هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    عناصر الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا وتختطف موظفا في العاصمة الموقتة عدن    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الثالثة لرحيله: أركون والفكر العقلاني في الإسلام السياسي
نشر في عدن الغد يوم 12 - 10 - 2013

يرى محمد أركون أن الفلسفة الإغريقية كانت موجودة في المنطقة قبل ظهور الإسلام ولكن ليس في اللغة العربية. وبالتالي فعلى عكس ما نظن فإن الناس لم ينتظروا ظهور المأمون لكي يتعرفوا عليها. لا ريب في انه لعب دورا حاسما في إدخال
تيارات الفكر الإغريقي كانت قد اخترقت منطقة الشرق الأوسط منذ حملات الإسكندر المقدوني وفتوحاته في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد كانت هناك مراكز حضرية كبرى تنشر هذا الفكر في المنطقة إما باللغة الإغريقية مباشرة وإما باللغة السريانية بعد ترجمتها عن الإغريقية. وكان يشرف عليها المسيحيون قبل ظهور الإسلام. يكفي أن نذكر هنا أسماء مدن من نوع:
الرها، نصيبين، جنديسابور، إنطاكية، حران، إلخ.. كلها كانت عواصم ثقافية مزدهرة تنشر التعاليم المسيحية في كل الأوساط بما فيها الطبقات الشعبية. وقد ساهم ذلك في نشر الحد الأدنى من المنظومة الأخلاقية والجمالية والمنطقية المشتركة التي تجبل العقليات وتؤطر السلوكيات والتصرفات وأنماط التصور والإدراك أملا بالتوصل إلى «الحكمة الخالدة» كما كانوا يقولون آنذاك. وأكبر مثال على مدى تأثر المفكرين الأخلاقيين المسلمين بهذا الإرث المشترك الذي كان سائدا في المنطقة منذ قرون هو أخذهم بمقولة الحد الوسط أو الوسطية في كل الأمور والتي كان أرسطو قد بلورها سابقا. فنحن نجد هذه المقولة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكتاب تهذيب الأخلاق لمسكويه إلخ.
أرسطو والفضيلة
من المعلوم أن أرسطو كان يقول بما معناه: الفضيلة هي حد وسط بين قطبين متطرفين. فمثلا الشجاعة هي حد وسط بين التهور والجبن، والكرم حد وسط بين الإسراف والبخل إلخ.. ومعلوم أن الإسلام يقول بشيء مشابه لأنه دين الوسطية والاعتدال لا دين التطرف والعدوان كما يحاول أن يوهمنا التيار الظلامي الجاهل السائد حاليا، وهذا هو أحد الأسباب الأساسية لفشل الإخوان المسلمين في مصر. فقد ظلوا متشبثين بالفهم القروسطي المتطرف للدين، وهو فهم يتناقض مع رسالة الإسلام الحنيف ونصوصه الصريحة. جاء في الذكر الحكيم: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» (البقرة 143). وفي الحديث الشريف: «خير الأمور أوساطها».
ماذا يعني كل هذا؟ إنه يعني أن دخول الفكر الإغريقي إلى المنطقة عن طريق ترجمته إلى اللغة العربية لم يحصل في أرض قفر جاهلة به، وإنما جرى في أرضية ممهدة له ومجبولة به منذ زمن طويل ولكن بلغات أخرى ومن خلال عقائد أخرى لأن الإسلام لم يكن قد ظهر بعد. فالنظام الفكري الإغريقي – السامي الذي تختلط فيه كل التيارات الفكرية كان معروفا في منطقة الشرق الأوسط قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. ونقصد بهذا النظام الفكري كل مكتسبات الفلسفة الأفلاطونية والأرسطوطاليسية والأفلوطينية والرواقية والأبيقورية والفيثاغورثية والباطنية الهرمسية (نسبة إلى الفيلسوف اليوناني هيرمس) والزرادشتية والمانوية والسامية العتيقة والوحي اليهودي – المسيحي، كل هذا كان موجودا في المنطقة قبل ظهور الإسلام وينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار إذا ما أردنا أن نفهم الإسلام بشكل تاريخي حقيقي، فالإسلام متأثر بما قبله وبصمات ذلك واضحة على القرآن الكريم كل الوضوح. فهو لا ينفك يتحدث عن موسى وعيسى وهارون ويوسف ومريم وزكريا وبقية أنبياء بني إسرائيل. وكل هذه العقائد المذكورة آنفا أثرت على المفكرين العرب المسلمين بدرجات متفاوتة بالطبع، فبعض فلاسفتنا تأثروا بهذا التيار أكثر من ذاك.
