بقلم المحامية أوسان سلطان ناجي، عدن 7 نوفمبر 2018م في العام 1976م صدر قانون رقم 38 بشأن " منع تعاطي وبيع وشراء القات خلال بعض أيام الأسبوع في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وبموجبه حظر تعاطي القات ماعدا يومي الخميس والجمعة، ويعاقب المخالف بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات أو بغرامة لاتقل عن خمسة وعشرين دينار ولاتزيد عن مائتين وخمسين دينار أو بالعقوبتين معاً، ويسري القانون من يناير 1977م. لقد نزل هذا القانون نزول الصاعقة على شريحة واسعة من مجتمع اليمن الديمقراطي حينها، وتضرر منه بصورة خاصة فئة المبدعين من كتاب وشعراء ومن على شاكلتهم لأن مجالس القات ماهي إلا ملتقيات إجتماعية ومنتديات أدبية وثقافية وفنية تعمق أواصر علاقاتهم البينية وتغذي معارفهم وتزيد من إلهامهم وإبداعاتهم، حيث كانت تعد حينها ضمن خياراتهم الشحيحة المتاحة للإلتقاء وتبادل المعرفة والخبرات والتنفيس عن مابدواخلهم إذا ما نظرنا إلى واقع الحال في مجتمع ذلك الزمان من سبعينيات القرن الماضي المنغلق على ذاته بفعل إحكام قبضة النظام الإشتراكي/ الشيوعي عليه. بحسب القاعدة القانونية " لا أحد يعلو على القانون Nobody is above the law " وفي ظل وجود سلطة دولة قوية لا ترحم ولا تستثني أحد في حال مخالفة قوانيها وتشريعاتها، نستطيع أن نتخيل حالة الخوف والرعب التي كان يعيشها الشخص المخالف وهو يفكر في كل لحظة كيف لو أنكشف أمره وتم ضبطه متلبساً من قبل السلطة المختصة ولاسيما أن تلك الحقبة كانت تشهد محاكمات وإصدار عقوبات جنائية ومالية وإدارية وسياسية كفرض لغرامات، وتنزيل رتب عسكرية ودرجات وظيفية، وعزل من مناصب، وتأميم ومصادرة ممتلكات، وسحب جنسية، وصولاً إلى السجن والإعدامات. ومع التحفظ وعدم الخوض في طبيعة تشريعات وقوانين تلك المرحلة وهل كانت عادلة أم لأ، فقد كان الكل دون إستثناء مهما كان موقعه أو منصبه يقع تحت طائلة القانون والمسآلة، أي تحت القانون، وخصوصاً إذا أنكشف أمره وتوفرت أسباب إدانته، وهذا أمر كان يحسب لسلطة جمهورية اليمن الديمقراطية! لم يكن والدي ومجلسه بعيداً عن تأثير هذا القانون " الصاعقة " ، فوالدي كان معروف بحبه للإعتكاف والإنعزال داخل بيته " الواحة" و مكتبته " الصومعة" متفرغاً للقراءة والكتابة وفقاً للطقوس اليمنية، أي مع التخزين/ تعاطي القات مع فتح مجلسه " المبرز" يومياً لإستقبال أصدقائه ومريديه ممن يطلب المشورة أو الإستمتاع بصحبته وصحبة جلسائه من مثقفين وساسة وشخصيات إجتماعية وتربوية. أتذكر والدي وهو يتذمر طول الوقت من هذا القانون" الأهبل والمالوش لزمه" وكيف كان يحرص بنفسه في يوم الجمعة على حفظ القات في إناء معدني يغلق بإحكام، نسميه عندنا بعدن كاتورا أو برتن، ويضعه في الثلاجة ليقوم بإستهلاكه على دفعات خلال أيام الحظر التالية للجمعة إلى أن يأتي يوم الفرج، أي يوم الخميس! لقد أثر هذا القانون على والدي وعلى مرتادي مجلسه بصورة كوميدية، طبعاً من منظورهذه الأيام وليس تلك! فالكل