في مارس (آذار) الماضي، كان العنوان الطريف لخبر عن الأحداث الليبيّة على صفحات التليغراف البريطانية: “في ليبيا: القاعدة والغرب على جبهة واحدة”. بالقدر الذي يحمله هذا العنوان من الغرابة، إلا أنه كان يصف ما هو أبعد من الواقع، من تحالفات غريبة ومثيرة! في مايو (أيار) الماضي أرسل أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، بعض العناصر المقرّبة منه إلى ليبيا، لاستغلال فرَاغ السُّلطة وحالة عدم الاستقرار، ليقوموا بتجنيد وتأهيل قوة ليبيّة إسلاميّة مقاتلة.جاء ذلك في تقرير مُثير نَشرته شبكة سي إن إن، ادّعى فيه مسؤولون أميركيون أنّ محاولات تنظيم القاعدة بعد سُقوط نظام القذافي جَنّدت مئتي شخص فقط. تَقرن التّقارير هذه المعلومات بالتخوّف من استيلاء تنظِيم القاعدة على التّرسانة الدّفاعية اليبيّة، وقَد طلَب مجلس الأمن من السُّلطات اللّيبيّة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بَذل ما في وسعها لتتبع أثر الصواريخ المفقودة، وأعلنت وزارة الدّفاع اللّيبيّة في ديسمبر (كانون الأول) المنصرم التّخلّص من بعضها خوفًا من القاعدة. مطامع القاعدة الاستراتيجية في ليبيا قديمة، فالظواهري ينظر لليبيا على أنها منطقة ثريّة وقليلة السُّكان بين الجزائر ومصر، وفي واجهة أوروبا. وله علاقات جيّدة مع معظم المتشددين فيها – وبعضهم اليوم في مناصب حساسة – ففي بداية عام 2000 حاول الظواهري دفع الجماعة الإسلامية المقاتلة لتطوير التحالف مع القاعدة ليكون (اندماجا) كاملا في إطار دعواها بالجهاد العالمي وحرب الغرب، ولكن الجماعة كانت ترى أن الأولوية هي إقامة “إمارة إسلامية” في ليبيا فقط، مما دفع الظواهري لإقامة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي. يعتقد البعض أن فشل الظواهري في الاتفاق التام في عام 2000 مع الجماعة الإسلامية المُقاتلة، هو السبب في تكوين القاعدة في المغرب الإسلامي لتقوم بدور “معسكر” مؤقت إلى حين تأمين إحدى الدول، فتراجعت إلى نطاق صحراء الساحل والنيجر ومالي وموريتانيا، وتكوّنت من بقايا الجهاديين الجزائريين والطوارق، ونجحت في تجنيد عشرات المقاتلين الليبيين، وحققت اندماجا جيدا مع السكان المحليين في مالي والساحل والنيجر، عبر المصاهرة والمعايشة، واستطاعت تأمين قُدرة ماليّة جيّدة، كسبتها من حماية المُسافرين عبر الصحراء وتجارة الأسلحة والتّهريب وخطف السيّاح الأوروبيين. بعد بداية الحراك الشّعبي في تونس في ديسمبر (كانون الأول) من 2010، تسلل أفراد من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى داخل ليبيا، ونفّذوا عمليّة في مدينة (غات) في الجنوب من الصحراء الليبيّة، ومارسوا دعاية منظّمة ضد نظام القذافي، ووصفته بأنّه (فِرعون) وكان ذلك على لسان أبومصعب عبدالودود (عبدالمالك درودكا) والظواهري وأبو يحيى اللّيبي. بَنت القاعدة مبررات وجودها على رفض سلطة القذافي “اللا إسلاميّة”، ورَفض “الاحتلال الغربي”، فكانت تطرح نفسها على أنها الطريق الثالث بين حكومة القذافي المُستبدة (الكافرة) ومجلس بنغازي المدعوم بالقوات (الصليبية) في نَظرها، وتُحاول أن تَستفيد من علاقتها القديمة مع المتشددين في ليبيا. في الأعوام 2007 – إلى2011 أطلقت السلطات الليبيّة مئات المُقاتلين من الجماعة الإسلاميّة المُقاتلة، بعد مُراجعات تخلّت فيها قيادات الجماعة عن العُنف. في وقت لاحق مثّل بعضهم الدعامة الأساسيّة للمقاتلين في جيش المتمردين على نظام القذافي، وهو الأمر الذي دلّل به سيف الإسلام القذافي على براغماتيّة الجماعات، حينما ذكّر معتقليه بأنه أحسن إليهم (ذكر منهم عبد الحكيم بلحاج) فكانوا أوّل من انقلب عليه في أول سانحة. الجماعة الإسلاميّة المقاتلة لا تمثّل المحضن الوحيد للمتشددين، فتيارات في مدينة درنة الليبية محسوبة على السلفيّة الجهاديّة لها نشاط أيضًا، وتُشير السِّجلات إلى أنّ الليبيين المقبوض عليهم، وهم في طريقهم للحرب في العراق في العام 2003 ينتمون، غالباً، إليها. لا تستبعد مراكز الدراسات أن يتبنَّى بعض أفراد الجماعة الإسلامية المقاتلة الفكر الجهادي العالمي، ويفضوا تحالفهم المؤقت مع الحكومة والمجلس الوطني الانتقالي والمجتمع الدولي، حال نضوج مشروع القاعدة “السياسي” ليعاد طرحه في إطار تحالف جديد. أستبعد أن تقوم القاعدة بأي عمليّات “عُنف” في ليبيا، فليبيا في الاستراتيجيّة القاعدية لا تُمثِل ميدان عمل، بقدرما تمثل، مقرا لانطلاق العمليّات والتخطيط والتمويل، “حديقة خلفية، للتحرك في الجزائر ومصر”. إنّ الخلاف بين الحكومة الانتقاليّة المنبثقة عن مجلس بنغازي والمليشيّات المُسَلّحة التي ترفض تسليم سلاحها، وتحمل فكرًا مُتطرِّفًا شبيها بالقاعدة، وتحديات القاعدة طويلة الأمد ستختبر تعاون السلطات الجديدة مع المجتمع الدولي، وتبين صدقيّة ما قالته التلغراف في مارس الماضي “الغرب والقاعدة في جهة واحدة”.