في إشارته إلى فكرة « قيادة العالم من على الحاسوب» لم يرم المتن إلى « كماشة » السيطرة الحداثية بقدر ما كان وما يزال يقصد إلى فعل القيادة التلقائي بما هو بعيد عن مطرقة السلطات التقليدية ومقالات الزعامة والجماهير ، إن الكائنات الجديدة الكائن قائد نفسه بل أنفسه العديدة وكياناته اللامتناهية ، وهو ما يتلاءم مع مسارات “ المتن “ الديمقراطية ، ورفضه للاسمية بما هي حجاب أو حاجز . يتوازى كل ذلك مع سمات الاستقلالية والثقة ( سمات الكائن الأجد ) . وبما أنَّ معيارية الوعي والإمساك بالحبل قد تبخرت وسقطت بفعل ضربات ما بعد الحداثة وغليانها الجدلي - وهو سقوط وتبخُّر خطي - على أية حال - لكنه فاعل بالنسبة لزمنه - فإن كائن بعد ما بعد الحداثة قد حمل معه هذه اللحظة المتوترة إلى فضاءاته الجديدة ، كما حملته ، فما كان منه إلا أن أعاد إنتاجها في مسارات الجدة والسرعة واللاحظية اللامتناهية الشبكية . يعني هذا في إطارات « ما لا يعنيه » انتشار الكائن الشارد والمتشظي وفق مستويات الفعل والقيادة آنفة الذكر ، وبحرارة أفعال التورط كصيغ دائمة وغير مقياسية . تعود إلينا هنا - شئنا أم أبينا - ألاعيب الفعل «الأساسية - سياقات اللانهاية - ...» إلى جانب حيوات الصدارة« الصدارات - الإعلام - الشاشات الأبدية » . فكائنات الأجد - كما نلح دائماً - عوالم فعلية ومفضوحة على جميع المسارات المتشظية ، بمعنى آخر فإن الفصل الحداثي و الما بعد حداثي الجائر بين التفكير والفعل صار في حكم المنتهي مع هذه الحقبة / الحقب الجديدة ، حقب اللا تناهي الشبكي ،فليس ثمة غير الفعل والفعل ليس إلا ، وكما أن السمات الإعلامية غير الوسائطية « الإشاعة - التحرك في الضوء الركض في الصدارة /الصدارات» للكائنات الأجد قد أسقطت مقولات مجتمع الوسائط ، مجتمع الأداة ، مجتمع الإعلام الما بعد حداثية وحتى مجتمع التواصل الموازي، فالمجتمعات الجديدة ليست مجتمعات الإعلام وليست مجتمعات الصورة البليغة، لأنها مجتمعات تحيا أو لنقل « تفعل» في قلب الإعلام الإشاعة ، وهي تعيش هذه السمات الإعلامية مستهلكة ومنتجة لها في آن ضمن ما يمكن تسميته بمجتمعات ما بعد الإعلام والاستهلاك . ترتبط « متجاذبة » ذوبان « جدار الفصل العنصري» الذي أقامه الفلاسفة والمناطقة بين الفعل والتخطيط / التفكير - من بداية الفلسفة مروراً بيوتوبيا أفلاطون « الجمهورية» مجتمع الفلاسفة في قليل من التأصيل الذهني غير المضر ، بفكرة سقوط المفكر الشمولي «الهيئة الحداثية والتنويرية للمفكر - وما قبل التنويرية بلا شك » التي نادى بها مفكرو ما بعد الحداثة « فوكو مثلاً » وقرنوها بميلاد المفكر المتخصص وهو «مفكر في حدود معينة» - حسب ميشيل فوكو - في نقط دقيقة ومشكلات خاصة « عند هذه النقطة في المعنى العام لا تمكن الإشارة إلى ما بعد الحداثة بوصفها سلفاً ل « بعد ما بعد الحداثة» وبالأخص في تماوجاتها اللامتناهية الشبكية - بعد ما بعد الحداثة بالطبع - التي لا تتحرك في زوايا التخصص والدقة بمعناهما الحريص كونها تتشظى داخل صيغ كلية للفعل الأجد ، وهي فضاءات أكثر دقة وتناهياًٍ من الحرص الما بعد حداثي و تعييناته المسؤولة والشديدة التخصصية . وربما كان« العقل الحداثي والتنويري» بكليته وشموليته أقرب ل« بعد ما بعد الحداثة » في صيغته العمومية أو لنقل في نمطيته الآلية والتقنية داخل صيغ الإنتاج . بقليل من التحديق في فكرة قرب « الحداثة» في مسلمتها «العقل الكلي والشمولي» من الفضاءات الأجد وابتعاد « ما بعد الحداثة » عنها سنكتشف دفقاً من الزيف يتخلل هذا الزعم اللحظي أيضاً ، كوننا لن نلبث قليلاً حتى نكتشف أيضاً أن هذا اللبس خلقه تنظير ما بعد الحداثة ذاته - فوكو/ دريدا تحديداً - وروج له . لقد كان من المتوقع ألا ترفض «ما بعد الحداثة» بجدلياتها المفتوحة وغليانها المفاهيمي «العقل الكلي والشمولي » الحداثي في معناه الإطاري كوننا لا نستطيع أن ننكر أن المعرفة كلية الحركة وشمولية بشروط حيوية ومتفجرة في ذات الوقت أبداً ، لذا فمن الأنسب نقد الأسس التي قامت عليها كلية العقل الحداثي وشموليته وتفنيدها واستبدال «النقاشات» «ما بعد الحداثية» بها ، بمعنى أن تتبنى «ما بعد الحداثة» عقلاً كلياً خاصاً بها ، من خلال الانطلاق من رؤى مفكريها وضمن تيارات الاختلاف والتعدد الإبداعية ونبذ قيم التشابه والتطابق . وجَّه منظرو « ما بعد الحداثة» نقداً فاعلاً ودقيقاً لفكرة النسق الحداثية لا نستطيع معه سوى الإقرار بأنه قد أودى بالعقل الحداثي الكلي والشمولي ، وكشف جدلية ورحابة العقل الكلي الما بعد حداثي ، وهو ما حدث على أرضيات الواقع والتنظير الما بعد حداثي وما يمكن النظر إليه داخل «ما بعد الحداثة» على أنه كان ومازال محرِّكاً . لقد حدث هذا دون إدراك من منظري « ما بعد الحداثة » ، لأن ثيمة استبدال المفكر المتخصص بالمفكر الشمولي أعمت عيونهم وأقلامهم - تفكيرهم الكتابي - عن رؤية الفضاء العام للمصطلح وهو فضاء فاعل ومضطرب بصيغ حيوية إبداعية. أخفق المصطلح « الما بعد حداثي» في حين تماوجت جدليات ما بعد الحداثة مع « عقل» كلي جديد « يفعل» في لا متناهيات التعدد والاختلاف واللا نسقية بعيداً عن فكرة الكلية والشمولية الحداثية وأنساقها المغلقة والمتجانسة وبعيداً - كل البعد أيضاً - عن مقابض التوجيه والهيمنة والسيطرة التي أنتجت الارتياب حول لا نمطية الحياة وكليتها . اتسمت نقاشات «ما بعد الحداثة» داخل مدونات نقد المفكر الكلي والشمولي بالفاعلية والإنتاجية - وإن كانت قد أخفقت على جبهة المصطلح - والحركة ، من خلال تبنيها لثيمات اللا نسقية والاختلاف والتعدد ، ورفضها للمفكر الحداثي الكلي والشمولي الذي يدعي ملك الحقيقة واليقين وتمثيل الكل / المجتمع، إذْ يتمثل عمل المثقف كما يقول ميشيل فوكو: « في إعادة مساءلة البديهيات والمصادرات عن طريق التحليلات التي يقوم بها في المجالات الخاصة ، وفي زعزعة العادات وطرق العمل والتفكير وفي تبديد المألوف والمسلم به ... إن ما اكتشفه المثقفون منذ انتفاضة 1968 ...