مع تقديري لأطروحات بعض من شاركوا في مؤتمر الحوار الوطني تجاه القضية الجنوبية , ولكني أخشى, أن يكون الهدف من تلك الخطابات مجرد مغازلة الحراك الشعبي الجنوبي عاطفياً, لنيل النزر اليسير من شرعية التمثيل, في ضل رفض الحراك الجنوبي للمشاركة, ربما خُيّل للمشاركين في الحوار, إن فترة الستة أشهر القابلة للتمديد , قد تذيب جليد التمنع في المشاركة, أو ربما يكون الهدف من تلك الخطابات إفراغ الشحنات الثورية للمطالبين بفك الارتباط, الأمر الذي قد يؤدي إلى تثبيط وكبح العمل الثوري في الجنوب. أخشى أن تكون تلك الخطب مجرد مسرحية هزلية هدفها دغدغة المشاعر واستنزاف المزيد من الوقت لا أكثر ولا أقل. لقد عودنا النظام الحاكم في منعطفات تاريخية كثيرة وعند كل أزمة سياسية . لجوئه لدعوات الحوار الماراثوني تارة, وتشكيل اللجان والهيئات تارة أخرى ,بهدف تخفيف حدة الضغط , وتشتيت الانتباه , ومن ثم الانقلاب على تلك الاستحقاقات الوطنية لاحقاً.
إن المتحاورون اليوم المشترك والمؤتمر قد خاضوا سابقاً حوارات خالدة, بهدف تنقيح السجل الانتخابي والتهيئة للانتخابات, إلا إنها لم تفضي إلى شيئاً يذكر. كما شكل النظام لجنة باصرة هلال بعد احتجاجات العسكريين الجنوبيين المحالين للتقاعد, لتخفيف ضغط الجنوبيين آنذاك, وظل تقريرهما حبيس الأوراق إلى يومنا هذا. كما شكل سابقا هيئة لمكافحة الفساد . لم تحاسب فاسداً واحد منذُ نشأتها , بل عجز البرلمان عن محاسبة الفاسدين فيما رفع له من قضايا الفساد.
أنا لا اعترض على إن الحوار المتكافئ هو الخيار الأسلم لحل النزاعات, بين الأفراد والجماعات والدول. ولكن نتيجة للحملة الإعلامية الشنعاء , قد يعتقد البعض إن مؤتمر الحوار الوطني, هو حوار تاريخي مفصلي, وتحت رعاية إقليمية ودولية أممية, وفي مرحلة تاريخية مهمة, وهو الكفيل بحل كافة قضايا اليمن بشكله الراهن. فأعيد واستذكر إن التاريخ اليمني شهد الكثير من المراحل المفصلية, ودارت خلالها حوارات ومفاوضات, تحت إشراف إقليمي, و و انتهت بمعاهدة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمّان, وكان توقيع صالح عليها إيذاناً ببدء الحرب. واصماً تلك المعاهدة, بوثيقة الخيانة. وما أشبه اليوم بالبارحة فحلفاء حرب 94م هم شركاء السلطة اليوم . لقد أهدتني احد المشاركات في مؤتمر الحوار الوطني نموذجاً, مصغراً, لما ينبغي أن يكون عليه الحوار, وبينت حجم المشكلة التي يصعب على الإخوة في الشمال فهمها. حينما طلبت في كلمتها , سحب السلاح الأبيض من المشاركين في الحوار, بقولها " كيف أحاور من يده على سلاحه". إن مشكلة اليمنيين ليس في عقد الحوارات بل في تحديد أولويات الحوار تباعاً. وليس القفز فوق آكام السحاب. ولتهيئة الأجواء, لحوار ِجدَّي ورصين, عليهم أولاً عقد حوار شمالي - شمالي لتجريد القوى القبلية من الترسانة العسكرية المتوسطة والثقيلة, إذ لا حاجة لسلاح يحفظ التوازن بين القبائل ويهدد أركان الدولة ويهدم توازن العدالة و المساواة بين أبناء الوطن الواحد. وهو حجر عثرة أمام الدولة الحالية والقادمة. أضف إلى ذلك تحييد قادة القوات المسلحة من الو لاءات الحزبية و المناطقية. ومن ثم إعادة هيكلة الجيش وقوات الأمن في الشمال . من دون ذلك عليهم أن لا يتفاءلوا بمخرجات الحوار, لأن القوى التقليدية القبلية العسكرية في الشمال, هي وحدها من يقرر خيارات الحرب والسلم, وللأسف مازالت تلك القوى تحصن مواقعها وترفض نزع سلاحها وتبني ترسانتها العسكرية, وهي من سيحدد شكل الدولة على الارض, بغض النظر عن المخرجات والمسميات, ولن تسمح بذلك لأنه يتعارض مع مصالحها الخاصة في الشمال و الجنوب. وكما قال هيكل ثورة القبيلة لحكم الدولة .
إن شكل الدولة كانت اتحادية فيدرالية, أو كنفدرالية اتحادية لن يكون حلاً البتة للقضية الجنوبية , لان فشل الوحدة بين الجنوب والشمال ليس نتيجة لنقص في شرف النظام الجمهوري أو نقص في نبل أهدافه وقيمه. ولكن ما أفشلها هو العقلية القبلية للنظام السياسي الحاكم في الشمال وممارسته صنوف الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الجنوب. وامتهان كرامة الإنسان والمعاملة بدرجة من الدونية وعدم المساواة. اذكي ذلك تجاهل النخب الحزبية القبلية المعارضة عن سماع تلك الصرخات المنادية بإصلاح مسار الوحدة, وضلت تلك القوى المعارضة رهينة مصالحها ومكاسبها في الجنوب , بل تعدى الأمر اعتبار تلك المناشدات دعوات انفصالية, استغلها بعض أبناء الشمال في المحاكم ومراكز الشرطة كتهمة لابتزاز خصومهم من أبناء الجنوب.
على الإخوة المشاركين في الحوار إن يعوا إن الجنوبيون لم يرفضوا الحوار من حيث المبدأ.و لكن إدراكا منهم إن أي طرف يصطفي لنفسه كامل السلطة والحق, في تحديد إجراءات الحوار, ومكان وزمان الحوار, ونصاب المشاركين فيه ,وعدد لجانه ومخرجاته' هو انتقاص للندية وتكافئ الفرص. فثورة الجنوبيين ومطالبتهم بدولتهم واستعادة كامل سيادتهم على كامل ترابهم كان نتاج كل تلك الممارسات بمسميات الحفاظ على الوحدة. ولا أعتقد أن يتم استدراج الجنوبيين بعد كل تلك الممارسات. فكرامة الإنسان مقدمة على حجم و مساحة الأوطان.