ورحلتَ عن دنياك بعد حكايةٍ ** لم تكتملْ والحزنُ فيها المَعْلمُ ** إني لأرجو أن تتمَّ فصولها ** في جنَّةٍ عند الإله تُكرَّمُ…… ** هذي هي الدنيا حقيقة أمرها ** حُلُمٌ سيطوى بالرحيل ويختمُ ** قد مات خيرُ الخلق لم يخلِدْ بها ** كم عبرةٍ في موته تتجسَّمُ ** فاستيقظوا يا من غفلتُم إنها: ** دارُ الفناءِ مذْ كانَ فيها آدمُ…!! لعلَّ من جميلِ صنعِ الأقدارِ أن تقرِّرَ أحداثًا ومواقفًا تجمع الإنسانيَّة على صعيد الإخاء والتضحية؛ فيكون التعارف، والتآلف، والمحبَّة، عنوانا لتلك الرحلة التي تجمع رفاق المسير والمصير على ذلكم الصعيد، ومن منطلق " إن المصائب تجمعنا المصابينا" ...كانت رحلتنا الشاقة الماتعة في مسار : " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في زمن نبالة الفكرة ، ونقاء التشكل الطبيعي لجنينها المنتظر…!!!
لقدمهَّدتْ لتلكم اللوحة الكفاحية الرائعة نخب مخلصة للفكرة الثورية ، في زمن صمتَ كثيرون، واستكانوا، وداهنوا، وطبَّعوا الواقع المفروض بقوَّة البارود في حربٍ ظالمةٍ أرادتْ منها تحالفات حرب صيف: 1994م كسر إرادة الشريك، واستباحتْ كل مقدرات الجنوب، ونهبها، وتحويل الجنوبيين إلى رعيَّة؛ وهذا ما أثبته الواقع من ممارسات ملموسة بعد الحربين الظالمة...!!
ولعلَّ الحديث عن سذاجة بعض النخب الجنوبية في الماضي وما يقابله من مكر نخب الشمال سيطول، ويطول التطرق له وهنا نكتفي بالإشارة في هذا المقام ( الأليم… ) إلى التمهيد المناهض (لحق القوة في مقابل قوة الحق…)، وعن اسهامات مفكرين كان فقيد الوطن المحامي: ( أنيس البيه) أهمهم…
لقد تحرَّك الجنوب عبر أوعية كفاحية متعددة الأشكال لكنها - كما بدتْ - متناسقة المضمون منذُ أن حطَّتْ الحربُ رحاها وأوزارها، فلم يستكن بعض الجنوبيين ولم يصمتوا إزاء صلف التعدَّي، وكان أهم حدث في مسار التشكل والانطلاقة ( ملتقيات التصالح والتسامح) التي تحرَّكت لتبلسم جراحات… وجراحات في جسد الجنوب المنهك لزمنٍ طويل، في هذا المسار كان رواد الفعل يدركون مدى حساسيَّة الموقف، وفاتورة التضحية؛ إذ يترتَّب عليه توحيد الموقف الجنوبي الذي يزعج تواجد قوى الحرب على الجنوب ما يعني تهديد وجودي من وجهة نظرهم…!! نجحتْ تلك الملتقيات التي إمتدَّتْ على طول البلاد وعرضها( وللأسف - نقولها بمرارة - نجد اليوم من يسعى لتفتيت تلك القيمة الرائعة بوعي وبدون وعي ولغايات رخيصة غير مدركة لمآلاتها...!!)
سعى عفاش ومن دار في فلكه إلى إنزال كل أشكال القمع ضد حركة سلمية تنادي بمطالب حقوقية في أول خروجٍ لها قبل الإنتقال إلى المطلب السياسي الذي حُمِلَ على ركائز أساسية منها" جمعية المتقاعدين العسكريين والمدنيين، وجمعية الشباب العاطلين عن العمل وغيرها من ركائز… "
في هذا الصعيد كانت تكوينات سنيين من القهر تتوالى ووتدافع معلنة عن نفسها في مشهد حطَّم جدار الصمت والتخوف…
كان فقيدنا (أنيس البيه) أهم قيادات تلك الحركة الثورية السلمية وشاهد على كل مساراتها فله في كل محفل مواقف وآراء محل اجماع رغم حداثة سنَّه ....
