وسط أنواء الربيع العربي وتقلّباته التي تشغل الصحافة العالمية يوميا، مرّ تقرير بهدوء عن برنامج الابتعاث السعودي نشرته صحيفة الفايننشال تايمز قبل ايام يعكس حالة مختلفة من المنطقة لكنّها ربيع في حد ذاته إذا اخذنا المقصود بهذا المصطلح وهو التغيير، الذي قد يكون عاصفا كما حدث في دول عربية عدة هذا العام، او هادئا كما يبدو في المجتمع السعودي. تقرير الفايننشال تايمز يتضمن تصريحات لوزير المالية السعودي ابراهيم العساف يشير فيه الى ان السعودية انفقت هذا العام نحو 6 مليارات دولار على برامج الابتعاث الخارجي على 250 الف طالب وطالبة ومرافقيهم وذلك ضمن برامج ضخمة للتنمية في المملكة. عدد الطالبة المبتعثين ارتفع من بضعة الاف قبل بضعة سنوات الى نحو 120 الف مبتعث هذا العام يرافقهم نفس العدد من المرافقين له تقريبا، بمتوسط إنفاق حوالي 25 ألف دولار على المبتعث سنويا.
ولأن الصحافة العالمية مهتمة بتأثيرات الثورات العربية على منطقة الخليج فقد حرص العساف على توضيح فارق جوهري وهو أن جزءا كبيرا من اسباب الثورات التي حدثت كانت بسبب المظالم الاقتصادية في حين ان الوضع مختلف في المجتمع السعودي فهناك توزيع للثروة عندما نتحدث عن الإسكان، والصحة والتعليم المجانيين، وزيادة رفاهية المجتمع والابتعاث الخارجي لتصحيح اخطاء سابقة في التركيز على المهارات الضرورية. ملتقى المبتعثين للمرحلة السابعة من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي الذي احتضنته الرياض بحضور المبتعثين والمبتعثات وأولياء أمورهم وقد يكون الانفاق على الابتعاث الخارجي في السعودية (6 مليارات دولار) نسبة ليست كبيرة مقارنة ببرنامج التنمية الضخم في مشروعات بحوالي 130 مليار دولار اعلن عنها في بداية العام، لكنها في اهميتها تمثل اهم استثمار للمستقبل باعتباره استثمارا في العقول. فحينما نتحدث عن 120 الف مبتعث يدرسون حاليا في جامعات ومعاهد مرموقة في العالم، ينهلون من معارفها، ويحتكّون بالعالم الخارجي، فإننا نتحدث عن مهارات وقوة تحديث مستقبلية كبيرة للمجتمع عندما يعودون الى بلدهم، فالهدف من برنامج الابتعاث هو اعطاء دفعة قوية للاقتصاد والمجتمع من خلال اعطائه المهارات العالية في مجالات مثل المحاماة والطب وتكنولوجيا المعلومات.. إلى آخره، لكن العلم ليس شيئا جامدا فهو يصاحبه منهج تفكير وانفتاح على الافكار وقدرة على التحليل.. إلى آخره.
ولابد من الاشارة هنا الى تقرير كان صدر في النصف الثاني من التسعينات عن البنك الدولي يقارن بين منطقتي الشرق الاوسط وجنوب شرق آسيا أو النمور الآسيوية الصاعدة وقتها، فالمنطقتان كانتا تقريبا في نفس المستوى الاقتصادي من حيث متوسط دخل الفرد ودرجة التقدم في الستينات. لكن في التسعينات كان الفارق كبيرا بين الاثنين.. فهذه الدول (النمور الآسيوية خرجت من تصنيف الدول النامية واصبحت تصدّر وتتاجر بأرقام تفوق منطقة الشرق الاوسط بعشرات المرات، وتسهم ايضا في التكنولوجيا العالمية، والانظمة السياسية في الستينات كانت متشابهة بين المنطقتين فما الذي حدث؟ الخلاصة التي خرج إليها التقرير المقارن هو ان هذه النمور الآسيوية استثمرت بكثافة في التعليم، وثانيا لم تمس حقوق الملكية الخاصة.
هناك الكثير الذي يمكن ان يقال عن مسيرة التعليم في العالم العربي خلال العقود الماضية، وسلبياته واضحة امامنا من خلال التخبط الذي نعيشه والتراجع الفكري مقارنة بمناطق اخرى في العالم و مقارنة بأجيال النهضة في الاربعينات التي سافرت في بعثات وعادت لتفيد مجتمعاتها وتخلق نخبا تدفع الى الامام، والتجربة السعودية في الابتعاث بهذه الكثافة تبشّر بنهضة قد تكون أكبر. *من علي ابراهيم