تعجبت لأمر شعبي في أرض الجنوب الحبيب وهو الذي ناضل وحقق نصره وحريته بعد أن دفع لقاء ذلك ثمناً باهضاً . فكم أم قُهِرت وتألمت ، كم زوجة ترملت ، كم أطفال تيتمت ، كم أب بات يندب حظه حسرات ! كم وكم من أسر تشردت ، كم مرضت وجاعت ثم احتسبت وماتت ألف مرة فاستيقظت .. وكأنهم طير الفنيق الأسطوري الذي كلما أحرقوا ما حوله يقوم من تحت الرماد أكثر عنفوان وأعظم صلابة وقوة. كيف لا وقد أثبت التاريخ القديم والمعاصر تلك الحقيقة المتأصلة في تركيبة هذا الشعب الذي اكتسب صفاته من حبات تراب أرضه المباركة التي باتت اليوم للأسف أسيرة ومقيدة ليست من أعدائها كلا والله ، فهي عصية عليهم ولا تقبل أن ينجس ترابها مغتصب ظالم أو محتل خبيث. ولو جثم على أرضها سنيناً فإنها تغطي نفسها بطبقة تحمي ترابها الطاهر من أن يلوثه الفجرة الأنجاس ثم تترقب أوان الخلاص فتقذف بهم وتزلزل الأرض من تحتهم أقدامهم ، وتغتسل بماء العزة والكرامة وتعود مخضرة مزهرة باهية الحسن والجمال يفوح منها عطر الحرية !
تلك الحرية التي أرضعتنا إياها هذه الأرض البتول الطهور جيل بعد جيل . واليوم .. وما أعجب اليوم حالنا كيف أصبح ! وكأنها تنادي فينا وتصرخ وهي مقيدة فكوا وثاقي فلولا أنتم لما بقي منكم باقي ، فأنتم أولادي وفلذة كبدي ، ونقطة ضعفي وسر قوتي ، فلا تأسروني بجهلكم وتقهروني بشتاتكم.
وتذكرت أبيات للشاعر المخضرم الدكتور إبراهيم ناجي في قصيده وملحمته الشهيرة الأطلال وكأن أرض الجنوب تنادي أبنائها اليوم وهم بتلك الصورة المؤسفة والواقع الأليم الذي نعانيه من اختلاف ونفاق وتقهقر بعد أن باتوا قاب قوسين أو أدنى من رسم معالم النصر في طريق الإستقلال والتحرير واستعادة الدولة المغتصبة . أنصتوا لنداء أرض الجنوب وهي تقول : ((أعطني حريتي أطلق يديّ إنني أعطيت ما استبقيت شيّ آه من قيدك أدمى معصمي لِمَ أبقيه، وما أبقى عِلَيَّ ؟ ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلام الأسر، والدنيا لدي !)) آاااااه من قيدكم أيها الجنوبيون كيف هانت أن تأسروا أرضاً موسومة بالحرية منذ الأزل ! متى تفيقوا من غيكم وفجوركم بعد خصامكم ! فأرض الجنوب لن تتحمل تقييدها طويلاً . واعلموا أنكم إن لم تنتهوا ستنتهوا. وسينفذ صبرها وتقول لكم إلام الأسر والدنيا لَدَيَّ برحابتها وكنوزها وجمالها وستهب نفسها لمن يستحقها .
وإنها لمصيبة أن يفرط الشعب بنصره ويسلم حريته لأيادٍ قذرة وكائنات نكره تنفق من الحرية وتعيش سعادتها الدينوية في مستنقع العبودية ! لذلك من المستحيل أن تستعيدوا دولة بل ولا يحق لكم أن يكون حتى مجرد حلم.. لطالما والوطن أشبه ب سفينة تغرق وملاحها يستصرخ.