============ يعيش اليمني حياته كلها في خضم سلسلة مزدحمة وحلقات مترابطة من المآسي والويلات . ينام على مجاعة ويصحو على أوبئة . يغفو على مجزرة وينهض على مذبحة . يتخللها خوف دائم من أمورٍ شتى : مظالم الحاكم وغلاء الأسعار وبينهما مستقبل مُدلهم ، وكأنَّ حياته كرة نار في كفّ عفريت . اذا قام أيُّ يمني - أو مقيم في اليمن - بجردة حساب سريعة لمشوار حياته في هذا البلد ، خلال نصف قرن أو تحديداً منذ ستينيات القرن المنصرم ، سيرى هذا المشوار كشريط سينمائي خليط من أفلامٍ شتى : أفلام رعب وحرب وبلاك تراجيدي وبلاك كوميدي وخيال خرافي وأفلام لا معقول . أما الرومانسية واللايت كوميدي ففواصل بين الأفلام ! أذكرُ في سبعينيات القرن الماضي ثمة جملة مشهورة لأحد المعلقين السياسيين في اذاعة لندن ، وكان أغلب اليمنيين يُلصقون آذانهم وألبابهم بالمذياع كلما قرعت ساعة بيج بن معلنةً موعد نشرة الأخبار . كانت تلك الجملة ساخرة على وجهيها الضاحك والباكي . قال يومها أن اليمن هو البلد الوحيد الذي يملك ماضياً لا يمكن التنبوء به . لاحظ : ماضياً - وليس مستقبلاً - لا يمكن التنبوء به ! فهذا البلد يجترُّ مآسيه منذ عصورٍ سحيقة ، ويُعيد انتاجها في لبوسٍ جديد وعبوسٍ متجدد . ولو ينام اليمنيون منامة أهل الكهف ، ويصحون فجأةً ، لما انتبهوا للعدد الكبير من السنين التي ناموا خلالها ، اذْ يجدون حينها الظلم والظلام والمظالم تُحيط بهم من كل حدبٍ وصوب ، وكأنَّهم لم يغفلوا غير هُنيهات . ألم ينتبه أحد الى النكتة القديمة الحالكة التي تزعم بأن اليمنيين - بعد عشرات السنين - سيحكمون العالم . نعم ، ستكون البشرية كلها قد صعدت الى القمر والمريخ وكواكب وأجرام أخرى ، ولن يبقى غيرنا هنا ! اذن ، هل نُجهد العقل والذاكرة في رصد مشوار نصف قرن ؟ استعرضوا معي سريعاً جردة حساب متسارعة : كم حرباً ؟ كم مجزرة ؟ كم مجاعة ؟ كم خيانة ( ... انْ لم يغدروا خانوا ) ؟ كم هجرة ؟ كم نزوحاً ولجوءاً ؟ كم انقلاباً ؟ كم ثورة وثورة مضادة ؟ كم احتلالاً ؟ ثم كم حُكّاماً وأشباه حُكّام وحكومات ومحاكمات للحُكّام والحكومات ؟ ان جردة الحساب تكون دائماً - وتحت طائلة كل القواعد والمفاهيم - مقسومة بالضرورة بين خطأ وصواب ، صالح وطالح ، خير وشر ، حق وباطل ، ايجاب وسلب ، ثواب وعقاب .. الاَّ في حياة اليمنيين ، اذْ تغدو جردة حسابهم في كل الأحوال جردة عقاب فحسب ، ليس الاَّ . فحياتنا يا سادة ليست سوى اضبارة مظالم ومذكرة مأساة ووثائقي حروب ! لقد بلغ القنوط بالمواطن اليمني اليوم حدَّاً قصيَّاً جراء انسداد أفق الأمل قُبالته .. الأمل بايقاف ماكنة الحرب الكارثية ، الأمل بتسوية سياسية للمأساة القائمة ، والأمل بالخروج من هذا النفق المظلم الى رحاب مستقبل مأمون ولو في حدوده الدنيا . ومن فداحة المشهد - أقولها لكم صريحةً - لم يعد ثمة ما يمكن اعتباره فارقاً حقاً بين ما تعنيه لهم مُسمّيات مثل : الشرعية والحوثية ، ولا ايران والسعودية ، ولا الشوربة والمهلبية ! لقد سقط كل قاموس وناموس وناسوت ولاهوت في حياة اليمنيين !