هو أن الجماهير لم تعد تحتاج إليهم لمعرفة واقعها ، إنها تعرف ذلك تماماً وبوضوح وبشكل أفضل منهم» . إن الالتفات إلى وعي منظري« ما بعد الحداثة » بالمرحلة الجديدة وجدة أطروحاتهم حول انقضاء مفكر الحداثة الكلي في بعدها الحواري - بعيداً عن ما سلف من تهور المصطلح - لا يعني تطابق ذلك مع رؤى / تشابكات اللاتناهي الشبكي ، حيث أن «لبعد ما بعد الحداثة» عقلها الكلي المتشظي باشتراطاتها غير المستقرة «استعمال مفردة عقل هذه استخدام مؤقت / ضرورة العرض الكتابي» ، كما أن الآفاق الافتراضية الجديدة لا تقول بالمفكر والمثقف ، إنهما - المفكر والمثقف - كائنان متحفيان تستحسن زيارتهما في الإجازات الرسمية ، لقد مات كلاهما وقام محبوه بتحنيطه ووضعه في أعلى الأماكن داخل المتاحف الوطنية ؛ ذلك أنها تؤمن بالفعل وتعمل و العمل هيئاتها المستمرة وماهياتها المتقلبة داخل ديناميات الحرية والديمقراطية والفعل والصدارة . سعت ما بعد الحداثة إلى تقديم صيغة جديدة للمفكر والمثقف والفيلسوف دون أن تنتهي منه ، أو تقضي عليه «يجوز في هذا المفصل إبراز زعم قيام ما بعد الحداثة بمراجعة مفاهيم الفكر والثقافة والفلسفة والنظرية» ، على الرغم من «وطأة الضربة القوية التي أحدثتها ثورة مايو 68 في ذات المثقف» والتي اضطرت سارتر نفسه المشارك فيها - قبل فوكو ودولوز - إلى تغيير تصوره للمثقف ، ومن ثم اضطر في غضون السنتين اللاحقتين ، إلى التساؤل حول دور المثقف وإلى تغيير التصور الذي كان لديه عنه ، وهو في هذا يتشابه مع مفكري 68 (113) “،” إن المثقف محكوم عليه بالانسحاب من الأفق كإنسان يفكر بدل الآخرين: أن نفكر بدل الآخرين ، أمر غير معقول يضع مفهوم المثقف ذاته موضع سؤال». تلاشت النظرة إلى المثقف أو المفكر أو الفيلسوف باعتبار قيامه بالتفكير نيابة عن المجتمع والآخر والإنسانية بما يمتلكه من قدرات وبما مر به من دربة وتكوين، وهي وظيفته التاريخية ، والدينية والأسطورية التي اكتسبها عبر الزمن - قبل انوجاد آلهة الحكمة - ، والتي ظل حتى نهاية الحداثة يقاتل لأجلها . انتهت تلك النظرة بفعل معاول ما بعد الحداثة التفكيكية ، والثورية والزمنية ، لكن شخص المثقف ظلَّ ماثلاً في أرصفة ومقاهي ودروس وحلقات منظري«ما بعد الحداثة» فوظيفته - المثقف - كما يرى هؤلاء المنظرون والفلاسفة «أن يكون ممثلاً في المجال العام لأناس لا يجدون من يعبر عنهم “ أو” الكتابة لأولئك الذين لا يملكونها»حسب دولوز ؛ ولذا فإن على المثقف اليوم - كما يقول جاك دريدا - « أن يكون لسان حال الهامشيين أو المرأة أو شعوب العالم الثالث» بعد أن تحولت المعرفة - وفق فوكو- من أداة تمنح القوة إلى قوة وسلطة . تغيرت النظرة إلى المفكر والمثقف والمعلم في تناولات «ما