إمتلاك الحقيقة يُلقي على صاحبها مسؤولية ما تتضمنه، وما تهدف إليه، بل ويقع عليه وزر إيصالها لمن له نفع يُرجى منها ، وبالمثل لمن يهمهم تجنبها واتقاء شرورها. امتلك الأنبباء والرُسُل حقيقة عن الواحد الأحد، الفرد الصمد، فصدعوا برسالات ربهم وأوصلوها للناس، رغم المعاناة الشديدة التي لاقوها في سبيل ذلك. ولنا في سيرهم ما يؤكد ذلك. العلماء والمكتشفون الأوائل لبعض حقائق الكون امتلكوا تلك الحقائق ووضعوها في خدمة تطور العلوم والتي انعكست، بالمقابل، إيجاباً في حياة البشر.
ولو أن أولئك العلماء الذين توصلوا لتلك الحقائق حبسوها في أنفسهم، ولم يوصلوها للناس، لكنا، وكان العالم في غير هذا الحال، نسير في ركاب التخلف. ولن نتمتع بالمنجزات الرائعة التي حققها التقدم العلمي للإنسان.
من هنا يمكن القول أن امتلاك الحقيقة مسؤولية وأمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها. والحقيقة يجب إلا تُجَير لغير ماهي عليه.
نحن في حياتنا العامة نمارس أحياناً تعسفاً في حق الحقيقة في أنفسنا بمحاولتناإخفائها، أو بالادعاء بغيرها. كما نمارس ذات السلوك مع الحقائق التي نعيشها في مجتمعنا في مختلف جوانب الحياة، كأن نعرف، مثلاً، طبيعة وحقيقة وضع معين أو مشكلة محددة تسببت لنا في مضايقة لم نستطع تحملها، لكننا لا نُرجِع الأسباب إلى مسبباتها الحقيقية، ولكن نعيدها لشيء نضمره في نفوسنا. نقرر لوي عنق الحقيقة وتجييرها لصالح ما نضمره، وليس لما يجب أن تُجَيش تلك الحقيقة لفضحه وكشفه، لنضمن سيراً سوياً لحياتنا في مجتمعنا. وذلك السلوك يمكن أن يندرج تحت مسمى التضليل، أو هو التضليل ذاته.
تجيير الحقيقة لغير ذاتها وكنهها هو ما تشتغل عليه المطابخ السياسية المعادية، وما يسمى بالطابور الخامس لإحداث البلبلات في الشارع المُستهدف خلخلة صفوفه. وقد يحدث أن ينخرط فيها بعض المواطنين عن جهل وعاطفة عمياء وحماس في غير مكانه
وفي اعتقادي، أننا في المناطق المحررة من جنوبنا العربي الحبيب نواجه نوعاً من تلك الحرب، وهي تستهدف النيل من مكتسبات حققتها الجماهير الجنوبية بقيادة حراكها السلمي وذلك في محاولة من مدبريها ثني مسيرة النضال الثوري الجنوبي عن مواصلة طريقها نحو هدف التحرير والاستقلال، وذلك بتحميل القيادات الوطنية وزر المشكلات التي تواجه سير الحياة في تلك المناطق وإثارة الشارع عليهم، وذلك تمهيداً لإقصائهم عن المشهد.
من يشنون حملات التشكيك والتشهير بحق القيادات الوطنية الحراكية يعرفون جيداً طبيعة المرحلة وخطورتها، بل ويعلمون أن ما تسمى بالشرعية لم تأتي بهم إلى سدة السلطة محبة في سواد عيونهم، ولكنها فعلت ذلك بعد أن غَلُب حمارها. ولا أريد أن أسيء الظن فأقول أنها ربما أرادت تكريمهم على نضالهم بالطريقة التي تم بها تكريم المناضل الجنوبي الفذ الشهيد جعفر محمد سعد.
لا أحد ينكر الفساد الذي مايزال مستشرياً في مرافق الدولة ومؤسساتها والذي يعد تراكماً لسياسة ممنهجة لسلطات الاحتلال اليمني اتبعتها وكرستها طوال العشرين عاماً التي خضع فيه جنوبنا لحكمهما وتم خلالها تكريس سياسة الفساد والإفساد في الجنوب.
لقد ركز المهاجمون والمشككون في القيادات الوطنية الجنوبية على فساد عام أو عامين منذ تولي تلك القيادات إدارة المحافظات المحررة ونسيوا أو تناسوا تركة فساد العشرين عاما والتي يعد فساد العامين جزءاً منه واستمراراً له.
ليس هناك مانع من النقد فذلك من حق المواطنين (الصالحين) الذين يهدفون بنقدهم الارتقاء بالواقع وتبيان أوجه القصور في عمل من تحمل مسؤولية عامة، أياً كان حجمها ومستواها، بل ويملي علينا واجبنا الوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم وهم يواجهون تلك المشكلات، لأن في حلها خير وصلاح لنا ولأمورحياتنا.
إننا قبل أن ننتقد أحد من الناس، يجب علينا إن نفترض وضع أنفسنا في مكانه لنرى كيف سيكون موقفنا وتصرفنا لو كنا في مكان من انتقدناه.
إن النضال من فوق السوم ، بحسب تعبير طيب الذكر المناضل زين هود، غير مجدٍ، كما أن النقد الجارح ورمي التهم جزافاً لن يُصلح الأمور بل يزيدها تعقيداً، ويمكن أن يُفضي، كذلك، إلى تثبيط همم المسؤولين، وسيجعلهم ينصرفون عن عملهم ويتفرغون لصد الحملات التي تستهدفهم وتنتقص من عملهم وجهودهم.