الصراع بين الميثوس واللوغوس
وينبغي العلم بهذا الصدد أن الصراع بين أفلاطون وأرسطو، أو بين الميثوس واللوغوس، أي بين النزعة المثالية الخيالية لأفلاطون والنزعة الواقعية المادية المحسوسة لأرسطو، اخترق أيضا الفلسفة العربية الإسلامية مثلما اخترق الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. فمن الواضح أن ابن رشد أقرب إلى أرسطو وعقلانيته الصارمة. ومن الواضح أيضا أن ابن سينا اقرب إلى أفلاطون وشطحاته الخيالية الرائعة دون أن يعني ذلك عدم تأثره بأرسطو. ومن الواضح أن الفارابي أقرب إلى الاثنين معا لأنه حاول أن يوفق بينهما في كتابه الشهير: «الجمع بين رأيي الحكيمين: أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس». ولكنه فعل ذلك بعد أن اعتقد بصحة نسبة كتاب «أثولوجيا أرسطوطاليس» أو إلهيات أرسطوطاليس إلى أرسطوطاليس نفسه في حين أننا نعلم الآن أنه ليس له على الإطلاق. وإنما هو تاسوعات أفلوطين الذي كان من أتباع أفلاطون ومؤسسا للأفلاطونية الجديدة. لهذا السبب توهم الفارابي بإمكانية تحقيق المصالحة بين أفلاطون وأرسطو. وبالفعل لو كان هذا الكتاب لأرسطو لكانت المصالحة ممكنة بسهولة. وهنا نلمس لمس اليد مدى سوء التفاهم الذي قد يحصل أثناء ترجمة الفكر من لغة إلى أخرى، فكثيرا ما تحصل أخطاء أثناء عملية النقل العويصة هذه. وهذا ما حصل للأوروبيين أيضا في العصور الوسطى عندما توهموا بأن الغزالي فيلسوف بالكامل ومن المدافعين عن الفلسفة لأنهم لم يترجموا إلا كتابه «مقاصد الفلاسفة» ونسوا كتابه الآخر: «تهافت الفلاسفة». والآن من يستطيع القول إن ديكارت وكانط وهيغل وسارتر وليفي ستروس وسواهم معروفون فعلا وبشكل دقيق في اللغة العربية؟ لا ريب في أن شيئا منهم معروف ولكن ليس كل شيء. ولكني لست متأكدا أن كانط العربي هو نفسه كانط الألماني الأصلي، أوان سارتر العربي هو نفسه سارتر الفرنسي.. أقول ذلك مع كل احترامي لبعض المترجمين العرب.
ويرى محمد أركون أن الترجمات ابتدأت في عهد الأمويين وليس العباسيين، وخاصة في زمن هشام ابن عبد الملك (724.743). فسكرتيره الإيراني سالم أبو العلاء كان أول من ترجم رسائل أرسطو الموجهة إلى تلميذه الإسكندر المقدوني. ولكن يبقى صحيحا القول إن الترجمات لم تنطلق فعلا وبشكل منتظم ومكثف إلا في عهد العباسيين، وخاصة في زمن المأمون الذي كان له الفضل الأكبر في العملية. ففي عهده أصبحت الترجمات من الإغريقية إلى العربية أكثر عددا ودقة. والأهم من ذلك هو أنها أصبحت في متناول الأيدي بعد اختراع الورق عام 762. والشيء اللافت للانتباه هو أن كبار المترجمين كانوا في ذات الوقت مفكرين وفلاسفة أيضا. والواقع أن المرء لا يستطيع أن يترجم الفلسفة بشكل صحيح إلا إذا كان هو نفسه فيلسوفا أو مغرما بالفلسفة على الأقل ومتبحرا بها. وهذه هي حالة كبار المترجمين العرب الذين وظفهم المأمون في «بيت الحكمة» وصرفت عليهم الأموال وصنع بذلك مجد الفكر العربي. ويرى أركون أن مترجمي ذلك الزمان كانوا أكثر جدية من مترجمينا المعاصرين.
ما أحوجنا إلى مأمون جديد!