بعد الحداثيين» - كما فات - برفضهم للنسق والعقل الكلي والشمولي وتقديمهم مفهوم المفكر المتخصص ، على الكلي . وقد أشاعت تلك التناولات مضماراً فاعلاً للنقاش ، تجلى بشكل دينامي - كما يعاود الإلحاح - في سمات المفكر والمثقف الجديدة وغير الثابتة القائمة على التعدد والاختلاف والتشظي وهو عقل ومفكر كلي وجدلي خاص بما بعد الحداثة وليس «متخصصاً في جزئية ما وملم بها» ، وهموا مصطلحياً من حيث حاولوا الضبط والدقة . وهو ارتباك ووهم له أسبابه التي لابد أن يكون في مقدمتها إغراء تعبير أو مصطلح «المفكر المتخصص» الذي لا يقاوم ، فلماذا لا يكون هذا المفكر المتخصص هو شعلتهم الأخيرة بعدما عوموا كل شيء وأعلنوا نهاية كل شيء وموت كل شيء - ربما كان هذا هو تفكيرهم - وتشوش كل جوانب الوجود ؟!!! . لقد بقي - كما ظهر ونرى ونلمس كلما تأملنا تراث ما بعد الحداثة الضخم - ذلك الجالس على التل «الذات المفكرة - المثقفة » يوجِّه ويرشد ويقاوم ، يؤكد هذا البقاء ما ورد منذ أسطر من تصور بعض الما بعد حداثيين للمثقف/ المفكر/ المعرفة/ العقل . بقي التفكير بدل الآخرين فعالية قائمة، وإن بصورة أخف مما هو عليه عند الحداثيين ، ولعل من أسباب هذا البقاء كون “ ما بعد الحداثة تياراً مرتبطاً بموقف سياسي جذري .. فعقلانية التنوير - كما يدعي هؤلاء - هي عقلانية الإنسان الأبيض ، عقلانية الرجل ، وهي مظهر آخر من مظاهر اضطهاد المرأة والأقليات 122” ، إنهم ينطلقون إذن من موقف أو مواقف نظرية وإن أنكروا ذلك في أطروحات ضد النظرية والمنهج التي تتحرك في مشغولياتهم الفلسفية والذهنية ، حيث «كلمة منهج كلمة رديئة» و «الفلسفة تمنع الناس تماماً من التفكير123 » - بتعبير دولوز - ظلَّت الذات المفكرة في مساحات ما بعد الحداثة بصيغ جديدة متناقضة وخاصة بهذه الحقبة التاريخية والمفاهيمية . بسذاجة هائلة وضرورية يجدر بهذه الأطروحة/ ات الالتفات إلى مسلمة عدم استطاعة «ما بعد الحداثة» أن تنفي عن «اتجاهاتها» تهمة الفصل العنصري بين التفكير والفعل «وإن كان هذا الفصل بصورة أقل كثيراً وبأشكال متطورة عن جدار الفصل الحداثي الأشد متانة وتماسكاً . ذاب هذا الجدار مع فضاءات اللا تناهي الشبكي وبالأخص في جدليات نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني بعد الألفية الثانية، إذ هُجرتْ مفردة/مصطلح “ المفكر” ومشتقاتها الذهنية بما فيها « لفظة» مثقف الأقل حدة وصرامة ، وقد تجلى هذا الهجر في ديناميكة الفاعل اللامتناهي الشبكي «الكائنات الأجد » على المساحات الافتراضية ، بينما ظلت تلك المفردات حاضرة ًفي المجتمع المعتمد بظلال أخف ، ومع ذلك صعدت “ مصطلحات/ كائنات / وظائف” موغلة في القدم والرعوية إلى الفضاءات الجديدة - بما يشبه الردة - كالشيخ والوجيه والمدرب بهيئات فاشية ونازية وانفعالية ، نتيجة للإمكانيات الحركية الهائلة التي أتاحتها حياة الصدارة ، الحياة صعبة التقنين