تقرير/ عبدالقادر باراس الحديث عن النازحين في فترة الحرب التي شنتها القوات الشمالية التابعة للرئيس السابق صالح ومليشيات الحوثي على محافظات الجنوب وبالذات مدينة عدن والذي ترتب عليه أكبر عملية نزوح لسكان أهالي مدينة عدن من مناطقهم إذ كان من نتائج هذا النزوح أن توزعوا على عدد من مناطق الشيخ عثمان والمنصورة ومدينة الشعب والبريقة، وقد كانت بالنسبة لهم ملاذا آمنا بعد هروبهم من شبح الموت الذي اجبرهم على التخلي عن منازلهم قسراً بسبب سقوط القذائف العشوائية وكذا الحصار. شهدت هذه المدينة التي أنشأتها شركة إنماء للتطوير العقاري المحدودة - عدن، تطورا ملحوظا في البناء والعمران مع بدايات الالفية الثالثة حيث احدثت طفرة نوعية في الحركة المعمارية على مساحتها الشاسعة وغدت مدينة متكاملة، تقع ما بين منطقة أبو حربة القريبة من مديرية المنصورة والخط الواصل إلى مدينة الشعب. وانماء مدينة سكنية جديدة تتميز بهدوئها وقلة سكانها، كثير من شققها بقيت مؤجرة أو خالية وملاكها خارج المدينة أو مهاجرون. المدينة كانت إلى قبل الحرب لا تبدو في عدد من أحيائها (مراحلها) مظاهر الحركة عدا الشارع الرئيسي فيها وبعض المحلات التجارية والمطاعم في شوارع أخرى منها. وفي اثناء الحرب شهدت هذه المدينة ازدحاما، حيث وفدت إليها أعداد كبيرة من النازحين من مناطق عدة كريتر، خورمكسر، المعلا والتواهي وكذا محافظة لحج. ومع اكتظاظ النازحين أصبحت مزدحمة وافتتحت كثير من المحلات التجارية وادخلوا الحركة اليها وانتعشت واعطت تأثيرا على حركتها بعد ان كانت مدينة هادئة لا يسكنها إلا القليل. تغيّرت معالم المدينة بعد ان شكل النازحون الجزء الأكبر من السكان على رغم ضعف امكانياتهم لكن اغلبيتهم يتقاضون رواتبهم ويصرفونها في شراء احتياجاتهم الضرورية. كثير من محلاتها كانت خالية عدا القليل منها ثم أصبحت ملاذا لأصحاب المحلات استطاعوا نقل بضاعتهم المخزونة من مناطق نزوحهم بالذات من اسواق كريتر وغيرها. ازدادت حركة التنقل من وإلى داخل المدينة وامتلأت شوارعها وساحاتها بكثير من سيارات الاسر النازحة واستحدث سوق للقات على مقربة من طريقها الرئيسي. عانى كثير من الأسر الذين لم يجدوا شقة تأويهم، لكن بعضا من الاسر خاصة الذين لا يملكون بيتًا أو أقرباء يمكن اللجوء إليهم طلبًا للمأوى اضطروا ان يسكنوا جماعة بالتشارك مع اسر أخرى بأكثر من 20 فرد رحمة فيما بينهم، سكنوا مع أولادهم في شقة واحدة حتى ان بعض من شبابهم لجأ النوم في باحة سلم البناية وكانوا يتبادلون بتوقيت متفق للدخول إلى الحمام بغرض الاغتسال وقضاء الحاجة. فيما أضطر بعض ارباب الأسر مجبرين لقبول العيش داخل محلات (دكاكين) برغم صعوبة العيش فيها لعدم وجود تهوية ملائمة حيث تتكون من غرفة واحدة وحمام صغير. وأمام حركة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة أثناء الحرب تحدث لصحيفة (عدن الغد) الشيخ علي باوزير، إمام وخطيب مسجد العادل بالمدينة قائلا: "عندما تمكن الحوثيون من السيطرة على مديريات خورمكسر وكريتر والمعلا والتواهي بدأ تدفق النازحين من هذه المناطق بكثافة، وكان هناك عدد قليل من النازحين من هذه المناطق، ولكن عندما انسحبت المقاومة من هذه المناطق تدفق النازحون بكثرة منها إلى مدينة إنماء وغيرها من المناطق التي لم تسقط بيد الحوثيين، ولكن النازحين من خورمكسر هم أول من اتجه إلى إنماء، حيث كانت هي أولى مناطق المواجهات". ويواصل الشيخ باوزير "في بداية الأمر لم يكن هناك أي ترتيب لاستقبال النازحين، حيث كانت الأعداد قليلة، ثم لما تزايدت أعداد