خائف ويخشى التورط والضبط متلبساً، ومن يأتي من أصدقائه المقربين جداً في أيام الحظر يقوم بالإحتياطات الضرورية للتستر كأن يحضر بدون سيارة أو يدخل سيارته لحوش بيتنا الخلفي، كما كان يتم تنبيهنا ونحن أطفال بعدم إفشاء السر وأحياناً عدم السماح لنا باللعب مع أصدقائنا في ذلك اليوم الإستثنائي من باب الإحتياط! وهكذا أستمر والدي بالتخزين يومياً مخالفاً بذلك القانون النافذ، وكان يشاركه في معظم أيام الحظر صديقه وجليسه الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة من منطلق" أما نخزن سواء أو نحبس سواء" وكان هذا تكتيك منهما حيث كانا يظنان بأنه سيكون محرجاً للغاية على أي جهة مهما كانت سلطتها ضبطهما معاً وايقاع العقوبة بهما، فليس من المعقول وضع المؤرخ سلطان ناجي والشاعر الجرادة في السجن بسبب القات " باتقع فضيحة مدوية وباتهتز كل الأوساط الأدبية والتاريخية في عدن بل واليمن كلها" ! ولأن والدي حينها كان يتمتع بشهرة كبيرة متصاعدة بسبب كتابه المعروف " التاريخ العسكري لليمن" الذي صدر قبل أشهر من صدور قانون حظر القات، فقد كانت تلك " العشبة المحرمة " تهدى إليه على الدوام من كبار مسئولي الدولة والقوات المسلحة والأمن ومنهم الرئيس علي ناصر محمد والوزراء صالح مصلح وعلي عنتر والمحافظ طه غانم وآخرين بل وحتى من بائع القات " المقوت" على شكل زيادة الكمية المخصصة لوالدي يوم الجمعة دون محاسبته بثمنها الحقيقي! يبدو أن الجميع كان مقتنع بصورة أو بأخرى بأن ذلك القانون غير واقعي ولايراعي عادات حميده متأصلة في مجتمعنا اليمني، لذا كانوا يتلذذون بتغذية إحساسهم بالحرمان من تعاطي القات وذلك بدعم والدي ليستمر في تعاطيه! لست أتذكر كم أستمر الحال بوالدي في التعاطي اليومي " شبه السري " للقات إلى أن جاءه الفرج ذات يوم حيث زار منزلنا بصورة مفاجئة الرئيس علي ناصر محمد، وهذه كانت عادته من حين لآخر، وأشتكى والدي له وطلب منه التدخل لحمايته من " سيف ديموقليس" المسلط عليه، أي من الخطر المحدق عليه من سيف القانون، وأن هذا السيف يؤثر سلباً على إبداعه و إنتاجه الفكري، فوعده الرئيس خيراً وكان الأمر كذلك. وعلم والدي لاحقاً بأن توجيهات صدرت لجهات الإختصاص بعدم التعرض له أو لمجلسه اليومي، أي عدم تطبيق القانون في مواجهة تصرف والدي المخالف للقانون، ومن حينها وبالمفهوم القانوني، أصبح والدي " فوق القانون " ! أنقضت سنوات وألغي قانون القات الشهير، كما رحل عن هذه الدنيا والدي وكثيرون من أصدقائه ومريديه، رحمة الله تغشاهم جميعاً، وفي زيارة لي لبيروت عام2009م تشرفت بلقاء الرئيس علي ناصر محمد، والذي أكد لي هذه الواقعة حيث بادرني هو بالحديث عنها ضاحكاً وقال: تعرفي أنني حباً وتقديراً لوالدك وللجرادة خالفت القانون وأعطيت توجيهات بعدم التعرض له ولمجلسه خدمة للعلم والتاريخ والأدب! فأجبته بنعم، ثم أسترسلنا في أحاديث تاريخية شيقة ومتنوعة عن علاقته بوالدي وآخرين في تلك الحقبة من الزمن. بقلم المحامية أوسان سلطان ناجي، عدن 7 نوفمبر 2018م