كان فناً أُغرم السورياليون به في القرن العشرين، أكثر مما أُغرم به أي فنانين أو هواة آخرين. وفي وسع المرء دائماً أن يتساءل عن سر ذلك الهيام السوريالي بفن يبدو للوهلة الأولى ساذجاً تبسيطياً، من ناحية المواضيع التي اختار رسمها كما من ناحية الأساليب الغنية التي يلجأ إليها من أجل التعبير عن تلك المواضيع. ونعرف أن تلك الأساليب تكاد تبدو من صنع أناس لم يدرسوا الفن على الإطلاق، بل أن كل ما يفعلونه إنما هو الجلوس في حدائق منازلهم ووضع الألوان إلى جانب بعضها بعضاً لتشكل، في نهاية الأمر، مشهداً هم أول المدهوشين لتشكله على ذلك النحو. إذاً، لعلنا لا نتجاوز هنا الحقيقة إن قلنا أن هذا الجانب «العفوي» أو «التلقائي» في ممارسة العملية الفنية هو الذي فتن السورياليين، الذين قام جزء أساس من نظرياتهم الفنية والشعرية على مبدأ التعبير التلقائي «الأوتوماتيكي» حيث يُترك للمشاعر أن تعبر عن نفسها، كما في الحلم، من دون أن يبدو أن ثمة تدخلاً عقلانياً ما، وكان هذا ينطبق لديهم أول ما ينطبق على الشعر وبعض الكتابة النثرية، لكنه ينطبق بخاصة أيضاً على الرسم الذي سيتسم طوال القرن العشرين بتلك السمات التي أول أوصل بها فنانون كبار أعمالهم إلى ذرى الغرابة والخيال.
إن هذا التعريف قد يبدو هنا في هذه الكلمات السريعة والمختصرة التي نحاول بها أن نعرفه، نوعاً من التبسيط. لكن اللافت فيه هو أنه إذ يتنطح للتعبير عما كانه ويكونه دائماً الفن السوريالي، إنما يعبر - في شكل أفضل - عن الفن الفطري، الذي من ناحية الوعي العقلاني لا يربطه رابط بالفن السوريالي. إذ أننا نعرف أن السوريالية تنطلق في نهاية الأمر من نوع عقلاني من التعبير الواعي ولا سيما لدى كبار رساميها - كي نبقي أنفسنا ضمن إطار الرسم الذي يشكل إطار موضوعنا هنا - في نهاية الأمر، يخضع لشروط ثقافية واعية، ويتركب على قدر لا يستهان به من المعارف والتقنيات، فيما نعرف أن الفن الفطري، هو في جوهره، تعبير حر لا علاقة له بالثقافة العامة.
وإذا كان هذا القول ينطبق على فنان ما أكثر من غيره، فإن هذا الفنان هو - نظرياً وتاريخياً - الفرنسي هنري روسو، المعروف باسم «الجمركجي»، والذي - من دون أن يكون مبتدع هذا النوع من الفن - عرف بكونه أحد كبار ممارسيه، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع هذا، حين يتأمل المرء عشرات اللوحات «الفطرية» التي رسمها روسو في حياته لا يسعه إلا أن يتساءل: هل هي فطرية حقاً؟ هل رسمت عفو الخاطر بأسلوب ساذج بسيط كما تقول الحكاية ويشهد العديد من اللوحات التي تبدو عفوية «ساذجة» في نهاية الأمر؟
الجواب الأول والبديهي هو: نعم. إنها لوحات فطرية تبدو في مجملها خارجة عن أي تصنيف أكاديمي. واللافت في هذا الإطار أن تنفيذها الذي يدين إلى الأحلام بقدر كبير من فاعليته، ثم بالتزامن - تاريخياً - مع ولادة علم الأحلام على يدي فرويد. ونقول إن هذا لافت لأن الحلم ومناخاته الدلالية، تبدو طاغية على معظم لوحات الجمركجي، بحيث أن من يدرس تلك اللوحات بدقة وتمعن، سيجد نفسه أمام العناصر المكونة لكل لوحة منها، في خضم علم الأحلام ودلالة التفاصيل في هذه الأحلام.
وإذا كان هذا القول ينطبق على أعمال بعينها من نتاجات هنري روسو، فإنه ينطبق بخاصة وبكل قوة على لوحات معينة له تنتشر في مسطحاتها المشاهد الطبيعية وعوالم الغابات والحيوانات، وتبدو للمتأمل - بعد كل شيء - ناضجة مفعمة بالترميز بحيث يمكن التساؤل حقاً عن حصة التلقائية الساذجة، وعن حصة الوعي القصدي في هذه اللوحات. والحقيقة أن دارسين كثراً تفحصوا، على مدى الزمن، بعض تلك اللوحات، ليطلعوا من ذلك باستنتاجات تتعارض تماماً مع مبادئ العفوية ولتقول بقدر كبير من اليقين، انتماء هذه اللوحات، المبكر بل السابق لأوانه، إلى القصدية السوريالية الواعية، من دون أن ينقص هذا شيئاً، من قيمة فن الجمركجي.