النازحين بدأ الترتيب من خلال فتح المباني والعمارات السكنية الفارغة، ومعظمها كانت من المباني التابعة للسيد حسين الهمامي، صاحب مشروع (إنماء)، وكذلك الشيخ عبدالرحمن بانافع، صاحب شركة الرحاب، وكذلك غيرها من المباني والشقق التابعة لرجال أعمال وأناس خيرين كانوا هم المبادرين بعرض منازلهم لإيواء النازحين. وفتحت المدارس في مدينة إنماء وما جاورها (أبو حربة - الحسوة) لإيواء ما يمكن كذلك من النازحين. وبعض المساجد استقبلت أعدادا من النازحين مثل: (مسجد العادل، مسجد أبي بن كعب). أيضا كانت هناك شقق غير جاهزة (غير مشطبة) فتمت مساعدة عدد من النازحين لتوفير الاحتياجات الأساسية (توصيل الكهرباء - توصيل الماء - عمل أبواب ونوافذ). وقدمت الاحتياجات الأساسية لساكني المحلات وبعض الشقق من أدوات طباخة ونحوها. كان تكاتف أهل المدينة وتفاعلهم ملحوظا، حيث استقبل العديد من سكان (إنماء) بل معظمهم استقبلوا في بيوتهم العديد من النازحين حتى صار في البيت الواحد من أسرتين إلى عشر أسر وأكثر. كما تم العمل لتوزيع المواد الغذائية الإغاثية العاجلة، ولكن هذا بالتنسيق مع مؤسسات خيرية وعلى رأسها (مؤسسة السماحة ومؤسسة العادل)، حيث كان لها دور كبير في توفير المواد الغذائية والمساعدات. وكان الدور الأبرز لمسجد الخلفاء الراشدين ومسجد العادل بشكل أساسي. فتحت عدة عيادات طبية خيرية منها الذي استمر عمله إلى نهاية الحرب وما بعدها، ومنها ما كان مؤقتا". وعن أعداد الأسر النازحة إلى هذه المدينة السكنية يقول الشيخ باوزير "بلغت ما بين 5 آلاف إلى 6 آلاف أسرة، أي بما يقارب ثلاثة أضعاف سكان المدينة الأصليين، وهذه الزيادة أدت إلى حصول مشاكل في الخدمات خاصة الماء والكهرباء، وفي قضايا المجاري وتوفير غاز الطبخ والمواد الغذائية في المحلات، وكذا الدقيق في المخابز، وكل هذه المشاكل كانت المساجد تعمل على حلها بشتى الوسائل بالتعاون مع الخيرين والجهات المعنية". ويضيف الشيخ باوزير "كانت المساجد تقوم بجمع التبرعات من المصلين ومن التجار والخيرين وتشتري بها ما يحتاجه النازحون، حينها لم تكن السلطات المحلية موجودة باستثناء الأستاذ نايف البكري، وبعض المسئولين وهم كانوا عاجزين عن تقديم الكثير لأن الوضع كان أكبر من إمكانياتهم، ولهذا كان معظم ما تم إنجازه في مدينة إنماء، معتمدا على دور المساجد والمؤسسات الخيرية وأخص بالذكر مؤسستي (السماحة) و(العادل)". كثيرون كانوا يؤكدون بأن أئمة المساجد كان لهم دور بارز في تلك المدينة السكنية حيث هم من كانوا يديرون شئون المدينة فعليا وأصبحوا مرجعية للناس، حتى انه حدثت من بعض الافراد تصرفات في اثناء الحرب من تلقاء أنفسهم وقاموا باقتحام شقق خالية مملوكة لمواطنين بقوة السلاح في تلك المساكن بحجة دواعي انسانية لتسكن فيها اسر نازحة، حيث عبر ملاك المنازل المقتحمة عن استيائهم من إقدام البعض على مثل هذه التصرفات باعتبارها انتهاكا صريحا لملكية منازلهم حتى وإن كانت بدواعي إنسانية ما لم يكن هناك طلب إذن مسبق، وحملوا على من أجاز وساعد مثل هذا التصرف واعتبروها خطوة خطيرة ومسيئة للدين والأخلاق. يوضح الشيخ باوزير في هذا الجانب من التصرف "للأسف بعض الناس اقتحموا الشقق والمنازل المغلقة وتحججوا بالمساجد، وأن أئمة المساجد قد أذنوا لهم لعلمهم بثقة الناس بهم، وبسبب هذا اضطر أئمة المساجد لتوضيح موقفهم، وتكلموا بكل وضوح بأن هذا لا يصح ولا يجوز، ولا يسمح أن يفتح منزلا مغلقا إلا بإذن صاحبه، لكنهم لم يستطيعوا أن يمنعوا الناس من اقتحام المنازل المغلقة لشدة الموقف وصعوبة