بالأمس .. جاء رمضان وأنا بلا أم (!!) ، بالأمس .. أثمرت السعادة في وجوه الصائمين وصيحات الفرح دوت بقدوم الأذان ، و غياب النهار ، و اجتمعت العائلات على موائد الرحمان .. وأنا وحيدٌ أقاسي لوعة الفراق المميت ، وأذوب في منتهى الشفق. أجلس بمكان "أمي" على نافذة منزلنا عندما كانت ترقب السائرين .. و تتفكر في الخلق والخالق .. تشدهها طبائع الهائمين على وجه البسيطة ، وعجلة السائرين قبل آذان الفطور .. في يدها مسبحة "مكة" ، تتمتم بالإستغفار ، والدعاء ، و تخصني بالعين العطوف .. تُقبل قدميّ ابني الصغير حينما يغمض عينيه لئلا يراه رمضان .. ونهم الأكل يفتك بمائدته التي لا تقوى على الصيام (!!).
جاء رمضان بلا صوت "أمي" (!!) ، بلا نكهة أو رائحة ، ظهر "باب الحارة" ، ومسلسلات الدين و التاريخ و عين"أمي" في قبرها الساكن .. و أنا بلا عطف أو حنان يرحماني من قسوة الحياة ، وجفاء أهلها اللاهثين وراء مال الدنيا الباهتة.
كهذي الأيام .. كانت قبل عام مجلجلة بصوت "أمي" ، تحثُ على التعجيل بالفطور .. و تهنأ لمائدتنا اليومية العامرة بضيوف الجيران ، والأصدقاء ، وعابري السبيل.
الآن .. أدخل لمجلس "أمي" ولا أراها (!!).. أو أسمع صوت تلاوتها الجهور لآيات القرآن الشريفة ، الآن .. لا أرى أحداً سوى حزني و ذكريات تمزق القلب ، و أمكنة تخلو من روحها الطاهر .. و صورتها الباسمة الكبيرة تُزين واجهة الغرف الكثيرة .. فلا يبقى من حنانها سوى طيفها الذي لا يعود واقعاً ملموس.
في الغد .. لابد للتفاؤل أن يعيش .. ولا بديل للموت إلا الحياة .. لكنها "أمي" تعاسة الأصدقاء والأطباء حملاها إلى قبرها الخالد .. قتلها طب الخيانة والجهالة فأرداها شهيدة .. كانت تُمنى عمرها الواسع بالأحلام ، وتحضن استقرار العائلة الكبيرة بمحبة البقاء ، والعيش تحت سقف واحد يلثمه الصباح الندي في كل اشراقة .. جاء اليوم الذي يبزغ فيه هلال رمضان و لا تكن "أمي" بجوار هاتف المنزل تبشرنا بقدومه .. و تحثنا على قيامه و صومه .. و العمل المضني في مركزنا التجاري المزدحم.
جاء رمضان .. و فرحة "أمي" بقدوم ملابس العيد غائبة (!!) جاء هذا الشهر الفضيل ولا أحد يمكنه أن يعوضني حناناً جارفاً كقلب والدتي الشهيدة الذي صدمنا و أرهقنا و عذبنا سكوته ، و غيابها.
في أعوام "أمي" الخالدة .. وقفت سنين الحرمان تكسيها أملاً ، و تبذل زينتها لأولادها الصغار تحفز أجسادهم الناحلة على العمل و الكد و النجاح حتى تغدو أسماءاً لا يقهرها عوز الدنيا .. و تقلب الزمان.
"أمي" .. لأول "رمضان" لا تحضرنا .. تغيب إلى الأبد ، و قد لقيت حتفها على يد الجراح الصديق الفاسد المخمور .. عذّب جسدها الطاهر بمبضعه الخبيث ، و تركها ضحية أسرّة العناية المركزة ثم أحتفل بنخب وفاتها على وقع الجهل المدمر .. والشهادة المزيفة ، والخبرة الفاسدة المميتة.
