كان المؤرخون لا يكتبون تاريخ الجزيرة العربية إلا من بوابة عدن والجنوب العربي ، حيث كانت عدن تعانق الفن الجميل وتتميز بطابعها المدني الفريد ، فكل من وطأت أقدامه هذه المدينة الساحرة لا يشعر بوحشة الغربة أو بالضيم والوحدانية. ففي عدن كانت حضارة وجمال وألق منقطع النظير.. كانت عدن لا تعرف السلاح والقبلية ، وكان رجالها ونسائها يتسلحون بالعلم والمعارف ، ويتميزون بكاريزما تسر الناظرين ، حيث كانت مدينة راقية ورائدة وفيها حضارة عريقة وأهلها متشبعون بروح المدنية العالية والبساطة ، وشعبها مضياف وبيوتها عامرة بالحب والعطاء. سوف أتطرق ولو لجزء بسيط من الحضارة والازدهار الذي كانت تتميز به هذه المدينة التي تغزل بها الشعراء وغنى لها الفنانون وكتب عنها الكتاب: كان ميناء عدن ينافس على المرتبة الثالثة في العالم بعد ميناء نيويورك وميناء ليفربول في الخمسينات. كان مطار عدن عالمياً يقارن بمطار طوكيو من حيث حركة الطيران ( أغسطس 1962م استقبل مطار طوكيو 1060 طائرة واستقبل مطار عدن 1040 طائرة ). في عدن وجد أول مسرح وأول دار عرض سينمائي وأول شركة إنتاج للإسطوانات على أرض الجزيرة العربية في الخمسينات. كان تلفزيون عدن أول محطة تلفزيونية في شبه الجزيرة العربية. في عدن صدرت أول صحيفة باللغة الإنجليزية في الجزيرة العربية في الخمسينات . في عدن هبطت أول طائرة مدنية على أرض الجزيرة العربية كانت في عام 1919م. في عدن أسس أول بنك في الشرق الاوسط. في عدن كان أول نادي رياضي في الجزيرة العربية عام 1905م في عدن كانت أول غرفه تجارية في الجزيرة العربية شكلت تحديداً في 26 أغسطس 1886م. في الجزيرة العربية صدرت أول صحيفة عربية في عدن وهي صحيفة فتاة الجزيرة بتاريخ / 1 يناير 1940م. في عدن تم إنشاء أول ملعب لكرة القدم في الجزيرة العربية وكان في مدينة المعلا عام 1890م. في عدن كان الشارع الرئيسي في المعلا أطول شارع في الشرق الأوسط وكان ذلك في الخمسينات. كما كانت أيضا منطقة التواهي هي أهم منطقة اقتصادية في الشرق الأوسط وكان ذلك في الخمسينات. كانت أول شركة طيران مدنية في الشرق الأوسط في عدن عام 1941م. في عدن تم تشكيل أول نقابة عمالية للنجارين في الجزيرة العربية عام 1948م وهي من السيد زين صادق وصالح عوض الحضرمي ومحمد صالح سعيد. في عدن كانت ساعة بيج بن هي ثاني أكبر ساعة في العالم تم تشييدها في عام 1890م. في عدن أقيم أول معرض للطيران الحربي في الشرق الأوسط وأول رحلة طيران إلى عدن كانت في يونيو 1916م. أما إذا تحدثنا عن المرأة في عدن والجنوب بشكل عام فقد نحتاج إلى مجلدات حتى نبين كيف كانت المرأة في الجنوب شامخة ومتفردة ، وتحظى بجميع الحقوق وتتقدم الصفوف الأمامية وتسابق الرجل في شتى أنواع المجالات ، حيث كانت متحررة من الأنماط الاجتماعية التقليدية ، فقد برزت كثير من النساء وكن قناديل ومصابيح تنير المجتمع مثل: القاضية حميدة زكريا التي كانت أول قاضية في عدن والوطن العربي ، وكذلك انتصار مجيد هواش التي أصبحت عام 1986 المضلية الأولى على مستوى الجزيرة العربية. ولازلنا نتذكر دور الإعلاميات مثل سميرة أحمد و ماهية نجيب وفوزية باسودان وزينب عبدالرحمن وأمل بلجون ونبيلة حمود اللواتي احتلن الصدارة في المشهد الإعلامي الجنوبي ، ولم تقف المرأة في عدن والجنوب عند هذه الحدود بل اقتحمت كل ميادين العلم والعمل مثل الطب والطيران والهندسة المعمارية والبحرية والتجارة والصناعة ، وكذلك في صفوف الأمن والجيش ولم تكن المجالات الثقافية والأدبية والفنية بعيدة عنها فقد كانت رائدة في النثر والشعر والغناء والمسرح.. والخ.. فماذا حل ب عدن بعد أن كانت موئل العشاق ومشكاة النور ومرتع العلم والثقافة واليسار ، بل أنها كانت مهبط التسامح الديني والقبول بالآخر ، حيث تعايشت بها جميع الطوائف والأديان والقوميات وتعدد الثقافات ، لكن في 7 يوليو 1994م كان موعد مع القدر وأذنت فيه شمس المدنية بالمغيب . في ذلك اليوم الأسود ترجل رجالك وغادروا سمائك الصافية وشوارعك النظيفة ، وتم أسر المرأة ومصادرة حقوقها التي كانت تتساوى مع الرجل. كان البديل جحافل القبائل المتهالكة القادمون من أدغال صنعاءاليمن والأفغان العرب ، وكذلك رجال الدين التقليديين الذين يحملون في أحشائهم . الموت الأسود ، فمنذ ذلك اليوم وهم ينهشون لحم عدن وينخرون الجسد الجنوبي السليم حتى أصبحت عدن والجنوب عامة مدن أشباح ومرتع للأفكار المظلمة التي لا تؤمن إلا بلغة العنف والقتل .. استطاعوا نشرالجهل والتخلف كي يشوهوا وجه عدن المشرق لاسيما بعد أن غلفوا كل باطل بغلاف ديني ، ولكن لا يزال الأمل قائم وكبير ففي عدن والجنوب أناس نهلت العلم وأصبحت كالأشجار المعمرة التي يصعب اقتلاعها ، وها نحن على موعد جديد مع الفجر الذي تنهض فيه عدن والجنوب من تحت الرماد وتشرق فيه وجوه الرجال ، وتعود للمرأة مكانتها وحقوقها المسلوبة ، ول عدن جمالها وألقها..!!