هذه رسالة من العالم الآخر، أرسلها إلى كل من ارتبط ولا زال يرتبط بي، سواء من أحبتي الذين فارقوني وفارقتهم، أو إلى من وقف ضدي - طوال فترة الجهاد وحتى بعد موتي، ومازال يقف ضد من لا يزال على قيد الحياة من إخواني الثوار. أرسلها إلى المترددين الذين ليسوا مع الثورة ولا ضدها، ويبحثون عن الأعذار لكي لا ينتسبوا إليه. أرسلها إلى الخائفين على ما كسبوه في دنياهم متناسين الفضل العظيم الذي وعد الله به المجاهدين. أرسلها إلى من يحمّلني ويحمّل كل ثائر مسؤولية سُوء الأوضاع ويؤذينا بلسانه وبمؤازرته للطغاة، ويتناسى ويتجاهل كل جرائمهم! كما أرسلها إلى الطغاة أنفسهم الذين جعلهم الله السبب في استشهادي ليقيم عليهم الحُجة، وليكرمني في الوقت ذاته بالشهادة!
علَّ رسالتي تكون مواساة لأحبائي الذين فارقتهم. وعلها تكون عوناً لكل خائف وكل متردد ويعلم الحق ولكنه لا ينصره. وعلها تكون مفترق طريق لكل مناصر للقتلة ومؤيد لهم ممن لا يزال الله يريد بهم خيرا. وعلّها تكون موعظة لكل من لا يزال يؤذي الثائرين المجاهدين أو المناصرين لهم من الشعب المنتفض.
بداية أوجه كلامي لأحبائي لأواسيهم في مصيبتهم بفراقي، وهم كُثر، ولكني سأخص الأقربين منهم، وأولهم - حتماً- أمي. فأقول لها: أماه.. لا تحزني لفراقي فأنا معك بروحي وأنا حي أرزق في جنات الخلد - كما قال ربي. ولو علمت بالنعيم الذي أنا فيه ما ذرفت دمعة واحدة لفراقي، ولفرحت كما أنا فرح بما آتاني ربي. فأنا يا أمي بين يدي ربي يدللني، فكيف سيكون حالي. أنا أسبح في فضاء من السلام اللا نهائي، اللا محدود.. فهنا يا أمي لا مكان للظلم والفساد - كما عندكم. وهنا يا أمي لا مكان للحزن - كما عندكم. وهنا يا أمي لا مكان للألم - كما عندكم. وهنا يا أمي لا يوجد قبح كما - عندكم.. إنما هو الجمال المطلق الذي لا يخالطه خالط. هنا يا أمي.. العبارات تعجز عن وصف النعيم الذي يلفني. فلا تخافي عليّ ولا تحزني.
وأريد في رسالتي أيضا أن أتحدث إلى زوجتي الحبيبة التي شجعتني على الجهاد رغم حبها وخوفها الكبير علي! عزيزتي.. إن العبارات لتعجز عن التعبير عن مدى عرفاني وامتناني لك لتشجيعك لي على الجهاد ضد الظلم والظلام ومؤازرتك لي عند شعوري بالتراخي أو الخوف، عليك – في المقام الأول - وعلى ولدنا فلم أكن أريد أن أتركك في دنياك وحيدة تكابدين العيش وفي تربيته، كما أنّي لا أريده أن يكابد مرارة اليتم من بعدي. لكنك كنت دائمة القول لي إن الهدف الذي ننشده في الحرية وفي تخليص البلاد والعباد من الظلم والفساد، أعظم وأنبل ويستحق بذل التضحيات مهما كانت كبيرة.
