"بقلم : الشيخ أبي إبراهيم محمد بن صالح بابحر – خطيب جامع سميح بحي السّحيل – سيئون" إذا كان الفساد الإداري هو : " سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة " . فإن صوره وأشكاله كثيرة جداً ومنها : 1- سوء استعمال السلطة , ومن صور ذلك : تقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم . 2- المحسوبية , ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج . 3- الوساطة , فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلاً من أشكال تبادل المصالح . 4- الإسراف في استخدام المال العام , ومن صوره : تبديد الأموال العامة في الإنفاق الغير ضروري ولا له عائد نفع للمجتمع . 5- فرض المغارم , وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكلة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم . 6- الانحرافات الجنائية , ومن أكثرها ما يلي : الرشوة = اختلاس المال العام . أسباب الفساد الإداري : وأسباب الفساد الإداري كثيرة , وهي ترجع في جملتها إلى ثلاثة أمور : 1- أسباب بيئية اجتماعية : تعود إلى التربية والسلوك , بعدم الاهتمام بغرس القيم والأخلاق الدينية في نفوس الصغار والكبار مما يؤدي إلى سلوكيات غير حميدة بقبول الرشوة وعدم المسئولية وعدم احترام الأحكام الشرعية والقوانين المنظمة . 2- أسباب اقتصادية : تعود إلى سوء الاقتصاد والمعيشة , فيعاني أكثر الموظفين – خصوصا في الدول الفقيرة والنامية – من نقص كبير في الرواتب والامتيازات , ما يعني عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات المعيشة ومن هنا يجد الموظف لنفسه مبرراً لتقبل الهدية "الرشوة" من المواطنين ليسد بها النقص المادي الناتج عن ضعف الرواتب . 3- أسباب سياسية : تواجه بعض الدول وخصوصا في الدول النامية تعود إلى تغييرات في الحكومات والنظم الحاكمة فتنقلب من وضع إلى آخر والعكس , الأمر الذي يخلق جوا من عدم الاستقرار السياسي مما يهيئ الجو "للفساد الإداري" كما هو الحال في بلداننا العربية غير المستقرة سياسياً , وكما حدث إبّان ما سمي بالربيع العربي من اختلاس واستنزاف للأموال العامة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية . أثر بطانة السوء في فساد الحكم والإدارة : ولكن .. في نظري أن أية حكومة أو أي حاكم وصف "بالفساد الإداري" واستشرى الفساد في مفاصل حكومته وإدارته فلا بد أن يكون لذلك علاقة قوية ببطانة السوء التي تحوم حوله وتزين له فعله وتستنفع من ورائه . وهذا الذي نقوله قد دل عليه الشرع والواقع . إنّ بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوسةً وتزييناً للباطل، يقول تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ذلك أنّ بطانة السوء لا تأمر إلاّ بالشر والفساد،ولا تدخّر جهدا في الفساد وجلب الضرر. كما أنّ بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له الباطل،وتشجع الظالم على الاستمرار في ظلمه وفساده وبغيه،بل وربما زيّنت له توسيع دائرة الظلم والفساد. وإنّ أخطر أنواع البِطانات السيئة هم أولئك الذين يلبسون ثوب الخلق والفكر والدّين..ويعتبرون أنفسهم الأحرص على مقدرات الأمّة ومستقبلها، والأخطر من ذلك أن يقوموا بعزل الحاكم عن النّاس كي يبقى بعيدا عن الحقيقة؛ ذلك من أجل المحافظة على مراكزهم ومكتسباتهم وشركاتهم ووكالاتهم !. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى ). [ صحيح البخاري، 6611 و7198 ]. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما ). [ صحيح سنن النسائي للألباني، 4212 ]. جاء في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ج: 13، ص: 202 ): البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح الترمذي" ( ج: 6، ص: 237 ): " إلا وله بطانتان ": البطانة: الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به, شبهه ببطانة الثوب. وعن عُمَر بن الْخَطَّاب – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أنه قال :" شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله ، احذر بطانة السُّوء وأَهْل الرَّدَى على نفسك ". وإن أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هم بطانة السوء وإعانة بعض الرعية الظالم على ظلمه. قال في "أنيس الجليس"(42):" إن السلطان إذا كان صالحاً ؛ ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره، فلا يقدر أحد أن يدنو منه،ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح، لا يقدر أحد أن يتناوله وإن كان إلى الماء محتاجاً، وإنما الملك زينته أن يكون جنوده ووزراؤه ذوي صلاح؛ فيسددون أحوال الناس؛وينظرون في صلاحهم ". أساليب ماكرة : إنه قد يقع ممن ولاه الله عز وجل شيئاً من أمور المسلمين انحراف وزيغ وميل وجور، وحينما نبحث عن الأسباب التي أدت به إلى هذا الانحراف؛ نجد أن هناك أسباباً كثيرة لعل من أهمها بطانة السوء التي تحيط بالرجل فتضيق عليه الخناق، وتزين له ما حرم الله عز وجل، وقد ربما تغريه بالمؤمنين؛ لأن هذه البطانة منحرفة، فتريد أن