الحال، فاكتفى أئمة المساجد بالبيان والنصيحة ولم يتدخلوا فعليا، فظن بعض الناس أن أئمة المساجد موافقون على هذه الاقتحامات مع أنهم كما ذكرت قد تكلموا بوضوح عن حكم هذا وأنه لا يجوز". د. أبو عمر، أكاديمي بجامعة عدن، أحد الذين سكنوا بصحبة اسرته في المدينة، تحدث ل (عدن الغد) قائلا: "قبل أن نفكر في مغادرة منازلنا ومنطقتنا المعلا، صمدنا كثيراً مع عائلاتنا وعانينا أكثر ببقائنا في رحى المعارك التي دارت بين شوارعنا، يُضاف إليه معاناتنا في الحصول على قوتنا اليومي وعلى شربة ماء، وما رافق من انقطاع تام للكهرباء، وانتشار بعض الامراض منها كانت (حمى الضنك). ولأننا ما كنا لنسمح لأنفسنا بأن يبقى طفلنا الوحيد في رعب دائم، كان قرارنا كعائلة بأنه لا بد مما ليس منه بد، وهو النزوح، حزمنا أمتعتنا وكنزت في سيارتي ما تيسر لي حمله، وغادرنا المعلا إلى مدينة إنماء السكنية، وذلك بعد التنسيق مع أحد أصدقائي والذي يمتلك شقة هناك. دخلنا بيته بعد أن غادره قبل وصولنا وأخذت المفاتيح من جيرانه والذين نعرفهم أيضاً. مفتاح مكيف الهواء كان هو أول ما بدأنا بالبحث عنه، لأننا كنا بحاجة إلى النوم العميق وأولنا طفلي، فقد حُرمنا منه في منطقتنا المعلا، والأهم هو أننا بجانب ثلاجة الماء البارد، لكن جيراننا الجدد أبوا ذلك، فحضروا إلينا مرحبين ومطمئنين على أحوالنا، فذاك يحمل فرشاً ووسادات للنوم وآخر يحمل بطانيات، وأخريات يحملن طعاما جاهزا لنأكله، وبعضهم يحمل المعلبات، بل أن بعضهم يحمل بعض الملابس المستخدمة النظيفة، بالإضافة إلى ما تيسر من أدوات الطبخ من أوانٍ وخلافه، وعبثاً حاولنا أن نقنعهم بأن كل شيء مما معهم قد أحضرناه معنا، إلا أنهم أجبرونا فأخذنا منهم ما أحضروه شاكرين لهم تعاطفهم معنا". ويواصل "رأينا أكثر من مأساة يدمى لها القلب ويدمع في مدينة إنماء، فهناك أسر وصلت على باب الله - وكلنا بالطبع على باب الله- لا ملجأ لهم ولا مأوى، ومن كان حظها من الأسر سعيداً عاشت مع ثلاث أو أربع عائلات في شقة واحدة، وهي الشقق ألتي إما كُسر بابها عنوة أو باستئذان أصحابها بعد التواصل معهم عن طريق المعارف، وطبعاً الكثير من أصحاب الشقق فضل أن يُسكِن عائلة في بيته برضاه قبل أن يأتي من يكسرها غصباً عنه، رأينا عائلات بأكملها تعيش في محلات بقالة مهجورة (دكاكين)، وهي غير صالحة على الإطلاق للسكن، لكن للضرورة أحكامها. وما هي إلا يومان أو ثلاثة أيام حتى أصبح الوضع طبيعيا، وكأنك تعيش هنا منذ سنوات، وما ساعد على ذلك هو انك تجد تقريبا كل معارفك في الشوارع والبقالات والأسواق، وإن اتجهت إلى منطقة الشيخ عثمان تجد من تبقى ممن لم تجدهم في مدينة إنماء، فتقضي جل وقتك في تبادل السلام والتحية والحديث معهم، وكل منهم يحكي قصته في منطقته وكيف غادرها، حتى اننا أصبحنا نتعامل مع البقالات بالدين (لحين وصول الراتب)، وكأننا من السكان القدامى. ختم الدكتور أبو عمر حديثه "على قدر فرحتنا بوصولنا وتأمين سكن لي مع أسرتي الصغيرة، واستقرارنا وخاصة بعد وصول رواتبنا واستكمال ما ينقصنا من مقتنيات ضرورية من الأسواق، إلا أن فرحتنا لم تتم، فالقذائف أصبحت تصل إلى قلب مدينة إنماء، ولعل أشهرها تلك التي سقطت على الشارع العام وفي قلب السوق، فكان التأهب للرحيل في أي لحظة إلى مكان آخر إذا ساءت الأمور. كما أن القصف كان يطال وبشكل شبه يومي مناطق مجاورة وخاصة المنصورة، وهي مناطق قريبة لنا في مدينة إنماء، وكنا نسمع يوميا عن قتلى وجرحى بين السكان، وكذلك ما كان يحدث في منطقة دار سعد من قصف، وربما كانت هي الأكثر حظاً من الضرر".