-1- لم أكن أقصد.. هل تكفي هذه العبارة للإقناع بأني حين كتبت لم أفكر بالحداثة: ادعاءاتها، وعقلانيتها، وعلمانيتها، وحتمياتها، واكتشافاتها، ومدنيتها، وشموليتها، وأحلامها، وغموضها..؟! وهل تقنع أنني لم أكن مهتماً ب “ما بعد الحداثة”: برودتها، وتشظيها، ولا تعيينها، وغيتواتها، وثوراتها الإعلامية والمعلوماتية والوراثية، ونكوص تيارات الحداثة فيها؟! لم أكن أقصد.. وهل في الإبداع قصد؟! هذا إذا كان ما كتبت يمكن أن يصنف في هذا الباب.. لكنه يبقى محاولات في الإبداع على كل حال.. لم أكن أقصد حين حاولت – وأحاول – أن أكتب متوتراً مكتئباً مستفزاً إلا أن أذرف ذرات روحي على الورق؛ بل خارج جسدي..! لم أكن أقصد إلا أن أترك لشظايا أن ترسم مشاهد وآثار ومسارات توازي صدوع الصدوغ، وشروخ الشاخصات السرمدية التي عبرتها الكائنات، وتعبرها دون اعتبار لحنقها أو رضاها..! لم أكن أقصد سوى أن يعبر الدخان أفق المتأملين أو الغافلين أو المتغافلين، عل ذلك يشير إلى أن احتراقاً- لما يزل - في مكان ما، وسمت ما من هذه الكرة مشوهة الاستدارة، الدائرة بانهماك يوازي – ربما - محمومية الكائنات في سعيها لاتكاء ما يساعدها على التوازن، أو التوهم به، أو الإحساس؛ وبجدية تعادل انهماك كائناتها في اجتثاث الجذوع وقذفها في أتون لا يشبع، ولا يُشبع؛ وبعناد منعكس –ربما- من – أو على – كائنات توغل في العبث، والتجاهل، والإصرار على أفكار بليت، أو قوانين تهرأت، أو مطايا تعبن وهرمن ويئسن؛ وبتسارع يغذي –قد يغذي – سرعة الاتصال، وتسارع الوصول إلى المجهول. لم أكن أعرف أن الأمر يحتاج كل ذاك الاحتراق. أو أن كل ذاك الاحتراق يمكن أن يدفع بكل شعشعاته إلى بيادر يخضّبها، أو يسمح بصف جمراته في سطور وصفحات. لم أكن أعرف أن الاسم الذي سيذيل نصاً أو يتقدمه، أو يعبر مقالاً أو دراسة، سيكون صاحبه الذي انتشى لحظة، أو استراح برهة، لا يعدو أن يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. فمن أين لمن يأكل العصي من كل الجهات أن يَعُدها؟! أو يرسم لها شكلاً؟! أو يناقش حدودها ونتوءاتها؟! أو أن يميز الآثار التي تخصه عليها من بقايا قوافل الأجساد التي عبرت من تحت سوطها..! يحتاج الأمر- لا شك - وقفة عن الوجع أو توقفاً عن الأنين؛ لكن هل تتوقف العصي؟! وهناك من يَعُد، ويُعِد، ويتبجح، ويدعي، ويتفاخر، ويقهقه، ويبكي أيضاً؛ يصرخ ويتوجع وإن كانت العصا في يده توالي انهمارها على أعضاء الآخرين بلا تحديد أو تمييز، أو اعتبار للأنات والصيحات التي تشرع، أو تنز عبر اللحظات المسودة أوالمحمرة. فهل هو لا يعلم، وربما لا يقصد؟! سأكتب من أجله أيضاً – وقد أكون قد فعلت! – أسامحه أنا إذن كما توصي بعض وجدانيات “ما بعد الحداثة” ؟! ألأنه لا يعلم؟! أم لأنه ما يزال تحت ركام أوهام وأحلام وخيبات الحداثة؟! المهم أن ذلك ليس بناء على تلك الوصايا؛ وكم أكره الحكم والوصايا..! -2- كتبت ذات ربيع في مقتبل الثلث الثالث من العقد الثاني من هذا الشقي /عمري شبه مقال أو ترويح، أذكر بعض ما جاء فيه: - أحبك، لا لأنك طويلة أو قصيرة، أو لأن عينيك سوداوان أو خضراوان أو شهلاوان كعيني.. أو لأنك رخيمة الصوت كفيروز، أو قويته وعذبته كأم كلثوم؛ بل لأنك تحملت مسؤولية الحياة