ذات مرة سئل أحد العارفين فقيل له : لو أن لك دعوة واحدةمستجابة في الحال ماذا تتمنى ؟ فأجاب :(صلاح البال ). هكذا وبدون تلكأ ولا مواربة ...الإجابة .(صلاح البال ). ربما يسمع الكثير منا هذه العبارة القليلة المبنى الغزيرة المعنى . فما المقصود منها ؟ البال هو موضع الفكر.. والفكر موضعه القلب والعقل . فعندما تقول : أصلح الله بالك أي أصلح الله خاطرك ,وتفكيرك ,وقلبك ,وعقلك , وحالك. لذلك ما من نعمة على وجه الارض تفوق نعمة صلاح البال . فهل هناك أفضل وأعظم وأجل من أن تعيش مطمئن النفس ,سليم القلب ,قرير العين ,هادئ الاعصاب ,مرتاح الضمير رائق الفكر تملأ حياتك السكينة , وترفرف على جوانبها السعادة ,ويحفها الهناء, وتكسوها البسمة الحانية, ويعلوها الرضا التام ...واثقا كل الثقة من أنك تستند إلى ربك وتتعامل مع خالقك وتأوي إلى مولاك. كلا وألف كلا فتلك لعمري نعمة لا تدانيها نعم الدنيا كلها . ما قيمة المال والجاه والمنصب والبهو .. إذا كنت مشتت البال خائر القوى مضطرب القلب كئيب النفس ممزق الشعور تتنازعك هموم الدنيا وتتجاذبك مشاغل الحياة وتتقاذفك أمواج المآسي وتتلاطم بك رياح الحزن وتتجاذبك عواصف اليأس . فأين هذا من ذلك ؟ فمن هنا ندرك قيمة هذه النعمة التي من حرمها حرم لذة الحياة ونعيمها وسعادتها . يقول أحد العارفين : "إننا لفي نعمة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف " ويقصد بها نعمة راحة البال . فالله سبحانه وتعالى يعطي الصحة والمال والجمال والجاه للكثيرين ولكن راحة البال لا يحظى بها إلا من اصطفاه الله سبحانه . قال تعالى : (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ). وقال : (سيهديهم ويصلح بالهم ). سيهديهم إلى الطريق المستقيم والمنهج القويم والخير العميم . سيرشدهم إلى حسن العلاقة مع خالقهم وصلاح قلوبهم وزكاء نفوسهم وطهارة أفئدتهم. ولهم فوق ذلك وبعد ذلك أن يرزقهم بصلاح البال . أي الرضا التام والقناعة الكلية والتسليم المطلق بما قسم الله لهم من متاع الدنيا . تلك لعمري غاية عظيمة لو عرفنا قيمتها حق المعرفة لطارت إليها أرواحنا شوقا ولتلهفت اليها نفوسنا فرحا ولرقصت إليها قلوبنا طربا . لذلك فإن أكبر عقوبة يعاقب بها الكثير من الناس في الدنيا أن يحرموا من راحة البال . يروي أحد العلماء أن رجلا جاءه فقال له عملت حادثا بسيارتي فدهست غلاماً صغيراٌ ففارق الحياة ولكني تمكنت من الهرب دون أن يعرفني أحد فجاء أهل الغلام فأخذوا ولدهم وواروه الثرى ...ولكني منذ تلك اللحظة وإلى الآن لي أكثر من عام لم أجد طعم الراحة ولا لذة النوم ولم يهنأ لي عيش ولم يقر لي قرار ولم يهدأ لي بال مشتت الفكر خائر القوى وكأنني أحمل على ظهري جبال الدنيا . فقال له العالم ليس أمامك من حل إلا أن تذهب إلى آل الغلام وتعترف لهم بما حصل وإلا ستظل على هذا الحال حتى النهاية . رغم بساطة هذه القصة إلا أنها تعبر بوضوح عن حال كل من يرتكب الأخطاء في حق الله أو في حق أحد من خلقه فلم يعترف بخطأه ولم يتراجع عن فعله ولم يطلب المغفرة والسماح ممن أساء إليهم . فهل تظن أن الذي ينهب أموال الناس أو يعتدي على حقوقهم ,أو يسفك دماءهم , أو ينتهك حرماتهم ..سينعم بالراحة وسيهنأ له عيش ؟ بالطبع لا . لا ...بكل ما تحمله كلمة لا من معنى . فالمراقب العام لأحوال الناس سبحانه لن يتركه ينعم في حياته أبدا وأكبر عقوبة يعاقب بها أن يحرم من راحة البال سيقضي حياته كلها في تأنيب الضمير وحرمان لذة النوم وإضطراب الأعصاب وسيسلط الله عليه القلق والحيرة والحزن والكآبة وتشتيت النفس...وكفى بذلك عقوبة . فالمخطئ مهما تظاهر أمام الناس بالمظاهر البراقة يظل وخز الضمير بالنسبة له كالخنجر المسموم في خاصرته لن يدعه يهدأ ولايهنأ ولا يقر ولا يستقر ولا يرتاح إلا أن يتخلص من ذلك العبء الملقى على عاتقه . وتلك عقوبة مابعدها عقوبة . ربما كانت عقوبة القتل ارحم ألف مرة من عقوبة تأنيب الضمير . إذ إن القتل قد يكون تطهيراٌ له من الذنب ولكن وخز الضمير تأنيب الضمير يعكر صفو الحياة وعقوبة الذنب تظل قائمة . إن جمال الحياة ولذة العيش وسعادة الدنيا تكمن في رحاب الإيمان وفي راحة البال وفي صفا النفس وفي طهارة القلب وفي القناعة التامة بما قسم الله للإنسان وفي التسليم الصادق لأقدار الله والرضا المطلق لنكبات الدهر ..وفي مدى خلوص الإنسان من إيذاء الآخرين وبعده عن التعرض لهم أو التعدي على حقوقهم وانتهاك حرماتهم .