فيلم " عشرة أيام قبل الزفة " ، شاهدته ثلاث مرات، ومنذ المشاهدة الأولى للفيلم قررت أن أكتب شيئاً يعبر عن انطباعي وقرأتي الشخصية للفيلم، مع التأكيد بأنه ليس بالضرورة أن يتطابق هذا الانطباع والقراءة مع فكرة الفيلم ورسالته كما أراد أن يعبر عنها مؤلفه ومخرجه الشاب المبدع عمرو جمال لأن " المعنى في بطن الشاعر" كما يقال! لهذا لن أخوض تفصيلاً في الحديث عن صناعة الفيلم وريادتة ومستواه الفني وحبكته الدرامية و مستوى أداء ممثليه لأن ذلك يحتاج لمختصين في هذا المجال، ولا في التفاصيل عن مدى البهجة والأمل الذي بعثه الفيلم لكل من توجه إلى قاعات العرض، أو دار السينما المفترضة، وأشترى تذكرة وحضر الفيلم وشاهده وتفاعل معه فرحاً وترحاً، مستعيداً بذلك طقوس ارتياد دور السينما بعدن زمان وعلى أمل تكرار مثل هذه العروض والإبداعات، وقد تجلى ذلك واضحاً في الإقبال الكبير على صالات العرض بالرغم من كل الظروف المحيطة المعرقلة والمنهكة لفريق عرض الفيلم وللمشاهدين! تدور معظم أحداث الفيلم في أحياء وشوارع مدينة كريتر، وهي مدينة عدن الأصلية، حيث مجتمع أبطال القصة. يحكي الفيلم قصة عروسين شابين كانا يستعدان ويخططان لإتمام زواجهم بعد عشرة أيام وفجأة ولأسباب طارئة تتداخل الأحداث المعرقلة لخططهما مهدده بذلك حلمهما الجميل في الزواج والبدء بحياة أسرية سعيدة. وفي سياق القصة وأحداثها، تتكشف تداخلات التبعات الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها الحروب والأحداث على مدينة عدن وأهلها، وقد أختار المؤلف نموذج لحقبة زمنية ممتدة من ثمانينات القرن الماضي ومروراً بالحرب الأخيرة 2015م وإلى اليوم . يبدأ الفيلم بمشهد إخراج ونقل أثاث العروسين من بيت العريس بطل الفيلم _ و بيت العريس أو القفص الذهبي المنتظر كان عبارة عن غرفة متواضعة بناها على سطح بيت جدته لأبيه _ وذلك قبل عشرة أيام فقط من زفافه، ومن ثم تبدأ قصة البحث الدرامية عن مخزن مؤقت لحفظ الأثاث وكذا عن سكن جديد آخر بديل للعروسين ليتمكنا من إتمام الزفة والزواج في موعده. وخلال توالي العقبات والمصائب أمام أبطال الفيلم، تمكن أولئك المبدعون وبتصويرهم الاحترافي الناطق سواء من الأرض أو من الجو، تمكنوا من إظهار " واقع الحال و سؤ المآل " لهذه المدينة الشهيرة العريقة الجوهرة المسماة عدن، الضاربة في التاريخ لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. لقد أحضروا لنا مدينة عدن وأهلها إلى الشاشة، وكنا في قاعة العرض نشاهد الفيلم كمتفرجين كما لو أننا نراها لأول مرة، وكأن الفيلم عمل لنا صدمة " أو خضه " وهالنا حجم " البؤس والبؤساء" وأوجعنا منظرها وحال أهلها وساكنيها، أو بالأحرى حالنا! حيث يبدو أننا بحكم استقرارنا وعيشنا الدائم فيها قد أعتدنا على التعاطي مع توسع رقعة التخريب للبنى الاجتماعية والاقتصادية وكذا للبنية التحتية الحضرية للمدينة وعلى تدني مستوى الخدمات فيها، هذه الرقعة التي تغلغلت وتوسعت وترسخت على مدى عقود من الزمن كنتاج لأنظمة حكم متعاقبة فشلت في إدارة هذه المدينة الجوهرة وليس كنتاج للحرب الأخيرة فقط، ثم جاءت هذه الحرب بالتأكيد لتزيد الماء على الطحين ولترمي بظلالها القاسية على أم المساكين وعيالها المساكين! إن قصة الفيلم وبدون مبالغة، تحاكي قصة الآلاف من أبناء عدن من أهلها وساكنيها المرتبطين بالعيش فيها و المفعمين بحبها دون أن يعرفوا سبباً معيناً لذلك الارتباط والحب: هل ان السبب جينياً وراثياً؟ أم أن سهم الحب " كيوبيد" قد أنغرز في قلوبهم كما في الأساطير اليونانية؟ أو أنه نوع من " التحدي و العناد" في مواجهة كل الظروف والعوامل المحفزة للتخلي عن حب عدن والرحيل منها؟ في اعتقادي أن السبب هو خليط من السببين الثاني والثالث، فقد أنغرس سهم محبتها في قلوبنا ولن ينتزع إلا بهلاكنا، كما وتحفزت في دواخلنا عناصر التحدي والعناد! كان للقطات " أو القفشات" الكوميدية دور مهم في نجاح الفيلم، وهو مايعرف في علم المسرح بالكوميديا المعززة للمضمون الدرامي للعمل، حيث استخدمت بذكاء في سياق المشهد الدرامي للتخفيف من حدته ولتقوم بكسر توتر المشاهد وإعطائه فاصل للراحة مما يساعده لاحقاً على الاستمرار في مشاهدة الفيلم واستيعاب رسالته. وهنا لابد من الإشادة بأن كل ممثل أبدع في أداء "القفشة" الكوميدية التي تخصه، وتمكنوا جميعهم ببراعة وتلقائية من انتزاع ابتسامات وضحكات بل وقهقهات المشاهدين مخففين بذلك أسى منظر المدينة وواقع أبطال القصة ومعاناتهم! كما نجح الفيلم في إظهار العلاقات الإنسانية الأولية والعفوية، أو جدعنه أهل البلد، التي يتمتع بها أهل عدن " المساكين" تجاه بعضهم البعض، والتي لولا توفر مثل هذه المشاعر والعلاقات الإنسانية النبيلة بينهم لكانت الحياة أصعب بكثير بل ولا تطاق لمعظمهم . اختيار الأغاني التعبيرية للفيلم كان موفق للغاية، ولعبت دور مؤثر وفعال في ربط المؤثرات السمعية بالبصرية مما أدى إلى تحريك وإطلاق المشاعر الفياضة والجياشة للمشاهدين. بدأت قصة معاناة بطل الفيلم بأغنية الفنان الكبير أحمد قاسم الشهيرة " أنا من بداية عمري أنا والعذاب دايماً حبايب" وتفاعل معها المشاهدون بالابتسام والضحك وكأنها جاءت على سبيل النكتة لتبشر بالمصائب القادمة على رأس البطل! ومع إستمرار تفاقم الأحداث الدرامية أنصت المشاهدون لأغنية الفيلم الرسمية " ليش يا أم المساكين" وتفاعلوا معها بكاءاً ودموعاً على أبطاله، وفي نهاية الفيلم كان مسك الختام بأغنية وزغاريد الزفة العدنية الشهيرة " كله حلا يستأهل... حلا حلا يستأهل.." ! فكان التفاعل معها بهجة وتصفيقاً ولاسيما أن رائحة البخور قد تجاوزت الشاشة وأستنشقها المشاهدون بالفعل في القاعة، وهو مؤثر حسي آخر أستخدمه المخرج بذكاء من خلال إطلاق رائحة البخور في القاعة لتصاحب مشاهد الزفة في الفيلم وكأن العرس داخل قاعة العرض وجميع المشاهدين مشاركين فيه! في الأخير، جاءت هذه البصمة الإبداعية المتفائلة لتتحدى الانكسار والنهاية المأساوية المألوفة، فكان لمشهد النهاية بالغ الأثر في بعث الروح وإعطاء الأمل والفرح لكل المشاهدين، لكل المساكين في مدينة أم المساكين، حيث نقلت لنا الكاميرا ببراعة حالة الفرح والعرس من الأرض، زفة العريس في الشارع وزفة العروس في بيت بسيط متواضع مع كل مظاهر وطقوس العرس العدني من رقص وأغاني وزغاريد وبخور وتوزيع للفل والمشموم بل وحتى الفوفل والتمبل، ثم بدأت الكاميرا تتجه نحو الأعلى رويداً رويداً معطية مدى أبعد وأوسع للصورة التي في الأرض، لتعطي للمشاهد رؤية أكثر وضوحاً وعمقاً لحالة الفرح والرقص المحاطة بكل ذلك الخراب والدمار، صورة تتداخل فيها مظاهر الموت والدمار مع مظاهر الحياة والفرح والتطلع لمستقبل، فكان أن انتهى الفيلم بانتصار الحب والأمل وبإتمام الزفة والزواج، أي بانتصار عدن. تماماً كما في الأساطير القديمة، كأن عدن والفيلم وأبطاله كطائر الفينيق خرجوا من بين الركام وحلقوا عالياً في السماء!