أنا الآن – فقط - أدرك معنى كلماتك العظيمة تلك، بعد استشهادي وانتقالي إلى ملكوت الله. يا ليتك ويا ليت قومي تحيون ما أحياه من النعيم المطلق الخالي من كل كدر دنياكم. هل تدركين معنى أن تكوني في حفرة مظلمة، ثم تنتقلين إلى النور اللا نهائي، إلى الرحابة التي لا يحدها شيء؟! ماذا أقول؟! إن لغتكم لم تعد كافية ودنياكم كلها لا تساوي غمسة نعيم واحدة مما أكرمني به ربي.. لقد نلت الشهادة بفضل دعمك وتشجيعك لي وأحمد الله كثيراً على هذا الفضل العظيم الذي منّ به علي. وأقول لك كما قلت لأمي سابقا.. لا تحزني لفراقي، ولا تلومي نفسك على حثي على مناصرة الحق، ولو للحظة، واعلمي، بل وثقي أنك قدمت لي أعظم معروف يقدّمه إنسان لإنسان. وأوصيك بولدنا خيراً.. ربيه على حسن الخلق، وعلى قيم ديننا وعلى قيمة البناء والعمل، فالمرحلة القادمة هي مرحلة بناء اليمن بعد أن قدّمنا أرواحنا ثمناً لحريته وعزته. وكما ألفتك دوما ذات روح لا تقبل الظلم، ربيه على الجهاد ضد الظلم بكافة أشكاله وصوره. كما أوجه رسالتي إلى إخواني الثوار، إخواني الأحرار، خيرة شباب هذا الوطن قائلا لهم: أوصيكم بالثورة خيراً، فهي أجمل ما حدث ويحدث لهذه الأمة - أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - وليس لليمن فقط! فلا تهنوا، ولا تتوقفوا عن المسير في طريق الحق والعدل الذي اخترتموه (ونعم الخيار). الثورة هي الحل الأخير لهذه الأمة ولا أريد أن أقول الوحيد، لأن الثورات هي فقط ما يقتلع الطواغيت وجنودهم، هذا ما تعلمناه من القرآن وأكده التاريخ. ومن لا يزال يناصر الطاغية ويقف في صفه ضد إخوانه الثوار الذين ما بخلوا حتى بأرواحهم من أجل أن يبقى – هو - في ظل نظام عادل وحياة أفضل - أقول لهذا وأمثاله: يا إخواني، يا أعزائي.. إذا لم تستفق ضمائركم الآن، فمتى تستفيق؟! أيعقل أن أشلاءنا المتناثرة في الشوارع - ونحن عزل لم نؤذ أحدا - لم تمس روح العدل التي أودعها الله فيكم، أم أنكم ارتكبتم من الإثم ما حجبها وكل قيمة جميلة أخرى؟! إلى متى كل هذا التعامي عن الحق؟ إلى متى كل هذا الظلم في حق إخوانكم؟ متى ستفتحون قلوبكم للحقيقة، للخير؟! ألهذه الدرجة نجح الطاغية في خداعكم؟ ألهذه الدرجة تم إلغاء عقولكم؟! إن هداكم الله للحق فلأنفسكم، وإن استمررتم في طغيانكم تعمهون، فعليها.
أسأل الله لكم الهداية والاطمئنان بها، فأنتم في الأخير يمانيون، أرق قلوباً وألين أفئدة، بشهادة خير الخلق، لأجل ذلك لن تستمروا في تشجيع كل هذا الجبروت والطغيان.. لن تستمروا في صف هؤلاء الطواغيت، وإلا فإن النار التي تحيط بهم ستمسكم! وعندما ينتهون - وهم منتهون من كل بد - فذلك وعد الله للظالمين المجرمين ولكنه – سبحانه - جعل لمهلكهم موعدا، عندها ستنتهي معهم أبواقهم، وستتضح لكم حقيقتهم الشيطانية، سيتضح لكم كم كنتم على خطأ عندما ناصرتموهم على أجمل، وأعظم وأنبل الشباب!
وانظروا إلى المفارقة في مواقفهم ومواقفكم: هم ضحوا براحتهم واستقرارهم وأمنهم باعتصامهم في الخيام، بينما أنتم بين أسركم وفي بيوتكم تذمونهم وتحملونهم كل جرائم النظام. هم دفعوا حيواتهم من أجل أن تحيوا حياة العزة والكرامة.بينما أنتم لا تدخرون جهدا في التحريض عليهم، بل والشماتة فيهم عندما تصيبهم مصيبة!! هم وقفوا بجانب الحق رغم خُطورته ومسالكه العسيرة، بينما اتخذتم جانب الظالمين وركنتم إلى قوتهم وتناسيتم قوة الله! لذلك وجب أن نذكركم، علّ الذكرى تنفعكم، بأن تتوبوا عن غيكم وتندموا، فإن ندمكم وحده فقط هو ما سيشفع لكم عند بارئكم ولاشيء غير ذلك! فقد خلق لكم العقول والأفئدة لتستبينوا بها الحق من الباطل، لا لتساقوا كالأنعام من قبل المجرمين! هذا ما يستحضرني لأقوله لكم، والقول وحده لا ينفع إذا لم توجد أفئدة مهيأة لتلقيه؛ أفئدة لم يطمسها كثرة الظلم والذنوب.