أتذكر في العام 2007م ونحن نتحرك لتأسيس جمعيات الشباب ذلك التألق الفكري (لفتى ردفان) وتلك الروح المؤمنة بحتمية الوصول، فكان أول تشكيل لشباب لحج يرأسه الفقيد أنيس البيه باجماع وكنتُ حينها نائبا لرئاسة جمعية شباب المحافظة…كان آخر تواصلي به عقب مقال أطلقته تحت عنوان : ( عقارب التحول والانتقال لن تتثآءب…!!! ) ، فعكس المقال على صفحتي ومهره بقوله :" باسم، ما أروعك وأنت تتقدم … تتجدد…!"، فرددت عليه: " أنيس الموقف.. والمحبة… يحفظك الرب أبا خليفه ، من رحابة بِساطك انطلقتْ الفكرة التي تنسَّمنا عبيرها… معلم أنيس…"
لعلْ من إيجابيات تلك المرحلة والظلم الذي لحق بها من قبل قوى الحرب أن تعرفنا فيها على الكثير من النخب وأكسبتنا كثيرا من المعرفة في كثير من المجالات..
كان فقيد الوطن يطلق دوي خطاباته كأنها السحر في جذب أسماع المتلقين؛ بلاغة، وفصاحة، وقوة منطق، فكان بحق محامي ماهر - كما هي مهنته - في تلقُّف الفرص وتوظيف الخطاب الذي يتساوق مع مقامات القول وعرض للفكرة العميقة...( المقنعة للعالم المحرجة لصنعاء كما كان يردد)
عاش (أنيس البيه) للقضية فوهبها جل وقته ونسي معها كثير من مطالب النفس المشروعة… يتنقل ويتنقل لا يملك إلا قلمه الحر بين كل جغرافية الجنوب يبثُّ عدالة القضية… أتذكر زيارته لنا في المسيمير/ لحج… مرَّات كثيرة كان الكل في شوق لسماعه ودهائه ؛ لإنه يرسل كل جديد في مسار تطورات القضية على المستويين…. كم... وكم… كم سأسرد من ذكرى على المستوى السياسي، والثقافي، والإنساني مع فقيد الوطن..!!!!
كنَّا نتحرَّك غير هيَّابين ونحن نؤمن بأن:
الظالمين قصارى في حقيقتهم ** لكنَّهم بتغاضي أمتي طالوا…!!
وكنا نردد معه ونحن نرى آليات القمع الشمالية:
أنشروا جنودكم في الأدغال والشوارع.. دججوهم بالرشاشات والمدافع... أزرعوا ألف نقطة ونقطة…. نحن لا نخاف جيش البراغيث أو نقيق الضفادع…
كنا نطالع المستقبل من شرفة التضحيات وهو يتَّسع للجميع ونؤمن بأن البلد لن يضيق بأهله منطلقين في ذلك الإيمان من تجارب الماضي ومآسيه التي لم نرها بل سمعناها، وأقسمنا أن تكون(عظة وعبرة…ليس إلَّا ) بيد أن هذا الحلم وسذاجته لم يزل يراوح مكانه في وثائق الثورة قبل الوصول فمكانه التنظير مالم تثبت الممارسات عكسه…!!! كانت الرواد من مؤسسين الفعل الثوري الجنوبي السلمي… بين: قتيل، وجريح، ومعتقل، ومطارد، ومحاكم غيابيا في هذا السياق كان فقيدنا في قائمة المطلوبين أمنيًّا و الممنوعين من السفر وفقا لمحاكمة سياسية غيابيَّة ومعه (58 ) من قيادات الجنوب المدرجين في (القائمة السوداء) هذا الإجراء الظالم كان لقاء موقفهم المشرفة التي أضحت مع تقادم الزمن حقيقة للعيان أدرك نبالتها الداخل والخارج…،ووسام شرف نُقِشَ في تلك القائمة لهم بأنهم من شكل التهديد الأول للطغاة البغاة…!!
كنت في هذا السياق في تلك القائمة؛ أي قائمة الشرف إذ تم منعي وإعتقالي في مطار عدن الدولي ومنعتُ من السفر إلى القاهرة في18- نوفمبر- 2011 م… وعند التوقيف كان أول سؤال : هل كنت في الحرك ؟ قلت : نعم…، ولم أزل… ! قيل لي: البلاغ ضدكم منذ : 4- يونيو- 2008م، يقضي: بمنعكم من السفر وإلقاء القبض عليكم ( في كافة المنافذ) بناءً على أوامر ( النيابة الجزائية المختصة) ، مقصد هذا الحدث، عندما شاءت الأقدار أن أتعرف على تلك القائمة وجدت اسمي وفقيدنا (أنيس البيه) في صفحة واحدة وهذا مازاد من يقيني بأننا في المكان اللآئق من التاريخ الثوري لقضية شعب الجنوب…!!