كم أرنو .. و كم يحفزني شيطان الثأر على القصاص منه ، لأسمع أناته وجراحه الدامية .. أتوق لتعذيبه وتركه بلا دواء حتى يقضي نحبه منبوذاً لا يستحق الرحمة .. لكن هذه الدوافع اللئيمة لن تعيد "أمي" ، و لن تمكنني من استعادة حياة الأم الرائعة .. لأن جراح الأطباء تقتل أعز ما نملك وتتركنا نهباً لسؤال الفلاسفة : أكان قدراً .. أم خرم أجل؟!
حتى وإن نبشت كتب الدين ، وقصدت علماء الفتوى ، فلن أجد إجابة تُسكت عذابي .. وتُهجع زفرات الفراق الحار .. لأن قسوة الوداع لا تغفر إهمال الأطباء الغادر ، ففي كل زاوية من أمكنة الله.. تنهض ذاكرة "أمي" .. كانت هنا .. جلست هناك .. (!!) ، ضحكت و اغتسلت بنور الدعاء والبهاء.. غادرت بلا عودة إلى حتفها المرسوم .. و تركتني أودع باكياً منتحباً .. ومعانقاً جسدها المُسجى أمامي بلا حراك.
أمي "يا ست الحبايب" الآن أنصت بجوارحي لأناشيد الوداع ، و تأخذني عبرة الدمع الذي لا ينتهي .. حين يُخيل إلي لبرهة أنكِ في استقبال عودتي عند الفجر محملاً بأكياس المال التي كسبتها وإخوتي من زحام التجارة .. و عناء البيع الحلال .. نُودعها في صرتك .. و نذهب لاقتسام النوم مع أبنائنا .. و عند الظهيرة يأتي صوتكِ الجاد لإعلان يوم جديد من العمل الذي ينتهي بعد ثلاثين يوماً من الربح الخالص .. والتجارة الرابحة .. فتمنحنا خزائنك المقفلة هدايا العيد .. و مصروف الليالي القادمة الباذخة.
أتذكرين يوم ولادة ابني البريء الضحوك "قصي" في منتصف "رمضان" قبل ثلاثة أعوام ، و أنت تصفين قدومه السعيد بإبن البركة و الخير .. و ترددين و هو حائر بين ذراعيك (حيا الله يا ضيف الله) .. ثم تُكبرين في أُذنيه ، و تضعينه في سريره الجديد .. و تأملين لحياته القادمة كل السعادة و العمر الطويل والأبناء الصالحين.
ها هو يأتي متعثراً في خطواته صباح كل "جمعة" لزيارة قبرك .. يسكب عليه الماء .. ويُصر تقبيل الضريح الأبيض.. يقول لي متسائلاً : ماما في السماء .. عند الله؟!.
بلى .. يا بُني إنها كذلك .. روحها في يد الله تعالى الذي منحها حق الحياة .. وأخذها بعد حين برحمته و غفرانه .. هي الآن ترفل بنعيم الرياض الفاتنة .. و تنتظر قدومنا واحداً تلو آخر .. حتى تلتئم العائلة من جديد في جنان الله سبحانه وتعالى.. و بمغفرته التي نؤمن بها من خطايانا و سقطاتنا .. سنرى وجه "أمي" ضاحكاً من جديد.. ننام في حضنها الدافئ .. و لن يفرقنا شيء .. أو يحرمنا أحدُ ُ من بهاء الوجه الملائكي الطاهر.
يا "أم" أقبل رمضان الجديد .. بلا " أنتِ " ..( !!) جاء شهر الرحمة .. و جلمود صخر يقبع فوق ثراك الدفين .. بعيدة عن منزل العائلة .. قريبة من وجداننا الذي لا ينسى فضلكِ وعفتكِ ونقائكِ .. حيث لا شيء يؤنس وحدتكِ سوى دعائنا المتواصل ، و قراءة " يس" على روحك المغدور .. سيمضي رمضان و يأتي بعد عام .. و سيظل عبقكِ الجميل محلقاً في سمائي ما حييت.