بغيتوا من يتقدم الصفوف عشان لو (ودف) تضحكوا عليه، وتقولوا ذلا مسمخ، وأهبل ومتعرض، ويستاهل لابوه، من قال له يتهور، واحتمال تخونوه.. ومش بعيد عادكم تقعوا زي الشماليين لما خرجوا فرحانين بإعدام الثلاثا، ودعا عليهم دعوة شكلها بتلاحقهم إلى يوم الدين. أنتم بلا دعوة تتخبطوا في أنفسكم وكلكم شكوك وتخوين و(بهتة) كيف لأحد (هتف) عليكم!. نحن نختلف عنهم ياعم مبارك. كنك كذا (متحوش) اليوم.. أنتم حق (لحيج) ومن يتبعكم على خبيط الرماد (يغبق).. بس حق الحضارم.. لقوا، تركوا.. هوذا اللي فالحين فيه (تزنطوا) بأجدادكم وماضيكم، ولما (حن) الصدق جلستوا تتفرجوا على قبورهم وهي تهدم وتنسف وتسوى بالأرض. ما عليك ياعم مبارك، هدي أعصابك، بيقع خير، لحظة بدعي رنقلي.. هتف باسم الأخير الذي لبى النداء على التو كان رجلا ضخم الجثة، مفتول العضلات، أسمر اللون، على وجهه العريض تبدو اثار خدوش وجراح سطحية من معارك سابقة، تحدث بصوت أجش.. القاعدة مستمرين في تهديم القباب والأضرحة، ذيلا الخلق لوين رايحين بالبلاد، والله شكلهم ما بيجيبوها البر. واخرتها المكلا (بتعتصد عصيد)، و(بيشردوا) منها. رد عليه صالح بخنق، خلوكم التشاؤم، العقال بيتفاهموا معهم خلاص، والحلف بيتدخل بس منتظر إعلان ساعة الصفر!. ضرب رنقلي بيدة على الطاولة بقوة، ليريق نصف ما تبقى من كوب الشاي الذي يحتسيه العم مبارك، وقال بلهجة غاضبة حلف من قصدك، خله أول شيء يضبط الفوضى في الوادي، والحركات حق عصابات الحليلي، والجسر البري من صنعاء إلى سيئون، يوقفه، بعدين تعالى تكلم، كي بغيت ناس يقاتلون وهم يتمشون بسيارات لكزس اخر موديل.. الله يرحمه الشيخ سعد بن حبريش. كان العم مبارك محايدا في الحوار الصاخب الذي تفجر أمامه، وحريصا على إثارته كلما هدأت جبهات النقاش الحاد، وكأنه يدير مناظرة تلفزيونية. فجأة انزوى بكرسيه جانبا ليجيب على مكالمة وردته على هاتف جواله القديم، اتاه الصوت من بعيد: العم مبارك اليوم كما ما شي شغل المعلم ماسرح، (اضوي) البيت وبكره بنتواصل، الا اذا كان بغيت شغل مع الجماعة اللي كلمتك عليهم امس. أجاب: قلت لك لا، أصلا هذيلا (عديهم) حرام، وأفعالهم حرام، وانا ما بالوث نفسي اخر العمر بالشغل معاهم، أعقل وشوف غيري، وأنسى أني سألتك على شغل. أغلق العم مبارك هاتفه ويداه ترتجف.. أطلق تنهيدة طويلة، وقال بصوت خافت ما شي شغل والعيال كيف بنأكلهم ومن وين؟.. الحمدلله على كل شيء. يصوموا ولا أكلهم حرام. عاد العم مبارك إلى موقعه في الجلسة بالمقهى ولاحظ أن صالح ورنقلي انشغلا عنه وعن الحوار الذي دار بينهما، باللعب بهواتفهما النقالة، فطرح عليهما سؤال عن صفات القائد المنتظر لتحرير المكلا. فقال صالح المهم يكون من المكلا أو حضرموت. رد عليه رنقلي مش شرط حتى لو كان من الصين المهم يفك علينا، قاطعة صالح لازم يكون من أهل البلاد، فأجابه رنقلي ايش رأيك تقودهم انت. ومن هجوم حاد إلى نقد جارح اشتعلت معركة الألسن بينهما من جديد وعلا الصراخ. فحلق الجميع حولهما. والعم مبارك ينظر إليهما ويبتسم في صمت.
*معاني الكلمات:
1- الجو زره: طقس حار
2- مرفع المرايات وعطونا عدن: تجاهل الشخص وعدم تعبيره عمدا.