عدن وجه مليء بالبهجة والسرور، بلسم الجروح، وسادة راحة التعب والإرهاق، ونزهة المشتاقين. طفل وديع يحب الجميع، ويحبونه، وبيت كرم يهوي إليه النازلون، ويتسابق لسكناه الساكنون. وَبَينَ شِفاهِها مِسكٌ عَبيرٌ وَكافورٌ يُمازِجهُ مُدامُ . فَما لِلبَدرِ إِن سَفَرَت كَمالٌ وَما لِلغُصنِ إِن خَطَرَت قَوامُ. عدن الجمال، والأنس، والسعادة، والبهجة والسرور، والحضارة، قبلة يهواها القريب والبعيد، بحرها لؤلؤ مكنون، وساحلها ذهب بارز غير مدفون، مدحها الشعراء، واشتاق لرؤيتها الغرباء، وكان فراقها من الشيء المستحيل، وفيها يقول شاعرها وابنها: كل شيء معقول إلا فراقك يا عدن. ليست وليدة الساعة فهي عتيقة وعريقة، تمنى الملوك والحاكم الوصول إليها، وتمنى المستعمرون المكوث فيها، وتمنت عواصم بلدان أن تكون مثلها أو قريبا منها. لقد غير الحاقدون وجهها السعيد إلى الحزين، والباسم إلى الكئيب، والبهيج إلى النحيل الهزيل، والناضر إلى الشاحب، فاستنكرها أبناؤها الكبار. تقُولُ ابْنَتي لمَّا رَأَتْني شَاحِبًا ... كأَنَّك فِينا يَا أَباتَ غَرِيبُ اختلطت دموعها بدمائها فلا تدري أتبكي على انتهاك حرمتها، أم على القهر والذل الذي ينال فلذات كبدها،لم يشفع لها عند أهل الإجرام جمالها ولا تاريخها. عدن ودعت الكثير من أبنائها وداعا لا لقاء بعده، فاحتضنتهم بتربتها، وسقتهم بدمعها! وودعت الجماعات من فلذات كبدها، وأُسكبت لهذا الفراق العبرات، وعلت الأصوات بالعويل. ودعوها وهم يرون كل بلاد غريبة عليهم، وغربة لهم، فليست الخالة كأم العيال. لَنَا عَبَرَاتٌ بَعْدَكُمْ تَبْعَثُ الْأَسَى ... وَأَنْفَاسُ حُزْنٍ جَمَّةٌ وَزَفِيرُ. ودعتهم وهي تقول بصوتها الخافض: وَمِنْ عَبَرَاتٍ تَعتَرِيني وَزَفرَةٍ ... تَكَادُ لهَا نَفسِي تَسِيلُ من الوَجدِ. وداعا حبيبتي عدن.