وللتاريخ أقول وأقرر هنا: بأنَّ معظم الأسماء وما لحق بها اليوم من ألقاب وصفات لم تكن ضمن تلك القائمة بل معظم القائمة السوداء -الآن- في بيوتهم والآخرين قد تخطفتهم رحى الموت... وهكذا طبيعة الثورات ونتاجها في المزاج العربي…!!!
أنيس البية :
كان ممن تحترق أوعيته الوطنيَّة حماسا، وتسرج أفكاره مصابيحًا لتشع مسارات من الغياهب فكان يعيش حالة من نكران الذات وينأى عن تضخم الأنوات التي إعتادت عليها كثيرون من أدعياء الثورة ومتطفلين الفعل الثوري…..؛؛ لذلك كان (أنيس البيه ) وغيره من رعيل التأسيس عرضة لمخالب الأصدقاء… الذين لا يرون أنفسهم قادة في ظل وجود المؤسسين… مع ذاك التنكَّر المتعمَّد من الواقع الغفلة، ظل وفيًّا للموقف ، ينأى عن الصغائر بصمتٍ، ويضجُّ بقوة الحقيقة في كل محفل…!
كنت أرى في (البيه) من عانى من طيش سفهاء الأحلام، وبلادة المتقوِّلين وكان يقابل الجفاء بتفاني للفكرة الثورية التي آمن بها…و بصبرٍ جميل وحاله كما قيل:
متدرِّعٍ صبرَ الكرامِ على الأذى ** إنَّ الكرامَ مشاغلُ السفهاءِ ** نقموا عليه رأيه وصنيعه ** والحكم للتاريخ في الآراءِ ** والرأي إن أخلصتَ فيه سريرةً ** مثل العقيدة فوق كل مرآئي ** وإذا الرجال على الأمور تعاقبوا ** كشف الزمان مواقف النظراءِ….
وداعا، أيها السبَّاق في كلَّ مضمار ...حتى فعل الموت كنت أنت السابق إليه، إذ عافتْ روحك البقاء في دار الفناء فآثرتَ أن تلقي عصا السفرِ الطويل في مسار المكرمات، وتستريح من حياةٍ تعكَّرتْ بأنفاس الخلائق، وعزَّتْ فيها مطالب المروءة ، ومكارم الأخلاق...فآثرتْ التحوُّل والانتقال إلى ضفافِ الصباح الجديد…حيث السكينة الأبديَّة عوضًا عن ضجَّة التحول نحو الحلُم في واقعٍ توحي شواهده بمدى التأزيم…!!
وداعًا... وداعًا…وداعًا… يا من كنت أظنكَ أنتً من تقولها بنبراتك الأخَّاذة ...لكن:
ظننتُ بأنَّي سابقٌ فسبقتني ** ولو كان سبقًا غير هذا لأمتعا…!
كل عبارات العزاء والمواساة للعم الحبيب العقيد: (حسن ثابت البيه) ، فأجركم عظيم بمصابنا الجلل… لكنَّ عزاءك أيها المربي الفريد ما خلَّفته صورتك الأخرى من سجل حافل بالعطاء والتضحية في ميادين (القلم والسيف) تلك الصورة المشرقة التي إنتقلت في الثلاثين من سبتمبر - 2017م، إلى باريها… والتي تُعدُّ تمددًا لصورتك المشرقة بالعطاء…
كم هي مؤلمة كلماتك الشكريَّة لكلِّ من وآساك وعزَّاك في جرحك الغائر وأنت تصف زرعك الذي حُصدَ قبل أوانه...!! وكم هو أليم أن أرفع هاتفي وأعزيك، إذ ماذا تريدني أن أقول… ؟ والحدث فوق تصوَّري ، يعزُّ عليَّ أن ينطلق لساني بلفظة (الموت...) إذ كم هي قاسيَّة على سمعك وأسماعنا… !!
ستحلُّ بعد أيام الذكرى ال(54) لثورة الرابع عشر من. أكتوبر… وبهذا أتسآءل :
هل سأرى أخي المحامي (أنيس البيه ) كما عوَّدنا أن نراه في كل إحتفائيَّة جنوبيَّة..؟
يقيني بأني سأراه حتما سأراه في كل مكانٍ من ترابِ الوطن نقش فيه اسمه، ورسمه، وقضيَّته، وهو يبشَّرُ بميلاد الوطن الجديد المتَّسع لكلِّ أبنائه…!!
ليت الفراقَ لقاءٌ باتَ يجمعنا ** وليت بعدي لكم قربًا ومقتربا ** وليت كانتَ عيوني قبل تعرفكم ** صيبتَ بداءٍ ولا كانت هي السببا ** أحبَّتي هكذا الإحساسُ يخبرني ** وهكذا قال وجداني: بما كتبا…!!