أنا بحاجة لهدوء يعيدني لطفولتي، لأنام في حضن أمي، أنا بحاجة لأن أحلم بيدي أمي وهما تحيطاني بحنانها، أنا بحاجة لها وهي تمرر أصابعها على رأسي، وتقبل جبيني، ومع تسرب النوم إلى عيني أسمع نبرات صوتها وهي تردد كلماتها الداعية للهدوء، والجالبة للراحة، والنوم. أنا بحاجة لضمة صدرها، وهي تردد كلمات عطفها، فلقد أتعبتني الحياة، وحنيت لحضنها، لصوتها، لضحكتها، لابتسامتها، حنيت حتى لمرضها، حنيت لعقابها وإن لم يكن حاضراً في حياتي. أنا عطشان لعطفها، وقلقها عليَّ، وفقير لدعائها، وبحاجة لطلتها، ولأنفاسها، أنا بحاجة لأمي، ولكنها غابت عني، وتركتنا جميعاً، تركت حياتنا، فياليتني تزودت كثيراً من حبها، وعطفها، وياليتني تلذذت بحضنها، وخزنت لي من ضحكاتها، فهاهي قد ذهبت، وهاهي تعيش في حياة غير حياتنا، وشوقنا لها كبير، ودعاؤنا لها كثير. أنا بحاجة لأمي، نظرت في وجوه إخوتي، فرأيتهم كومة حزن، رأيت اليتم على وجوههم، رغم اشتداد عودهم، رأيتهم حيارى، رأيتهم يبكون كالأطفال، سمعت قلوبهم وهي تبكي كالصغار، لفنا الحزن في جلبابه الأسود، ورأيتنا نبكي عليها، وننادي عليها نداء من داخل القلب أماه ،أماه، ولكنها ذهبت، ذهبت راحتنا، وأنسنا، ومجمعنا. حاصرتني الأحزان، وسكنت في جوفي الآلام، ولم أجد حضناً كحضنها، ولا دعاء كدعائها، ولن أجد من يتلمس همومي كأمي، فإن مرضت كانت بلسمي، بتفقدها، وسؤالها عني، ولم أجد دنيا كدنيا أمي، رأيت في وجوه إخوتي بقية من أمي، وفي وجودهم شيئاً من أمي، فاستوصوا بأمهاتكم، وإخوانكم خيراً. ماتت التي كانت تجمعنا، ماتت الأحق بالصحبة، سمعت هذا الهاتف وكأنه يهتف في أذني، بالرغم أنني قرأته مراراً، وتكراراً، ولكنني لم أستوعبه إلا بعد فراقها، وذهابها، فلم أعلم أنني كنت مكرماً بوجودها، ومعززاً بحضورها، وصحبتها، لم أعلم ذلك إلا بعد ذهابها، ذهبت أحق الناس بحسن صحابتي، ذهبت التي كنتُ أتنعم بنعيم الجنة تحت قدميها، فياليتني استوعبت ذلك أثناء وجودها معنا، لقضيت عمري كله في صحبتها، وتحت قدميها، ولكن لم أفهم، فياليت من مازالت أمه معه يفهم، يا ليتكم تمضون أوقاتكم مع أمهاتكم، ياليتكم تعيشون تحت ظلها، وتتزودون من كلامها، وضحكاتها، وابتساماتها، فصدقوني، ستشتاقون كثيراً لكلامها، وضحكتها، ستشتاقون لمكانها الذي كانت تجلس فيه، ستشتاقون لتوجيهاتها، ستشتاقون لكل تفاصيل حياتها، فلا تبخلوا على أنفسكم. قد نبتسم في غيابها، وقد نضحك، ولكن حزننا عليها، وألمنا على فراقها لن يعوضه شيء، فلو خيرنا بكنوز الدنيا كلها مقابل كلمة نسمعها منها، لاخترنا الكلمة، قد ترون أننا نعيش حياتنا بعدها منتظمة كما كانت، ولكن في القلب اختلال بعد رحيلها، وفي الداخل جرح عميق لن يندمل على فراق الغالية علينا، فيا رب اغفر لها، وارحمها، واجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا أمي لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.