فأين هو المأمون الجديد الذي سيخرجنا من الورطة التي وقعنا فيها حاليا ويأمر بنقل كل الفتوحات العلمية والفلسفية للحداثة الأوروبية المعاصرة إلى لغتنا العربية فيدشن بذلك نهضة كبيرة لا تقل أهمية عن النهضة التي دشنها المأمون في أوائل القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي؟
قلنا إذن إن كبار المترجمين كانوا في ذات الوقت فلاسفة. ويرى أركون أن مترجمي ذلك الزمان كانوا أكثر جدية من المترجمين العرب المعاصرين وأكثر كفاءة. فأين هو المترجم العربي الحالي الذي ينقل لنا أعمال كانط أو هيغل أو ماركس أو نيتشه أو فرويد أو هابرماس أو فوكو أو بول ريكور أو لوك فيري مثلما نقل أسلافنا العظام أعمال أفلاطون وأرسطو؟ نذكر من بين هؤلاء حنين ابن إسحاق المتوفى عام 873، وابنه إسحاق ابن حنين المتوفى عام 910، وقسطا بن لوقا 912، وثابت ابن قرة المتوفى نحو 900 إلخ.. والشيء الممتع هنا هو أن نلاحظ أن ابن نعيمة الحمصي المعاصر للفيلسوف العربي الأول الكندي كان قد ترجم «تاسوعات أفلوطين» ناسبا إياها إلى أرسطو خطأ كما ذكرنا آنفا. وقد حذف منها كل الصيغ والعبارات ذات الإيحاءات الوثنية وقوى على العكس كل التعابير التي تركز على تعالي الواحد وتنزيهه لكي يقترب بذلك من المفهوم الإسلامي لله الواحد الأحد الفرد الصمد.. وهذا دليل على أن الترجمة لا تكون حيادية مائة في المائة وإنما هي مشروطة بمناخ عصرها. فما لا تستطيع ساحة ثقافية ما تحمله تتحايل عليه عن طريق الترجمة بتصرف..
“كتاب محمد اركون المفكر والباحث والانسان للدكتور عبد الاله بلقزيز”
هذا وقد صحح الكندي المتوفى عام 870 التاسوعات الثلاثة الأخيرة المعروفة في العربية باسم ألوهيات أرسطوطاليس. ومعلوم أن الكندي كان فيلسوفا بالمعنى القديم والقروسطي للكلمة: أي كان مطلعا على كتب الفيزيقا والميتافيزيقا والرياضيات والحكمة إلخ..
وفي بداية القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري كانت معظم مؤلفات أرسطو ومؤلفات أفلاطون الصحيحة أو المنتحلة قد ترجمت إلى العربية. تضاف إليها شروحات الإسكندر الأفروديزي وبورفيروس وسواهما كثير. وكذلك الأمر كانت قد ترجمت المؤلفات العلمية والفلسفية لجالينيوس الذي قدم للفلسفة العربية إطار البحث الطبي الذي لا ينفصل عن الفلسفة الانتقائية.
ويخلص أركون إلى القول بالحرف الواحد: إن هذه الترجمات والأعمال الأولى التي ألهمتها بالعربية مباشرة كانت تتمتع بخصيصتين أساسيتين، بل وحاسمتين بالنسبة لمستقبل الفكر الفلسفي في الإسلام. الأولى هي أن معظم المترجمين كانوا مسيحيين يشتغلون لصالح الخلفاء أو الأمراء أو الأغنياء المحسنين من المسلمين المستنيرين. وهذا يعني أن دراسة اللغة الإغريقية لذاتها وبذاتها لم تحصل أبدا داخل التراث التربوي العربي الإسلامي. نقول ذلك ونحن نعلم أن فلاسفة كبارا في حجم الفارابي وابن سينا كانوا يشتغلون على النص المترجم لا على النص الأصلي الإغريقي. والثانية هي أن حرص المفكرين العرب المسلمين آنذاك على اكتساب الحكمة والعيش طبقا لها كان يتغلب على الاهتمام بالمعرفة الأكاديمية الدقيقة بهذه العقائد الفلسفية الإغريقية. كانوا يهتمون بهذه العقائد فقط من أجل استخدامها العملي أو النظري المفيد لهم والذي يلبي حاجات زمنهم ومجتمعهم. باختصار فقد كانوا يستخدمون الفلسفة الإغريقية لحل مشكلاتهم هم لا لتشكيل معرفة دقيقة عنها وكيف حلت مشكلات الإغريق أنفسهم. وهذا أمر طبيعي في نهاية المطاف. فنحن أيضا نبحث في الفكر الأوروبي المعاصر عن مناهج وحلول تساعدنا على تشخيص ناجع لمشكلاتنا وقضايانا العربية المعاصرة. نحن نترجم كانط مثلا لأنه يساعدنا على التنوير وفهم الدين بشكل عقلاني بعد التخلي عن قشوره وخرافاته وأصولياته وتطرفات بعض أتباعه. كانت الفلسفة بالنسبة لهم أداة للتوصل إلى الحقيقة وتحقيق السعادة على هذه الأرض وإلا فلا معنى لها ولا تستحق ساعة عناء واحدة.