والتقعيد ، ولعل في الانفتاح الإعلامي الذي أتاحته «الرأسمالية الثقافية» في المرحلة الأخيرة من «ما بعد الحداثة» بعضاً من مسببات هذا الصعود ، إذ مع الانتباه الما بعد حداثي في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم إلى «الحياة الفائقة»الجديدة ، وإلى مفاهيم الواقع الافتراضي وما بعد الواقع ، والزيف ، تخلى «مجتمع الإعلام» «والصورة» الما بعد عن حداثي عن كثير من الاحترازات ، فأشاعت الدول والشركات المتحكمة الوسائط الإعلامية وتنازلت عن مستويات عديدة من التوجيه والغائية بغية الإبقاء على أنماط حياة «ما بعد الحداثة» لفترة أطول وهو مالم يتحقق وبالأخص بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي . أدى تنازل «مجتمع الإعلام» عن كثير من خصائص السيادة والمؤسسية والسلطوية التي كانت تحيط بالوسائط الجماهيرية إلى اندفاعة إعلامية من قبل المتعطشين للإعلام أفكاراً وأحزابا ومنظمات وأيدولوجيات فظهرت قنوات فضائية لامحدودة وصحف ووسائل أخرى زادها وجود الواقع الافتراضي غير المحدود إصراراً على الحضور في محاولة لموازة اللانهائيات الرقمية رغم استحالة ذلك ، ولعل صعود بعض الوظائف والمصطلحات - السالف الذكر - إلى الافتراض كان بسبب من هذه الاندفاعة كما نتعمد الإلحاح . لم يكن من السهل على منظري ما بعد الحداثة رتق الفجوة بين التفكير والفعل رغم محاولاتهم الحثيثة في هذا الصدد من خلال إسقاطهم للمعايير العتيقة فيما يتعلق بالعلم والثقافة والنظرية. إن وجود منظرين - في حد ذاته - ضد فوهة الدمج الخلاقة ، كما أن عملية الفصل بين المستويين عملية تاريخية توارثتها المدارس والاتجاهات وقد نشأت مع بدء توثيق المهارات البشرية من قبل الإنسان الأول أو بالأصح مع إدراكه وجود الآلهة ورد الأفعال الخارقة إليهم . عند هذا المستوى تميز الآلهة عن البشر، أي بعدم وجود الفصل بين التفكير والفعل في إطار حركتهم الزمانية ، بينما اختص البشر باحتياجهم للآلهة المفكرة الخالقة وانتقل هذا التمايز بين الآلهة والبشر إلى التمايز بين البشر فظهر المصلحون والأنبياء والعلماء والسحرة والخارقون وهؤلاء كائنات إبداعية وإن ظلَّت إبداعاتهم غير كاملة الفعلية والإبداعية بحكم أنهم يحتاجون إلى الإلهام على الدوام أو يدَّعون ذلك. نادى منظرو ما بعد الحداثة بسقوط «المنهج»و«النظرية» و«المثال» و«النموذج» لكن ذلك الفصل بقي سارياً وفاعلاً ، وهو فصل تعسفي وعنصري ، إذ ماذا يعني انقسام الناس إلى ذوات مفكرة أو مثقفة أو عالمة وذوات عامة خاضعة ، إن هذا الفصل لا يقل تعسفاً عن التفريق بين البشر على أساس العرق ( الأبيض والأسود والملون ) ذلك التفريق الذي وقفت «ما بعد الحداثة» ضده واتخذت موقفاً عنيفاً منه ومن تهميش المرأة والنظر إليها بصفتها كياناً ناقصاً وقليلاً في الحين الذي عجزت فيه عن إدراك انتصاب فاصل تاريخي بين التفكير والفعل على امتداد التاريخ وهو عجز لا يمكن أن يوسم بغير النسبية . ما يجدر إيراده في هذا السياق ما دمنا في مراجعات النسبي أن الفصل بين التفكير والفعل لم يكن بنفس المستوى في سائر المراحل البشرية يرتفع في مرحلة ويقل في أخرى وهو عادة ما يقل في حضور الإشهارية الإعلامية (الصدارة البدائية) والفعلية الجماعية في حين يرتفع في المجتمعات التي تتركز فيها القاعدة والقانون والضابط ويستفحل الرقيب وقد كان جدار الفصل هذا في أشد قوته إبان العصور الوسطى وعصر التنوير ثم في مرحلة الحداثة أما “ ما بعد الحداثة “ المرحلة والفكر والأنحاء رغم كل ما مر من عدم إدراك منظريها لهذا الفصل فقد وجه منظروها ضربات حادة وقوية لهذا التمييز ( دون قصد من اتجاهات المرحلة ) هيأته للتهاوي مع دفق الشبكية اللانهائي. لم تستطع ضربات ما بعد الحداثة إزالة ذلك السد لكن جدلياتها أسهمت بشكل لا يقارن مع سابقاتها في تقويضه . على المستوى العملي كانت مستويات عدة منه قد تساقطت من خلال اعتباريات : مناداة ما بعد الحداثة بانتهاء التفريق بين النظرية والتطبيق ، والانحياز لفاعلية الممارسة وبالأخص في رقعها الفنية والاستراتيجية وقد استلزم ذلك تراكم النتاج التطبيقي في دراسات ما بعد الحداثة وتضاؤل النظري والذي أصبح مع ما بعد الحداثة ناتجاً عن التطبيقي أو العملي ، ومن ذلك إزالة الحواجز بين النخبوي والشعبي مع الانحياز للهامش ، وإعلانهم لموت المؤلف والإنسان ، مقابل ميلاد الكاتب كما هو عند دريدا وهذه مرحلة أولى من مراحل بداية صعود الفعل إلى الآفاق الجديدة وشيوعه ، ما صار سمة الحقب الجديدة ، وكذلك من خلال ممارسة الكتابة /الاستراتيجية بالمفهوم التفكيكي . وإنتاجية فعل القراءة في استراتيجيات القراءة والتلقي ، إلى جانب العمليات التداولية في أدبيات البرجماتية . ولم تكن حياة “ مجتمع الاستهلاك “ الما بعد حداثي بعيدة عن هذا الإطار ( إطار الدمج ) ، فممارسة الفرد ( الما بعد حداثي ) للاستهلاك / الممارسة المجانية أسهمت بشكل فاعل في بداية ازدهار الفعلية حيث يقتني الإنسان ما يحتاج إليه وما لا يحتاجه دون التفكير بل ممارسة التفكير والفعل معاً في نفس اللحظة ، إنه يعيش نشوة الاستهلاك وحسب وهي نشوة لها رواجها الفعلي رغم سلبيتها التي تبقيها في سياق السمات ما بعد الحداثية التي تتوازى فيها مع نشوة التلقي السلبي والإرسال السالب الذين اتصف بهما “مجتمع الاستهلاك و الإعلام الما بعد حداثي “ سالف الذكر ، بما أنها فترة سابقة زمنياً لحياة “ مجتمع ما بعد الاستهلاك “ ال” بعد ما بعد الحداثي “ حيث انهار السد بشكل نهائي وانطلقت الكائنات الأجد تعربد في الأرجاء . أسهمت صيغة الاستهلاك الما بعد الحداثية في التعجيل بانتهاء الفجوة بين التخطيط والعمل كما ساعد الوسيط الإلكتروني والتكنولوجيا وأدوات مجتمع الإعلام وعصر الصورة في ذلك عبر حضورية الإعلان ببعده التقني حيث تبدلت مفاهيم الفائدة والمنفعة