قبل حوالي العام كتب المفكر الكبير " نعوم تشومسكي " لائحةً من عشرة استراتيجيات تضمن للأنظمة الديكتاتورية التحكّم بالشعوب , جعل في مقدمتها جميعًا " استراتيجية الإلهاء " , و اعتبر هذه الاستراتيجيّة عنصراً أساسياً في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتغييرات التي تقرّرها النّخب السياسية والإقتصاديّة، ويتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة , قال بالنَص " حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيداً عن المشاكل الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة. اجعل الشعب منشغلاً، منشغلاً، منشغلاً، دون أن يكون له أي وقت للتفكير". اعتقدتُ و أنا أكتب مقالي السابق عن ( العائدين من الماضي ) أنه سيكون من الكفاية تضمين الأفكار بعمومية خالصة لكي يتم استيعابها على نحوٍ أشمل و أقرب للواقع , لكن ما حدث كان مخالفا تماما لتوقعاتي , إذ تلقيتُ عشرات الرسائل و الردود تعقيباً على المقال ؛ في كل منها محاولة مستميتة لنفض الغبار عن هذه الشخصية أو تلك , و تبريء ساحة القيادي فلان على حساب القيادي علّان , و الاستمرار مجدداً و مجدداً في صناعة الأصنام , و هدمها , لا بل و تفصيل القضية الأم بمقاسات تناسب تدوير التلاهي بالقضايا الفرعية التي تنتجها المواقف و التصريحات المختلفة لهؤلاء النفر ,إذ علينا اليوم أن نتشاغل تماماً بالتصريح الذي ألقاه على مسامعنا ( س) من الناس و الانقسام حوله بين مؤيد و معارض , و غدا يحدث نفس الشيء مع القيادي ( ص ) , و هكذا حتى لا يكون للشارع كلمة في النهاية .
لا نية عندي لفتح صفحة أخرى عن ذلك المقال في الواقع , إلاّ أن ضرورات تبرعم الأفكار عنه استدعت استمرار الحديث فيه من منظور آخر, أو ربما من حسرة أخرى على الحال التي وصل إليها نموذج الثورة في الجنوب , و كيف تم السماح لكل هذا الإلهاء أن يأخذ مأخذه منها , و كيف نجحت آلة إفراز الأزمات بشخصياتها الموصولة بنظام صنعاء القسري الهجين في تشتيت انتباهنا نحو أزمات حقيقية أحيانًا و وهمية أحيانًا أخرى ,لكنها في النهاية فرعية , شحنت لها المشاعر الجنوبية الغيورة , بينما هي ليست في الأساس إلا وسيلة لغاية الإلهاء الكبري .
و ليس أقرب من الحديث عن فتح الشارع الرئيسي في المعلا , الذي تحوّل طوال 15 شهرا إلى أكبر عملية إلهاء في تاريخ الثورة يتم استنساخ نموذجه حالياً باطراد مستمر, ذلك أنه عندما يتحوّل مبدأ النصر و الهزيمة بحجم فتح الشارع الفلاني أو إغلاقه , يجب أن نعرف أننا نسير في طريق لم يرسمها لنا الشهداء و لا دماؤهم ,و ليكن أكيداً حينها أننا نتساوى و أعداء القضية في الرغبة الملحة ل تشتيت الانتباه نحو قضايا فرعية , نصنع منها إنجازات وهمية .. الآن بالتحديد استطيع قراءة الاحتفال المبالغ فيه بفتح الشارع من قبل بعض الجهات المترصدة بالجنوب و ثورته على نحو مختال " نريد منكم طيشا أكبر حيال الفتح , و لتنسوا أمر القضية الأهم " .
يبدو أن الأمر أصبح ناجزا بالفعل , و تحوّل إلى استراتيجية مطبّقة , الآن نفتح صفحة الأعلام الجنوبية التي يلوح " وحيد رشيد " , محافظ عدن أنه سيزيلها من الشوارع ابتهاجا بيوم الوحدة , سيأخذ هذا الأمر مأخذه و سيتبرع أهل الحل و العقد بالتصدي لهذا المشروع بالكثير من الاهتمام , لن يكون الوقت مناسبًا لتوحيد الرؤية حول خيارات القضية , بل سيتم اختزال كل شيء لمعالجة هذه التهديدات , و سينام فرقاء صنعاء بأمان لمدة شهر ربما , تاركينا نلهو بفتات أزمة أخرى .
" لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا وجده منحنيًا " , هذه العبارة أشهر من أن أعرفكم على صاحبها "مارتن لوثر كينج " , لكنها حقيقة جدا فيما يخص قابليتنا على تشرّب الأزمات المفتعلة , نحن لا جهوزية لدينا بالمطلق في إدارة الخطر , لا نضوج فعلي في ترتيب الأولويات , لا رغبة ملحّة في تنحية الذات لأجل الصالح العام , لا قابلية ليّنة للاعتراف بالأفضلية , لا مقدرة واضحة على فرز الصفوف و نخل الرؤى , لا حرص حقيقي في إنجاح لقاء أو تكتل أو تيار أو نقابة جنوبية تكون واجهة العقل الجنوبي الشرعية في تهذيب المواقف و تفنيذها للشباب و الساحات , لا مناعة عند ثورتنا من اختراقات الجراثيم و الطفيليات التي أنهكت جسد القضية .
أرجوكم , ألا يكفينا التلاهي بأمر المخدرات و القاعدة و السلاح المستشري في جسد مدنيتنا و أمننا , ألا يكفينا صمت العالم بسبب تخبطنا , ألا يكفينا نبوءات المتربصين عن أننا لا نصلح إلا كنموذج أفغاني قريب , ألا تكفينا عقلية الوصاية التي نضطر إلى مواجهتها بوهن الفردية و الشتات , ألا يكفينا شماتة الشامتين و حقد الحاقدين . متى سيكون لنا المقدرة على الزهو بتماسكنا و تلاحمنا و اصطفافنا المتين في وجه الملهيات , متى لن يكون هناك مجال لاستدراجنا نحو مزالق بعيدة عن طريق الثورة و القضية , لا أملك الإجابة , و لكن أملك الكثير من الأمل و الثقة أن الحق سيحق في الأخير , متى يحدث هذا ؟ أتمنى أن يكون في حياتي .. [email protected]