هناك نقطة أخرى هامة أيضا: وهي أن كل فرقة إسلامية كانت تبحث في عقائد الإغريق عن دعامات فلسفية للدفاع عن أطروحاتها ضد الفرق الأخرى المنافسة لها داخل الإطار العربي الإسلامي العام. فالبعض مثلا كان يجد في النزعة الصوفية – الفكرية لأفلوطين ضالته، والبعض الآخر كان يجدها في العلم السكندري، والبعض الثالث في ألوهيات بروكلوس، وغيرهم في الباطنيات الهلنستية والإيرانية، أو في علم التنجيم الصابئ، أو في مذهب الإغلاق والتعمية الهرمسية الباطنية، أو في الفيثاغورثية الجديدة، أو في أفكار الرواقيين، إلخ.. باختصار كانت الساحة الثقافية العربية الإسلامية تضج بكل هذه التيارات الفكرية المتناقضة. وقد حاول الفارابي بعلمه الكبير أن يقدم خلاصة توفيقية عن كل ذلك في كتابه المذكور آنفا: «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس».
وربما لهذا السبب لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو لأنه كان الوحيد القادر على تلخيص كل معرفة عصره في تركيبة فكرية واحدة. فعلمه كان واسعا متشعبا. وقد قال أركون مرة أمامي بأن الفارابي كان أكثر الفلاسفة عقلانية في الإسلام بمن فيهم ابن رشد. وقد شبهه بكانط من حيث عقلنة الدين إلى أقصى حد ممكن.
أكثر المذاهب عقلانية في الإسلام
المعتزلة:بعد أن وصلنا في الحديث إلى هذه النقطة آن الأوان لكي نتحدث عن المذهب الأكثر عقلانية في الإسلام: قصدت مذهب المعتزلة. وقد ظهرت هذه الفرقة الإسلامية في البصرة لأول مرة ثم انتقلت إلى بغداد، حيث شهدت ازدهارا كبيرا في عهد المأمون، بل وأصبحت المذهب الرسمي للدولة طيلة عهده وعهد من تلاه حتى المتوكل الذي انقلب عليها بعد فترة قصيرة من حكمه. ومعلوم أنها ابتعدت عن الإسلام الرسمي الحاكم بشكل واضح قليلا أو كثيرا ووقفت موقف الحياد من قصة علي فلم تصف معه ولا ضده وإن كانت أقرب إلى المعارضة بسبب نزعتها الاحتجاجية ضد ما هو قائم. ثم يضيف أركون قائلا: والواقع انه حتى عام 750 لم تكن هناك فرقة محددة جيدا ومعروفة بهذا الاسم. وإنما كانت هناك مجموعة من المفكرين النشطين جدا كواصل بن عطاء الذي مات عام 750 والذي كان تلميذا للحسن البصري، وكعمرو بن عبيد الذي مات عام 762، وكضرار بن عمر الذي مات بين عامي 800.820. وهؤلاء هم الذين بلوروا أسس تلك العقيدة التي ستعرف لاحقا باسم المعتزلة. وكانت هذه العقيدة ترتكز على خمسة مبادئ شهيرة هي التالية: وحدانية الله، عدالة الله، المنزلة بين المنزلتين بالنسبة للفاسق أو مرتكب الكبيرة، الثواب والعقاب في الدار الآخرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ماذا تعني هذه المبادئ بالنسبة للسياق الخاص بتلك الفترة؟ مبدأ وحدانية الله كان موجها ضد الثنويين أو المانويين نسبة إلى ماني الفارسي القائل بوجود الهين في هذا العالم: إله النور وإله الظلام. ومعلوم أن المانويين كانوا موجودين بكثرة إبان تلك الفترة في بغداد ولهم أتباع وأنصار. وأما التركيز على عدالة الله فكان يهدف إلى لفت الانتباه إلى ظلم الحكام. وهذا يعني أنه كانت للمعتزلة علاقة بالقدرية بل وحتى الخوارج وكل الحركات المعارضة للسلطة. يضاف إلى ذلك أن هذا المبدأ كان موجها ضد الذين يقولون إن القضاء خيره وشره من الله تعالى. فالمعتزلة كانت تقول: حاشا لله أن يصدر عنه الشر! فهو العدل والخير المحض ولا يمكن أن يصدر عنه أي شر.