مقابل الحصول على السلعة لمجرد السلعة وبذا يكون شراء المصنوعات الجديدة لمجرد الشراء ، ما يعني تلاشي عملية التفكير في الاقتناء وفق مخططات مسبقة يعني الوصول إليها انتخاب ما نريد الحصول عليه من بين عدد من البدائل السلعية ومن ثم تحديد لحظة التسوق ليتم فيها فعل الشراء وهي سمة تسوقية من سمات مجتمع الحداثة الصناعي ، أصبحت عملية التسوق جامعة للتفكير والفعل في نفس اللحظة . إضافة إلى ما رسخه عصر الصورة من تجسيم المتعة الاستهلاكية والإفراط في تقريبها ، من خلال الإسراف في عرض الأشكال الفنية والحركية للسلعة ، ما يزرع في نفس الكائن الحاجة لهكذا منتجات والرغبة فيها ، وهي رغبة في صورة تلك المنتجات كما هي في الإعلان و الصورة و في ماهيتها كما هي في ذهنه . توسل عصر الصورة بالهيئة الذهنية للسلعة في مقابل تخليه عن المعرفة التاريخية لها في حالة المعروضات المعروفة والتي سبق للكائن أن تعامل معها أما في حالة المصنوعات الجديدة فقد أزال ارتباطها بفكرة المتلقي عن فائدتها واستعماليتها بمقارنتها بمثيلاتها ، وفي هذا التوسل بعض مساهمة في إسقاط جدار الفصل السابقة الإشارة إليه ، والتقدم بالممارسة التقنية الما بعد حداثية نحو الممارسات الذهنية اللامتناهية الشبكية الأحدث . ومثلما ارتبط الوصول للحياة الفعلية اللامتناهية بما ذكر من مقدمات ما بعد الحداثية مهدت لها ، ارتبط أيضاً بمقدمات كثيرة لم يتم ذكرها لكن ما ورد منها كان لها التأثير الأكبر ولاسيما مع مؤثرات مثل غلبة التطبيق على التنظير والإنكار النسبي للمنهج وعدم الفصل بين النخبوي والشعبي والخاص والعام ، وقبل ذلك تأثيرات الوسائط والصورة والإعلام ، والممارسة المجانية للاستهلاك ، وقد التقي في الإعلان الإعلام بالاستهلاك ، التقاء أدى مع عمليات أخرى عبر فترة طويلة إلى انفتاح الآفاق الجديدة ولا نهائيتها . مثلت الفعلية الجمعية اللامتناهية بأبعادها الآلية ديناميكية المراحل والآفاق الجديدة حيث تتجلى الشبكية بصفتها أعلى مستويات علاقة الإنسان بالآلة وهي مستويات ينتهي معها الفصل بين الإنسان والآلة على جميع المناحي الذهنية والرمزية ، فالشبكية ليست إلا ذروة التحام الفكر بالعملي والتفكير بالفعل إذ هي متاهات اللا تناهي الشبكي الإبداعية وقد سبقت هذه الفاعليات الصيغة التقنية والتكنولوجية الما بعد حداثية حيث كان الفصل ما يزال سارياً على بعض المستويات ولكنها عدت الخطوة ما قبل الأخيرة من عملية الدمج التي بلغت خطوتها الأخيرة مع ظهور ما أطلق عليه في بداية الثمانينيات من القرن العشرين مع اقتراب نهاية ما بعد الحداثة تكنولوجيا الواقع الفائق ، تلك التكنولوجية التي انتقلت منها الكائنات الجديدة إلى فضاءات اللا تناهي الشبكي . بالعودة إلى بوابة المأزق ينقض مقولة «المفكر المتخصص» التي نادت بها ممارسات ما بعد الحداثة التنظيرية ولم تستطع كمقولة إثبات حيويتها وإنتاجيتها ، ( ينقضها ) ما امتازت به استراتيجيات ما بعد الحداثة من دمج الحقول المعرفية ببعضها - وهي خطوة أيضاً في طريق اللا تناهي الشبكي - خلطاً جعل ديفيد هارفي وفريدريك جيمسون يتساءلان : «هل يمكن تسمية أعمال ميشال فوكو ، وهذا ينطبق أيضاً على معظم مفكري ما بعد الحداثة ، فلسفة أم تاريخاً أم نظرية اجتماعية أم علوماً سياسية ؟». انتصرت ما بعد الحداثة للفن على الفلسفة وهو ما يحسب لها طيلة الطريق إلى ردم الهوة بين الممارسة والتفكير ، ما يؤكد انحيازها للفن/الممارسة/الصيغة الاندماجية الإبداعية على حساب التأمل الفلسفي والمنطقي . إلى درجة استحواذ الفن على الممارسة الفلسفية الما بعد حداثية من خلال بروز السمة الفنية في تفكير منظري ما بعد الحداثة بوصف ما بعد الحداثة ممارسة جمالية وانفعالية قبل كل شيء ، ماهية صبغت ممارساتها في الحقول الأخرى بالإبداعية والابتكارية والخلق . إذ إن « الواقع بناء لغوي » ليس غير . انهار المفكر والمثقف الما بعد حداثي وسقط الحاجز التاريخي الفاصل بين التفكير والفعل مع تفشي الحياة ال« بعد ما بعد حداثية» من خلال الظهور الفاعل للكائنات الأجد في تماوجات المتاحية والإشاعة والركض في الصدارات بعيداً مقابل سقوط الإعلام بأبعاده القائمة على الغائية والسيطرة ، ومن خلال ديناميكيات الفعل المندمج وحلول المستهلك المنتج ، ذلك الكائن الأحدث الذي قضى على سلبية المجتمع الاستهلاكي وأحل محلها لانهائيات المجتمع ما بعد الاستهلاكي . مجتمع الحواس المتكاملة والابتكارية الدائمة التغيير والتحول . هذا : - هذا النص مبحث من كتاب للباحث والكاتب اليمني هاني الصلوي قيد الطبع اسمه : “ اللامتناهية الشبكية .... زمن النص/ميديا ... آفاق بعد ما بعد الحداثة “ يعرض فيه الكاتب نظرية جديدة وسمها ب “ اللامتناهية الشبكية “ باعتبارها اتجاهاً من اتجاهات أو رؤى بعد ما بعد الحداثة ، وإن كان في سائر الكتاب يرفض أن يتم قولبة مجهوداته بالنظرية ويشير دائما إلى أننا نعيش مجتمع وحياة وفلسفة ما بعد النظريات . وقد نشر بعض المباحث في بعض الدوريات العربية وشارك ببعضها في مؤتمرات إقليمية عدة . تقوم رؤاه تلك يسميها عادة رؤى أو ممارسات على تخلق ما يسمى بالمجتمع الافتراضي ويدعوه بالمجتمع المآل والمجتمع المعتمد ( المجتمع الحالي ) وهو مجتمع يسير بسرعات ضوئية نحو مجتمع المآل ذلك المجتمع الذي تسقط فيه فكرة التعايش الإنساني مقابل التعايش بين الكائنات . وهو “ لا مجتمع “ يفترض مساقات جديدة ولانهائية في التربية والاجتماع والإعلام و..... “ . وقد بنى كتابه على “ متن “ خص الجمهورية بنشره في يناير 2010م عنونه حينها بزمن النص/ ميديا ..منفستو أولي خائب “ بدأ شعرياً / نصياً وأصبح أكثر سعة وانفتاحاً على لانهائية من الآفاق ، مضى الصلوي نفسه طيلة الكتاب في مناقشة ومباحثة ذلك المتن مسقطاً لعدد من مساراته ومعززاً أخرى ومضيفاً لفضاءات أجد . المحرر