استبشرت زوجته وامتلأت سعادة حينما تمّ الإعلان أن يوم غدٍ الإثنين أول أيام شهر رمضان الفضيل، كانت قد استعدّت له منذ أمد، وها هي اليوم تتأهّب لكي تستعرض عضلاتها في الطبخ لتُري زوجها ما لم يرَه من قبل، ويتذوق ما لم يتذوقه منذ زواجهما قبل خمس سنوات. مع التطورات التكنولوجية المتسارعة وانفتاح الناس والعالم على بعضهم البعض، اطلعت الزوجة على مختلف القنوات الفضائية وتصفحت العديد من المواقع المتخصصة في الطبخ وحمّلت الكثير من الكتب كما نسخت الكثير من الموضوعات كل ذلك في إطار جهودها الرامية لأن تثبت لزوجها أنها ( ست بيت ) قد نعذرها على نظرتها تلك للحياة الزوجية، لكن لبساطتها وربما لما تصنعه الأيام من خبرة ودراية فقد أحست المرأة ( أن أقرب طريق إلى قلب الرجل هو بطنه ). وحتى لا نبخسها حقها فقد تأثرت بزميلاتها اللواتي كنّ يتشاركنها التفكير ذاته وقد اجتمعن جميعاً في مجموعة ( قروب ) على الواتساب وهو أحد برامج التواصل الاجتماعي الشهيرة، فكنّ يطرقن مثل هذه المواضيع ويتناقشن فيما بينهن ويطرحن آخر ما توصل إليه العقل وتفتق عنه الذهن البشري في مهارات الطبخ وإدارة المنزل، فكانت حريصة على المتابعة والاطلاع أولاً بأول، كما كانت أحرص على ألا تحذف أية محادثات في مجموعتهن تلك، فقد كانت تعلم أنه سيأتي اليوم الذي تحتاج فيه لشتى الوصفات والطرائق لصنع المأكولات والحلوى وخاصة خلال شهر رمضان المبارك، ولأجل ذلك فرحت بمدخل رمضان كما أسلفنا قبلاً. لا يعني حديثنا إطلاقاً أن المرأة لم يكن لها من برنامج تعبدي يستهدف رفع مؤشر إيمانها خلال الشهر، فبالعكس فقد كانت الزوجة حافظة للقرآن، متخلقة بأخلاقه وآدابه وعلى دراية وإن كانت مجملة بحقوق الزوج عليها، كما قرأت كمية من الكتب والرسائل عن تربية الأبناء ورعاية الأسرة والقيام بمسئوليتها على الوجه الذي بينه الشارع، ونحن حينما نذكر اهتمامها بالطبخ إنما نذكر جانباً مما نستهدف أن نستوضحه في هذا المقام ونقعّد له القواعد أو بشكل أوضح أن نستخلص منه الدرس في نهاية المطاف، فلا يُفهم أننا بخسنا تلك الزوجة حقها، فقد كانت بحقّ زوجة صالحة مستقيمة، بل كانت حصاناً رزاناً زينة لزوجها طالبة لرضاه مستميتة في طاعته وعدم إغضابه. لم يفرح الزوج بدخول رمضان كما فرحت هي، ولم تبدُ عليه أمارة الحماسة كما بدت على زوجته الطيبة، ربما لأن بعض الأزواج يعلمون أن رمضان يعني لهم فاتورة مكلفة، وجيباً خالياً، وطلبات كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، من هنا تململ الزوج عندما سلمته قائمة المطالب المطلوبة خلال الشهر، طلبت منه ألا يلغي أو ينسى شيئاً منها على الإطلاق لأن كل واحد منها يكمّل الآخر، فهي كسلسلة متتابعة إن نقصت حلقة منها تناثرت بقية الحلقات. تأفف الزوج وهو يتناول القائمة منها، فكان تناوله لها أشبه بمن يتناول ملعقة دواء مرّ ممن يمد له منه ملعقة كبيرة إلى فمه المرتجف،أخذها مباشرة ودسها في جيبه ووعد زوجته أن يأتي في المساء بما أرادت، وهنا لفتة مهمة نود أن يعلمها القارئ الكريم، وهي أن الزوج لم يكن مكافئاً للزوجة في جميل الخصال والخلق، بل كان رجلاً عابساً لا يرضيه شيء، يتنرفز لأتفه سبب من الأسباب لذا كانت الزوجة تعلم طبيعته القاسية فكانت لا تتكلف معه في شيء، لكنها رأت يومئذ أن الأمر مهم فيما تطلبه منه، فالمسكينة في الأخير هدفها أن ترضيه وتسعده، لكن يبدو أنه شخص لئيم سيء المعشر كما سنعرف لاحقا في بقية قصتنا.
في المساء أحضر الزوج الأغراض، تناولت الزوجة الأكياس إلى المطبخ ثم بدأت في تفقدها حاجة حاجة، لم يكن ثمة شيء ناقصاً، اطمأنت وأعدّت عدتها ليوم غدٍ الذي سيصادف أول أيام الصيام.
تنفس صبح أول يوم من شهر رمضان، قضته الزوجة في طاعة وقربى، واستغلت جميع أوقاته فيما يرضي الله، أما الزوج فقد قضى معظم يومه يغطّ في نوم عميق، وهي بالرغم من مجهودها الكبير لإصلاحه إلا أنها تخاف أن تصطدم معه فيحصل ما لا تحمد غقباه، فاكتفت بالنصيحة والتوجيه والدعاء له بظهر الغيب أن يصلح الله حاله ويغيره إلى الأحسن.
عند انتصاف النهار توجهت الزوجة إلى مطبخها تحدوها الآمال في صنع شيء ينال رضا زوجها حال إفطاره، بذلت جهدها الحثيث، وشمّرت عن ساعديها واستماتت في مساعيها وصنعت عدّة أطباق متنوعة، كانت صائمة وتعمل وحيدة ولم يكن لها من يساعدها، فابنتها الكبرى لا تزال صغيرة وهي في سنيّها الخمس لا تزال غضة، فكانت تبعدها وتبعد أخويها الأصغر منها عن المجيء إلى المطبخ خوفاً عليهم من أي خطر، فذاكرتها تمتلئ بقصص الحوادث المؤلمة التي تحدث للأطفال في المطبخ وهي ليست مستعدّة لأن ترى أحدهم ملسوع الجلد أو مشوه الوجه أو محروق اليدين.
لم تتجرأ يومها أن تطلب من زوجها المساعدة، فهي تعرفه جيداً، وما زالت تغبط صويحباتها حينما يتحدثن فيما بينهن عن مساعدة أزواجهن لهن في الطبخ وجلي الأطباق وحتى تغسيل الملابس، إذ كانت الفكرة بالنسبة لها أقرب إلى الخيال، فكنّ يعلمن حالها ويقلن لها "ليس في الأمر خيال ولا مبالغة، فنبينا يقول : ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )، ولعل زوجك لا يرغب في أن يقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعامله مع أهله وقيامه بالكثير من حاجاتهم حتى في أمور الكنس والتنظيف".
ولما رُفع أذان المغرب أفطر الزوجان على تمر وماء وشيء من العصير، وبعد صلاة المغرب أعدّت الزوجة المائدة ونسقتها ورتبتها، بدت الأطباق كأنها نجوم تلمع في صفحة السماء، ومن فرط فرحتها لم تدرِ أن تطلب من زوجها أن يتناول من أيها، فقد كان كل الطعام في نظرها أشهى ما يكون، جلس الزوج صامتاً ولم تبدر منه حتى كلمة شكر لزوجته على مجهودها العظيم، امتدّت يده إلى إحدى الصحائف، وفجأة رمى من يده ما تبقى من لقمة، نظرت إليه الزوجه في خوف، ثم أخذ يوبخها بشدّة : أن الملح في الطعام ناقص، وأن البصل لم يكن ناضجاً بقدر الكفاية، وأنها لا تنفع في الطبخ بل لا تنفع لشيء، ثم قام من مكانه وترك المائدة على ما هي عليه كاسراً قلب زوجته الحنون، هذه الزوجة المسكينة التي قضت شطر يومها تتفنن وتتعب من أجله، من أجل أن ترى ابتسامة رضى منه، كانت ترضى بنظرة رضى من عينيه ناهيك عن كلمة شُكر أو اعتراف بالجميل.
صمتت الزوجة ولم تردّ عليه، سالت دموعها، وهكذا المرأة لا سلاح لها سوى الدموع، مالت عليها ابنتها الصغيرة وقالت لها " لماذا تبكين يا ماما؟"، أخبرتها ألا شيء، ردت عليها الصغيرة البريئة " بابا زعّلك مش كذا"، لكنّ الأم هزّت رأسها نافية حتى لا تزعزع ثقة البنت في أبيها.
جمعت الزوجة الأطباق التي ظلت محتوياتها كماهي، ثم طفقت تغسل الصحون، كانت يداها تتحركان أما عقلها فقد غاب عن الواقع، أخذ يتردد في ذهنها طعنة الزوج حينما قال لها بشدة " أنت لا تصلحين لشيء"، انسابت دموعها بشدة، غسلت وجهها مراراً بالماء بعد أن اغتسل بالدموع، لا حيلة للمسكينة، لا تستطيع أن تشكو إلى أهلها أو تخبر صديقاتها بما حدث خوفاً من العواقب، ومن أجل أبنائها قررت أن تصبر.
فيا أيها القارئ الكريم : قد تتفق معي بلؤم الزوج وسوء عشرته مع زوجته المخلصة، لكن كم منا من قد يفعل مع زوجته ما فعل ذلك الزوج الناكر للجميل ؟ هل شكرنا زوجاتنا على تعبهنّ من أجلنا ؟ هل ساعدناهنّ في أمور البيت والتربية؟ كم مرة كسرنا قلوبهن حينما عبنا طعاماً تعبنَ في إعداده، وبذلن في إتقانه دماء قلوبهن ؟ ، كم مرة صدرت منا كلمة أطلقناها على عوانها لكنها كانت بمثابة طعنة نجلاء انغرزت في قلب زوجة مسكينة ضعيفة قليلة الحيلة ؟