ينحرف معها هذا المسئول؛ ومن هنا تختل قواعد الأمن والعدل في هذه الحياة، وحينما تختل قواعد العدل تفسد الحياة كلها. وإنما تسلطت هذه البطانة على هذا الحاكم باتخاذ أساليب ماكرة من أبرزها : 1- تملُّق البطانة ونفاقها . وهذا كثيراً ما يدفع الحاكم إلى الغرور والاستبداد برأيه ثم إلى الطُّغيان ومجاوزة الحدود حيث يجد تأييداً مطلقاً من البطانة المنافقة لمواقفه استرضاءً له. 2- طلب رضا ذوي السلطان بكل وسيلة . فبطانة السوء هي التي تتقرب إلى ذوي السُّلطة بما يغضب الله ويرضيهم، كمدحهم بما ليس فيهم، والتذلل لهم لتحقيق هدف نفعي هو في الغالب جمع المال أو إحراز الجاه أو كلاهما، أي إن الدافعين الأساسيين لهذا النوع هما: الطمع والخوف , أو الرغبة والرهبة. فتزين للحاكم ما يقوم به من أعمال وإن كانت غير صائبة. 3- المدح الكاذب وتقديم القرابين . يقول العطار: "وأكثر ما تتقرب بطانة السوء إلى الحاكم بالثناء عليه، وتزيين أعماله , وتقديم الهدايا له، لتظفر منه على موافقته على مآرب غير مشروعة، أو تجعله يغض الطرف عن مفاسدهم، واستغلال نفوذهم". فهذا التملُّق والنِّفاق كما سبق قائم ومبني على أساس حب المناصب والثروة. أهداف دنيئة : وتتنوع أهداف بطانة السوء من حجب الناس عن المسئول. فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي. فالمسئول لا يعرف غيره، ومن ثم ينقل أوامره إليه. ويكون عليه هو إبلاغ تلك الأوامر إلى بقية المرؤوسين. فيبلغها إليهم وكأنه هو من أصدر تلك الأوامر. ومنهم من يحاول استغلال قربه من المسئول في تحقيق المكاسب الخاصة من جراء علاقته به, فهو يلهث ورائه لانتزاع توقيعاته بالموافقة على أسفار واجتماعات ومقابلات يقوم بها، ليجمع من ورائها من الأموال التي ما كان يحلم أن يجمعها في حياته بعيدا عن ذلك المسئول. ولذلك فهذه النوعية من بطانة السوء لا تطيق أن ترى أحدا غيرها في مكتب المسئول. ذلك أن دخول أي فرد إلى المسئول، إذا أثبت كفاءة ما، ففي ظن تلك البطانة أنها ستُحرم من مكانها بقرب هذا المسئول، ومن ثم فستُحرم من النعيم الذي تعيش فيه. ولذلك قيل:" السٍّفلة هم من يأكلون بالطبل والمزمار, وسِفْلةُ السِّفلة هم من يأكلون بدينهم ". بطانة السوء هلاك للحكّام والمحكومين : وقد كان من أسباب تدمير ملك فرعون وزيرُه هامان . قيل : إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال : لا تفعل، بعد أن كنتَ مالكاً تصير مملوكاً، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. وقال له: أنا أردك شاباً … فخضّب لحيته بالسواد , فهو أول من خضب." تفسير القرطبي " (11 / 201). ولهذا قال أبو حازم، التابعي الكبير، عندما حاول أحد بطانة الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يصده عن نصح سليمان: " اسكت، إنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ ". وكما كان الملأ مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لازمه الفساد والإفساد،فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والامتناع عن قبوله،كما أنّهم في الإجرام سواء، يقول تعالى:{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }. إنّ الملأ يشكّلون خط الدفاع الأول للطاغوت،وهم الذين يكافحون الحق ويُلحقون الأذى بالأنبياء وأتباعهم،ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم :( اللهم عليك الملأ من قريش , اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي بن خلف ) "صحيح البخاري" رقم (3014). ذلك بأنّهم حجر عثرة أمام تقدُّم الحق !. عِبرةٌ من حكّام الزمان : ولقد كشفت الثورات الشعبية ضد زبانية " الفساد " بنوعية : المالي والإداري , مدى المرض المستشري في جميع مفاصل و أوصال الحكومات " الكرتونية " التي لا همّ لها إلا نهب ثروات الشعوب , وأكل خيرات الأمة بغير وجه حق . بل تكشّف للأمة كلها بل للعالم بأسرة , كيف أن بعض أولئك الحكّام – الذين نزعت التقوى والرحمة من قلوبهم – يرضون لشعوبهم القهر والذل والفقر والمسكنة, ويسومونهم ويلات الغربة والخدمة والعبودية عند الآخرين , ويشاركون في تجويع وإقفار وإفقار مجتمعاتهم وبلدانهم . بينما الواحد منهم يملك من الأرصدة في الداخل والخارج , ومن شتى أنواع الأموال – الأبيض والأسود -, عشرات بل مئات المليارات !!. بل ومنهم من جعل نفسه كالوصي على شعبه المقهور , ينفق على الأندية الرياضية , والسهرات الليلية , والثورات الشيطانية في الشرق والغرب عشرات بل مئات الآلاف من الدولارات !! بينما شعبه فقير وبلده مدمَّر . وانظر إلى حالهم اليوم وما وصلوا إليه, هل نفعتهم تلك الأموال ؟ أم أغنت عنهم تلك المناصب ؟! أم شفعة لهم بطانة السوء ومروجوا الفساد ؟!!. قال الله تعالى :{ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ }. و عن خولة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق , فلهم النار يوم القيامة ). رواه البخاري . وإلى حلقة أخرى من موضوع " أسباب زوال الدول والملوك" , استودعكم الله , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .