قبل ثلاثة وعشرين عاما كنت في رحلة أسرية مع والدتي إلى اندونيسيا ،لزيارة الأقارب، زرنا خلالها مدينة (مالانغ) الاندونيسية الرائعة الجمال باعتدال هواءها وجمال منازلها ونظارة أديمها ، وطيب مذاق فاكهتها حتى أن شعار هذه المدينة هي التفاحة تضعها السلطة تمثالا ضخما في وسط جولات المرور ، كنت حينئذ برفقة صديق قريب لي في زيارة سيدة تربط كلينا بها صلة قرابة ، تسكن السيدة على ربوة فرشها الخالق بسجادة خضراء ، كان منزلها في منتهى الأناقة والبساطة ، كانت السيدة في عقدها الخامس. حضرنا إلى منزلها لنعزيها بوفاة زوجها ، الذي توفي قبل يومين على الأرجح ، كانت تعاني من الحزن والوحدة لفقده ، كانت ترى بأنها أسعد أنسانة بوجوده إلى جانبها ، رغم أنهما لم ينجبا أحدا . فهي تعتقد بأنه بغياب زوجها قد ذهب عالمها ، مستشعرة صعوبة الحياة بدونه. تولد لديها اعتقاد قوي بأن أرواحا تشاطرها العيش في منزلها بعد غياب زوجها ، فكثيرا ما تسمع الأبواب وهي تفتح أو توصد ، وتسمع أحيانا طقطقة مفاتيح الإنارة و ترى مصابيح المنزل تضئ وتنطفي من ذاتها ، كما تستشعر بأن هناك حركة غير طبيعية في منزلها الذي لا يشاركها العيش فيه مع قطتها -الأثيرة- إلا الورود والأشجار الجميلة التي تعتني بها. عندما شكت لنا قصتها بما يؤرقها فاجأني صديقي وقريبي بأن قال لها : - بسيط لا تقلقي سيعالج الدكتور حسين الأمر. أدركت للتو بأنه من الصعب إقناع هذه السيدة العزباء التى هدها الحزن ، بأنه لا يوجد جن في منزلها. ولكنني فاجاتهما بأمر آخر ، لقد صحت بصوت عال مجلجل استجمعته من أعماق أعماقي مستعينا بتضييق حنجرتي قائلا : (عزريت....) كان الصوت أشبه بزئير الأسد أو لعله أشبه بدوى هزيم الرعد ، وأتبعت ذلك بحالة صمت وقور ومطبق . في حين ابقيت رأسي مطأطا صوب حضني لأكون أشبه بالتمثال الاغريقي (الرجل المتأمل) . ** ساد سكون خيم على المكان لم يتجراء حتى صديقي أن يخترق عذريته ، حتى أن ضحكة كاد أن ينفجر بها شدقاه قد كتمها ، بل وابتلعها لرهبة الصوت المتجاوبة له الأرجاء. أما السيدة المسكينة فقد أخرسها ذهولها من هول ما استشعرت به من تلك الصرخة ،لتتعطل لغة الكلام لديها . بعد لحظات بدت طويلة ، اخترقت جدار الصمت وتحدثت بصوت هادئ وقور. _ خالتي الكريمة... نعم منزلك يشاركك السكنى به "نفر من الجن" ، ولكنهم هنا لخدمتك ولحراسة منزلك ،لقد سكنوا هنا مباشرة بعد غياب الرجل الصالح زوجك . هلى تريدينهم أم لا؟ الأمر يعود إليك. - إن كان لا ضرر في ذلك فلا مانع من مشاطرتي السكن فيه. - إذا كل ما عليك الأن هو الأكثار من تلاوة القرآن في المنزل ، والإحسان إلى المحتاجين قدر استطاعتك... بعد برهة سكون قلت مستدركا : - نعم عليك أيضا أن تهدي ثواب ذلك لزوجك . * بعد مغادرتي لاندنيسيا بشهر تقريبا سألت صديقي عبر الهاتف عن حال هذه السيدة. فقال لي بأنها بأحسن حال وهي تستشعر بمعية زوجها من خلال أعمالها الصالحة التي تجلب لها الطمأنينة. * يوم أمس اتصل بي على الواتسأب صديقي هذا حسين سالم بارجاء من أندونيسيا ليخبرني بوفاة هذه السيدة الكريمة ، مذكرني بقصتها ،بعد حياة حافلة بالكرم والوفاء لزوجها في حياته وبعد مماته. اليوم فقط بعد ثلاثة وعشرين عاما ستلتقي زوجها. تغمدهما الله بواسع مغفرته ورضوانه.