مثلي..! والمفارقة أنها لم تكن عذبة الصوت، ولا رخيمته. ولم تكن ناقصة الجمال، ولم أكن من دون اهتمام. ولم أكن قد خبت في علاقة معها، أو مع سواها بعد؛ بل كان ذلك في مستهل تلك العلاقة التي لم تطل. هل كان ما كتبت سبباً في تقاصرها؟! أتراها منّت النفس بكتابة عن شعرها المنسدل أو وجهها المشرق أو ضحكتها الشهية؟! وحين سمعت ما قلت، فرت..! ربما كان ذلك من حسن حظها؛ فلو سمعت ما كان يراودني قبل ذلك بنحو نصف عقد، ما ظل يراودني، وما يزال، لما تكهن أحد بما سيحل بها؛ كنت أفكر بسؤال بسيط ومشروع؛ ما أزال أحسه كذلك: لو لم يكن هذا الوجود موجوداً، ما الذي يمكن أن يكون؟! سيظل هذا السؤال عالقاً في أفق حياتي، ومعبراً عن فقدان الأمان أو الاتزان في هذا الذي يجري، أكثر مما يعبر عن خيبة من انتظار وجود آخر. وهذا أيضاً مما يقلق مفكري “ما بعد الحداثة” كما صرت أعرف؛ أقصد: مصير هذه القرية الكونية التي تتقارب، وتتواصل؛ بل تنكمش، وتتماهى حدودها أكثر، دون تواشج إنساني حميمي. وتتزايد الغربة والذاتية والعودة للتمسك بالأصول والأعراق، في محاولة للحصول على هوية ضاعت في مفازات الحداثة، ومهرجانات نصرها المزعوم؛ تلك الهويات اللازمة استعداداً للمشاركة في حروب مدمرة، ونهايات كارثية؛ لعلنا نشهد الآن بعض فصولها؛ والقادم أعظم..! -3- “ما بعد الحداثة”: تجزئة الفرد، وتناثره ذرات. /فريدة النقاش وقد نشأت الحداثة مع ولادة النظام الرأسمالي في أوروبا من رحم الإقطاع، بعناوين: التنوير في الفكر، العلمانية في الحكم، والعقل وحده هو السلطة والمرجع. وتميزت الحداثة الأولى بتفاؤل وثقة بالإنسان والسيطرة على مصيره، وحلمه بالعدل والمساواة/ الاشتراكية. ما لبث أن انحدر هذا التفاؤل في حمى الصراع ما بين المعسكرين: الرأسمالي والاشتراكي، والذي بلغ أوجه في الحرب العالمية الثانية. حينئذ انبثقت حركة “ما بعد الحداثة”. وإن كان البعض يرجع ظهورها إلى الثلاثينيات من القرن الماضي. ويؤخره آخرون إلى ستينياته، أو بما يعرف ب”الحداثة العليا” أو “المتأخرة”. وتواكبت حركة “ما بعد الحداثة” مع ثورات الاتصالات والمعلوماتية والهندسة الوراثية، واستخدامات الذرة، وهزيمة حركات التحرر في العالم، ومصطلح “ما بعد الحداثة” إشكالي، تنعدم فيه الحدود الفاصلة بين ما هو اجتماعي، وما يمكن تصنيفه كشأن ثقافي خالص. يقول (امبرتو إيكو) الروائي الإيطالي: هو مصطلح فضفاض، يستعمل اليوم بمرونة مفرطة، ليدل على أي شيئ، وحسب رغبة وتأويل مستعمله. وفي الوقت الذي تجهد فيه الحداثة لتبديد الماضي، والإعراض عنه، باعتباره نكوصاً وحنيناً إنسانياً ساذجاً، أو تاريخاً أقرب إلى الحكاية التي ينبغي الفرار من سذاجتها، تصر مرحلة “ما بعد الحداثة” على العودة إلى ذلك التاريخ، والانسجام معه عضوياً؛ لا لتعيد بعض جوانبه، إنما لتتفحص قسماته بحس اكتشافي، يذهب بالذات الإنسانية إلى ما وراء ذلك التاريخ. يرى (رولان بارت) أن مرحلة “ما بعد الحداثة” شديدة الإصرار على إبراز الحس الاغترابي للذات المبدعة، وعلى نسف أي مبرر للروح العقلانية، على عكس أدباء المراحل السابقة. وتتهم الكتابة “ما بعد الحداثية” بأنها لا تاريخية؛ خصوصاً من قبل التوجهات الماركسية، لأنها تعلي من شأن الذاتية، وتبالغ في التعويل على وعي الكاتب، وتغليب الخيال على الواقع؛ بل تذهب إلى حد القطيعة مع الأسس الجمالية القديمة. وبالتالي تسبب قطيعة ذوقية مع القارئ العادي. مثلها مثل التمثلات الفنية والإبداعية الأخرى التي لا تأبه كثيراً لبساطة المتلقي العادي. وتحمّل الكتابة ما بعد الحداثية المتلقي مسؤولية فشل القراءة، والكاتبَ مهمة الوعي بسر الصنعة الفنية، مع تأكيدها على فاعليتي الاستقبال والتأويل، وحضور النص كتابة وقراءة على أكثر من مستوى. وتقترح صيغة واعية شبيهة بآلية المحو والكتابة عند (كريستين)؛ لكنها أكثر إصراراً على التدخل في مركبات النص التاريخية. ومن خصائص الكتابة ما بعد الحداثية أيضاً: - مغامرة اللغة أو التعويل على اللغة على حساب المضمون. أي أن طريقة الكتابة هي التي تهم، لا المضمون، أي الكيفية التي عبر بها الكاتب عن نياته؛ بمعنى تطوير تقنية الكتابة، بحيث تضطلع حتى بنية العبارة بتجديدات لفظية وشفوية مغايرة، وذات مرجعيات فكرية وشعورية متحولة، احتفاء بجاذبيات التشظي ودينامية التعبير القائم على التبدلات الدائمة التي تجعل الفن حالة من الحياة، لا صورة عنها. - النزعة الأدبية المراهنة على الحراك، وزعزعة الثوابت الجمالية والمنطقية. - لابد أن يكون الكاتب على وعي تام بنسيج الكتابة الداخلي، وتعقيداتها، كمعلومات وأحاسيس فيما لا يمكن أن يرى، أو يتلمس بسهولة وتقليدية الأدوات. - السرد ما بعد الحداثي يؤسس لما تسميه البنيوية” تطابق الألسن”؛ أي تكثيف الرؤية ودمج مركبات الصوت المختلفة، وليس الاستئثار بحساسية الذات المبدعة. - حضور الذات كمركزية للعمل الأدبي بقوة وكثافة، أي وعي الذات وانقطاعها عن العالم(إيهاب حسن). وتحول الخطاب إلى فلسفة. - بروز التاريخ كعمق روحي وشعوري ممتد بشكل عمودي وأفقي وبالعالم كعاصم ثقافي تجد فيه الذات مهرباً وجودياً لنزعتها التدميرية والفوضوية/ المزاجية. - آلية المحو والكتابة: بمعنى أن يعطي الكاتب لنفسه الحق بإعادة تركيب التاريخ بمرونة فائقة فيها الكثير من الحذف والتصرف الذي غالباً ما يجنح للخيال الجامح أو ما وراءه، تغليباً للمتوهم والمتخيل على الواقعي. - الاستحواذ: أي الانتقال الزماني والمكاني داخل التاريخ، وانتقاء حالة يمكن اعتبارها مركزاً، وإعادة إنتاجها كتابة إبداعية برؤية عصرية. - فن القص ما بعد الحداثي شديد الارتباط باللغة السينمائية، وهيمنة الصورةعموماً؛ كما يشير (برايان مكهيل) ومما لا شك فيه أن الكتابة ما بعد الحداثية تتقاطع مع منهجيات وأنماط إبداعية سبقتها. -4- تحتاج مراجعة ما كتبت من نصوص قصصية، تركيزاً لأتذكر أن ذاك الصدى كان جراء ضربات على مقدمة الرأس، أو أخرى على مؤخرته. وأن هذا السائل الذي تجمد خوفاً أو خيبة، والذي ما يزال حاراً دافئاً من أجل أن أكتب، أو لأني أكتب، كان نتيجة طعنات في الظهر، أو قبضات في الصدر، أو ركلات في الجذع أو مخارز في العين.. لن تختلف الأحوال كثيراً إذا ما انكفأنا إلى الداخل؛ فوخز الغرائز لا ينسى، وقوى التثبيط لا ترحم، والامكانيات لا تجود، ولا الدهر يوافي..! فمن صدمة إلى تصادم، ومن خيبة إلى هزائم، إلى منادمة إلى مباكاة.. وما يزال صدى النصال التي تتكسر على النصال يوجع.. ليس ذلك سهلاً، مع ذلك سأحاول..!