ومن هذه اللوحات التي نعنيها هنا لوحة «البوهيمية النائمة»، المعلقة اليوم في متحف الفن الحديث في نيويورك. وهي الأشهر والأكثر شعبية بين أعمال هنري روسو، إلى درجة أننا نرى نسخاً مطبوعة منها معلقة في ملايين البيوت، حتى وإن كان معظم أصحاب هذه البيوت لا يعرفون عن صاحب اللوحة شيئاً، ولا يفقهون أي شيء عن الفن، سواء كان فطرياً أم لا. كل ما في الأمر أن مناخ هذه اللوحة يطربهم ويشعرون معه بانشداد غريب إلى عالم الحلم الذي تمثله، ويدهشهم ذلك الحضور للأسد وللمرأة النائمة في مناخ واحد.
إن أول ما يمكن قوله عن هذه اللوحة هو أن عالمها الغريب، والمختلف عن أسلوب روسو المعتاد، جعل كثراً يرون طوال عشرات السنين أن اللوحة منحولة على روسو. ولكن الباحثين أكدوا أنها من رسمه، وزادوا أنه عن عمد أراد فيها أن يحاكي الفن الأكاديمي حين اكتشفه ورغب في الخروج من عزلته الفطرية. وكان ذلك في العام 1897، حين شارك بهذه اللوحة في معرض المستقلين. ومن هنا فإن روسو، اعتبر دائماً أن لوحته هذه لوحة «واقعية». بل أنه رسمها، انطلاقاً من رغبة بيّنة لديه في محاكاة لوحة لجيروم عنوانها «صاحبا الجلالة» تستند إلى خرافة غجرية قديمة. وهكذا إذ استحوذ روسو على الرؤية وعلى الموضوع، تحرك على مساحة اللوحة ليربط بين فطريته المعهودة وبين هذا الموضوع المثقف، في رابط يمت في نهاية الأمر إلى عالم الأحلام بصلة وثيقة. ولقد تحدث روسو بنفسه عن هذه اللوحة، في رسالة له قائلاً: «أن لدينا هنا زنجية أفّاقة لا تتوقف عن التجوال عازفة على آلة الماندولين الخاصة بها. وهي لديها جرة الماء التي تستقي منها موضوعة إلى جانبها. وها هي هنا في اللوحة وقد نامت قليلاً إذ أنهكها تعب التجوال. وصدفة يمر أسد بالقرب منها، غير أنه يستنكف عن التهامها. ولعل الفضل في هذا الاستنكاف (وفي نجاة الزنجية بالتالي) يكمن في تأثير القمر في الكائنات... إنه تأثير شاعري (يخاطب الروح والعاطفة ولا يترك مكاناً للأشياء المادية)». وفي وصف روسو نفسه، فإن هذا المشهد يدور في صحراء خاوية خالية تبدو قائمة في أطراف الكون «أما البوهيمية السوداء فإنها تتزيا بثياب شرقية».
ولسنا في حاجة إلى التأكيد هنا أن لوحة «البوهيمية النائمة» كانت من أكثر لوحات روسو حظوة لدى السورياليين، الذين طالما تفننوا في دراسة كل عناصرها عنصراً عنصراً، من غرابة الموقف إلى غرابة ثياب النائمة إلى موقع الجرة والعصا، إلى تأثير القمر الفعال. بل ثمة من الباحثين من يرى في هذه اللوحة جذور الفن السوريالي على أساس أن هذا الفن إنما يقوم على عقلنة العفوية... لكن هذا بحث آخر.
حين رسم هنري روسو «البوهيمية النائمة» كان في الثالثة والخمسين من عمره. ومن المعروف أنه، هو المولود في العام 1844 (ليرحل في العام 1910) كان موظفاً في الجمارك الفرنسية، وأنه لم يتلق أية دراسة فنية في صباه... ولم يكن يرسم إلا في أوقات فراغه. ومع هذا فإنه رسم بكل جدية، عامداً أولاً إلى تقليد لوحات المعلمين التي كان يشاهدها في متحف اللوفر. وكان في الأربعين حين تقاعد من وظيفته لينصرف كلياً إلى الرسم بكل جوارحه وعفويته غير مبال بالقواعد الأكاديمية. وهو كان يبدي دهشته الدائمة من أساليب معاصريه الرسامين الذين كانوا، في رأيه، عاجزين عن «تلمس جذوة الفرح في الحياة». هذه الجذوة التي عبر عنها، هو، في عشرات اللوحات. ولقد كان غوغان أول الذين اعترفوا بموهبته، كما كانت حال بيكاسو من بعده.