عرفتُ مناضلين حقيقيين وأقمار تنوير ورموز تثوير من طراز وحجم يوسف الشحاري وعمر الجاوي عن كثب ، فأدركتُ لماذا عاشوا وماتوا صُفْر الجيوب وخُضْر القلوب وبِيْض الدروب . تعلَّمتُ من يوسف وعمر دروساً كثيرة ، كبيرة وخطيرة . وتعلَّمتُ من آخرين من أضرابهما دروساً مماثلة ، وانْ أختلفتْ العناوين والأسماء والتفاصيل والأحداث . وأمثال يوسف وعمر ليسوا بنادرين في هذا البلد ، وانْ كانوا قِلَّة . فما الذي تعلَّمته من هذين وأولئك ؟ أولاً ، أن المناضل الحقيقي شريف بالضرورة ونظيف بالمطلق . لا يلتقي طريق النضال مع طريق التلوث بأيّ شكل أو لون أو رائحة . ثانياً ، أن قمر التنوير لا يعرف الخسوف ، بل يظل يُنير الدروب والقلوب والأدمغة تحت كل الظروف . التنوير ليس وظيفة بدوام رسمي . ثالثاً ، أن رمز التثوير يبدأ الخطوة الأولى من ذاته قبل أن يدعو الآخرين الى سبيل الثورة . يجب أن يكون ثورياً في الأساس قبل أن يصير تثويرياً . رابعاً ، لا يتورَّط المناضل القُحّ في سُلطة ، فأنه يكتسب بالضرورة قدراً من سُخامها ، فللسلطة ( أيّة سلطة عدا سلطة النبوَّة ) سُخام بالضرورة . خامساً ، اذا هادنَ المناضل أو داهنَ في صغيرة هيِّنة ، فعلها في كبيرة بيِّنة . المبادىء لا تقبل القسمة على أيّ رقم من أيّ حجم ولا تعرف الهندسة الفراغية . كان هؤلاء ذوي شخصيات غير متناقضة مع نفسها وهويّات غير مزيفة . هم في بيوتهم كما هم في بيئتهم ، وهم في أهلهم كما هم في قومهم ، وهم في المعتقل كما هم في المقهى . منذ أن عرفهم الناس الى أن عرفهم القبر ، لم يتغيَّر لهم مبدأ ولا ضمير ولم تتبدَّل لهم صفة ولا منقبة . قد تتبدل أفكارك بتبدُّل الأحداث ، أو تتعدل مفاهيمك بتعدُّل الأزمنة ، أو تتغيَّر زاوية رؤيتك نحو هذا الموضوع أو تلك القضية .. لكنك تظل أنت ، في صميم المبدأ وحميم المنهج . فلا كان يوسف - مثلاً - شيزوفرينياً ، ولا كان عمر ديماجوجياً ، ولا كان أمثالهما ذوي نزعات تضليلية أو براجماتية بالمرة . ليس من الضروري أن يكون المناضل فقيراً مُعدَماً ، رثّ الهندام وأشعث الشعر ، انما حين يلبس الشبشب ( مثل يوسف ) يضعه مداساً لا رأساً ، وكِناساً لا كنيساً . حين يعلو المداس على الرأس ، تسقط الرأس تحت جميع الأقدام .. وهذا ما يعرفه جيداً كل مناضل أصيل . كان للأخ صالح مواقف عدة مع يوسف وعمر . كان بعضها يطمع في امتلاك ، وبعضها يهدف الى انتقام . غير أن الموقف المُضاد من كلٍّ منهما مع الرئيس كان يُفضي دائماً الى اصطدامه بجبلٍ من ثلج حيناً ومن بازلت غالباً . وليس مع صالح فقط . ثمة مواقف مشابهة - أعرفها - مع آخرين عديدين ، في أزمنة وأمكنة وظروف مختلفة . والمناضل الحقيقي ( وهذا رأي شخصي محض ) هو الذي يُنجب ويُربِّي ويُنشىء ويعلِّم عناقيد ضوء تعكس وهجه طوال العمر . انظر الى بنات يوسف وأنجاله ، أو الى فتى عمر ، واعرف أن النار لا ينبغي أن تُخلِّف الرماد ، كما يزعم المثل ، انما تترك الجمر . وعلى العكس من ذلك - ومما يُؤسف له جداً - ينجح بعض المناضلين في تربية وتعليم شعوبهم ويفشلون في تنشئة أولادهم وبناتهم !