كما أريد أن أتوجه بكلامي للطغاة وجنودهم قائلاً: ثقوا أنكم لن تفلتوا من عقاب الله في الدنيا والآخرة فقد لحقتكم لعنته والناس والملائكة أجمعين. وظنكم أنكم بقتلكم لي ولكثيرين أمثالي ممن رفضوا الخضوع لكم، لا لشيء إلا أننا قلنا لظلمكم "كفى"، ظنكم أنكم المفلحون وأنا ومن معي من الشهداء الأخسرون، هو من عمل الشيطان الذي تلبسكم أو تلبستموه، لا فرق. فهو منكم وأنتم منه. لأنكم لو علمتم بالنعيم الذي غمسنا فيه ربنا ما صنعتم ما صنعتموه، ولكنها إرادة الله في مده لكم ليأخذكم أخذ عزيز مقتدر. ولو تعلمون ما أعد لكم من العذاب لتمنيتم أن تكونوا ديداناً أو تراباً، ولكنكم أحقر من الديدان ومن التراب! لذا لن تكونوا إلا ذواتكم الخبيثة المدنسة، وهو أكبر عقاب، وهي النتيجة العادلة لإتباعكم الشيطان، وما يعدكم الشيطان إلا غرورا.
وبمقارنة بسيطة بيننا وبينكم سيتضح لكم عمق الهوة التي تفصل بيننا وبينكم: فنحن في جنات الخلد والنعيم، بينما أنتم في الدرك الأسفل من النار، رغم أنك مازلتم تعيشون، ولا أقول تحيون لأن هذا آخر ما ينطبق عليكم، فأنتم في عداد الموتى. أما نحن فخالدون خلود الوجود، رغم أنا فارقنا دنيانا على أيديكم المدنسة. أنتم أكثر رجسا من الشياطين، ونحن أعظم شأنا من الملائكة! أنتم الظلم والفساد في الأرض، أنتم الزور والبهتان، ونحن الحق والعدل وكل فضيلة. ترى من هو الأخسر، ومن هو الأظلم؟! والله إنكم الأخسرون والأظلمون. والله أنكم ستحسدون العدم؛ لأن العدم أوفر حظاً منكم. ولكن رغم ذلك فأنتم لا تستحقون الشفقة ولا الرحمة، لأنكم فرغتم أرواحكم منها، ومن لا يرحم لا يرحم. والله إنكم أحمق وأجهل الخلق (أي خلق ولا نخص البشر منهم)، لأنكم اشتريتم الدنيا بالآخرة؛ لأنكم قررتم محاربة الله. فهذا القرار يعني أن العدم يحارب الوجود. معناه أن من ليس بيده شيء يحارب من بيده كل شيء. أليس هذا قمة الجهل؟! قمة الحمق؟! آه.. لو تعلمون حقيقتكم. لو تدركون حقارتكم وهوانكم عند الله والخلق. ولكن أنّى لكم ذلك، فقد ختم الله على قلوبكم، ولم يعد لكم مجال للتراجع، للتوبة. لذلك، إن ما تظنونه قوة، وما تظنوه من نجاتكم من العقاب، ما هو إلا إمداد لكم وعقاب عظيم من صاحب القوة والعقاب. فابشروا أيها المجرمون.
في الأخير، لم يعد لي إلا أن أودعكم جميعا، وكما بدأت بأمي انتهي بها.. أستودعك الله يا أمي الحبيبة. وأستودعك الله يا رفيقة دربي الذي كان، زوجتي الحبيبة. أستودعك الله يا ولدي الحبيب، وكن الولد الذي أريده، وسر على الدرب الذي سار عليه والدك، درب الجهاد والبناء. كن ناجحاً، وعاملاً مخلصاً لله والوطن. أستودعكم الله أيها الثوار الأحرار، وهنيئا لكم دربكم الذي اخترتموه، إنه درب الفلاح والفوز - بإذن الله. فواصلوا المسير فيه ولا تحيدوا عنه - مهما أغراكم الشيطان - واسألوا الثبات من الله الذي بيده القلوب، وعين الله ترعاكم. أستودعك الله يا شعب اليمن العظيم، وأترك الوطن أمانة في يديك، وأنت لها. وثقوا – جميعاً- أني وجميع الشهداء الذين معي نراقبكم، فلا تفرطوا بالأثمان الغالية التي دفعناها من أجل أن تنعموا بالحرية، بالعزة والكرامة، ومن أجل يمن جديد.