عندما كان مقر عملي بعاصمة محافظة شبوة " عتق " التقيت بشائب شبواني شديد المزح والدعابة ,برفقته مجموعة شباب أظنهم أحفاده أو من ذويه , سألني هذا الشائب : - من أين انت ياولدي؟! قلت له : من أبين. ولأنه يُعرّف أبين ب( الثالثة ) بلغة زمانه التي نحت إلى تعريف محافظات الجنوب تعريفا عدديا فالأولى هي (عدن) والثانية هي (لحج) والثالثة هي (أبين) والرابعة هي (شبوة) والخامسة هي (حضرموت) وأخيرا السادسة وهي (المهرة) .. أنشد قائلا: حيا الله الليلة رجال الثالثة.. تلحلحت من مكاني واقتربت منه مبتسما مرهفا أذني لسماع مصرع البيت الشعري.. وإذا به يقول: ذي لاقرح قارح يفروا ل الشمال! تغيرت ملامح وجهي وتحولت ابتسامتي حينها إلى فورة حنق.. وقلت له : يا حاج لا يليق بمن هو في سنك ان يسخر من مواجع ومآسي قومه ووطنه بهذا الشكل.. ثم ,وأنت القبيلي , لم تجد الا هذا الكلام تُحييني به!
ضحك وقهقه وقهقهت رفقته الشابة , في حضرة حنقي وفورتي التي مازالت بادية على وجهي , وقال : أمزح معك ياولدي..لا تحنق فالحال من بعضه وفرارنا كان واحد ووجعنا واحد ودواعة الجنوبيين وغباءهم واحد وهو الذي مكن الجماعة منهم هذا التمكين (الحنبة) وأصبحنا جميعا , من فر ومن بقي , نعاني من وجع النكبة الوحدوية مع الشمال.. فلا تحنق ياولدي وتعتب على مزاحي وضحكي فشر البلية مايضحك خصوصا إذا ما عرفت ان فررة الأمس من الجنوبيين كروا مع الشمال مرة أخرى وصيروا نصفهم الجنوبي الآخر إلى فررة .. فراح يتشدق الرئيس صالح بخيارات الفرار والهربة بسخرية أشد وأنكى من مزحي الساخر من الوجع الجنوبي الموزع على الجنوبيين بالتساوي.. ثم عاد لداعبته ومزحه مرة أخرى ملاطفا إياي قائلا : الم يقل شاعركم وأنشد ( مكررا موضوع الفرار ) : امفتى حاص وامبطال ما حاصشي ريته مع امنود دي ما حاصشي منّهنه!
ضحكت وقلت له: الان أعليت من شأن الفرار.. خلاص ساويتها ياحاج! فضحك وقال: لا لا ياولدي.. قدنا متساوين حتى في القصيدة الأولى كمان! فضحكنا جميعا.. وبعد ان اطمأن على عدم حنقي منه ودعني ومضى إلى حال سبيله!.
اليوم وقد مضى على هذه القصة أكثر من عقدين من الزمان تمنيت لو ان هذا الشائب شهد فرار العام 2015 م الفرار العكسي - من الشمال إلى الجنوب -.. ليرى بأم عينه العدالة الإلهية وهي تحدث بالفعل منهية قصة الكوميديا الجنوبية السوداء التي بدأها معي نهاية عادلة.. نهاية تسمح لي ان أنشده وهو الغائب الحاضر وأقول: حيا الله الليلة رجال المعرفة ذي لا قرح قارح استعانت بالجنوب
أخيرا وليس آخرا : هل بعد هذا كله مازالت فينا نخبة جنوبية هوجاء لا تريد ان تأخذ من تجارب الماضي القريب والبعيد عبرة وعظة؟!..حتى بعد ان جربت كل وجهات الفرار المحلي والخارجي!.. هل مازالت مصرة على التكرار الذي علم الحمار ولم يعلمها؟!.