بداية المقالة بنصحية الحسن البصري لأمير المؤمنين «فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله، كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله»..بهذه الكلمات التي لاتأخذ صاحبها في الحق لومة لائم نصح الحسن البصري أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عندما استنصحه الأخير.. عندما آلت أمور الدولة الأموية للخليفة عمربن عبد العزيز، كان أول قرارأصدره هو عزل جميع القضاة والولاة الظالمين في العهود السابقة، وهكذا كان أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة وغيرهم. فيبحث عن الأصلح ديناً وأمانة.. وكان يأخذ بالمشورة.. كتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن:الإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً ووضعته كرهاً وربته طفلاً، تسهر بسهره وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله، كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله. جاء في الأخبار والسِّير أن رجلاً آتاه الله الملك والمال والجاه، وكان محباً للمساكين والفقراء من رعيته يتحسس آلامهم وكان بهم رؤوفاً لا يحمِّلهم فوق طاقتهم، وكان عادلاً لا يُظلم عنده أحد.. كان يطربه سماع ما قصُرت عنه همتُه، ويُقلقه حديث الإطراء والمدح الذي لم يصادف يوماً هواه.. وبينما الرجل على تلك الحالة، تسلل إليه الشيطان عن طريق بطانة السوء حينها أصبح هدفًا للشيطان فانسلخ الرجل من آيات ربه فأصبح من رواد مجلسه المشاءون بالنميمة، والمنافقون وأصحاب المصالح والوجهاء، بينما انزوى عنه إخوان الصدق والمناصحة والعلماء..فجاء دور تحالف بطانة السوء مع الشيطان فزينوا له الباطل حتى لم يعد يرى حسناً غيره، فحجبوا عنه رؤية الواقع بعين الحق، وتوارت الحقيقة خلف غيوم الأباطيل، وأصبح لا يصل إليه إلا ما أرادت بطانة السوء.. فما هي إلا سنوات عجاف فأصبح لا يقوى على سماع الحق الذي كان مطلبه، ولا يحتمل النظر إلى الحقيقة التي كان يبحث عنها، فأعمل سيفه في رقاب الناصحين وأصحاب الحق وسفك الدماء وأهلك الحرث والنسل وعاث في الأرض فساداً، وبينما هو على تلك الحالة، هالته رؤيا منامية فظيعة فارتجف لها فؤاده وتقطعت أوصاله، وقد رأى فيها من الآيات ما رأى، وتبين له أنه قد ضل ضلالاً بعيداً ويوشك على عتبة الهاوية وأنه لا تزال هناك فرصة للنجاة والرجوع إلى الحق، لكنه أخلد إلى الأرض واستعصى عليه التراجع عن حافة الهاوية التي وضعته عليها بطانة السوء والتي استمر عاكفاً عليها حتى أفاق على صهيل الخيول الغادرة وصليل السيوف المتعطشة للدماء فوقع وحيداً في أسر الأعداء..