يرى محمد أركون أنه أثناء النصف الأول من القرن التاسع الميلادي فإن الفكر الإغريقي أتاح للمعتزلة في بغداد أن يقووا التيار العقلاني الذي ظهر في البصرة لأول مرة.
وهكذا ساهم أبو الهذيل العلاف الذي مات نحو عام 850م، وبشر بن المعتمر 825م، والنظام الذي كان مطلعا بشكل رائع على فلسفة أرسطو والذي مات عام 869م في بلورة العقيدة المعتزلية التي أصبحت العقيدة الرسمية للدولة في عهد المأمون عام 827م. ومعلوم أن هذا الخليفة الشهير هو الذي استدعى أبا الهذيل العلاف إلى بغداد عام 820م. ومعلوم أيضا أن مؤسس النثر العربي وأحد كبار كتابه على مر العصور، أي الجاحظ، كان معتزليا وتلميذا للنظام. وهكذا أصبحت عقيدة المعتزلة هي آيديولوجيا النظام العباسي والطبقة القائدة للمجتمع بين عامي 813.847: أي طيلة عهد المأمون والمعتصم والواثق وحتى المتوكل الذي انقلب عليها ورجع إلى عقيدة أهل الحديث والتقليد كما ذكرنا.
في الواقع أن أهمية المعتزلة تعود إلى كونهم ركزوا على شيئين أساسيين: حرية الاختيار للشخص البشري ومسؤوليته عن أعماله من جهة، ثم إعطاء مكانة كبرى للعقل البشري من جهة أخرى. ففي حين أن أهل التقليد من حنابلة وأشاعرة وسواهم قالوا إن الإنسان مسير لا مخير وإنه غير مسؤول عن أعماله لأن الله هو الذي ينفذها من خلاله قالوا هم بالعكس تماما. قالوا إن للإنسان إرادة حرة وإلا فلا معنى للثواب والعقاب: إذ كيف يعاقب الله شخصا عن أعماله إن لم يكن حرا في اختيارها أو القيام بها؟ هذا حكم التعسف والاعتباط وحاشا لله أن يكون كذلك.
من العصر الذهبي إلى عصر الانحطاط
ويرى أركون أنه لو أتيح للاهوتهم العقلاني السببي المنطقي أن ينتصر لما دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة، ولما سيطرت علينا كل تلك العقلية التواكلية التي سببت تخلف المجتمعات الإسلامية وجعلتها في مؤخرة الشعوب بعد أن كانت في مقدمتها أيام المأمون والعصر الذهبي كله. «كله مكتوب» كما يقول المثل العامي الشائع عندنا وبالتالي فلا داعي لأن نتحرك ونجتهد ونعمل في هذه الحياة. وهكذا استسلمنا للمقدور وسيطرت علينا عقلية التبعية والاستكانة فكان أن نهضت الشعوب الأخرى وبقينا نحن نكرر ونجتر ونتقاعس. والسبب في ذلك يعود إلى هزيمة مذهب المعتزلة وانتصار مذهب الحنابلة والأشاعرة عليه قبل ألف سنة على الأقل. وبالتالي فإذا عرف السبب بطل العجب. وسبب انحطاط العالم العربي بل والإسلامي كله يعود إلى تلك الفترة بالذات. هذا ما تعلمنا إياه منهجية الحفر الأركيولوجي في الأعماق لمحمد أركون. إنها تبحث عن الأسباب العميقة للتخلف ولا تكتفي بالأسباب السطحية المباشرة.
ويرى أركون أنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون فكر المعتزلة قد تزامن مع فترة صعود المجتمع العباسي وازدهاره المادي والاقتصادي والحضاري. وهذا دليل على أن الفكر العقلاني بحاجة إلى دعامة مادية تسنده لكي يقوى ويتفتح. وعندما انهارت الدولة العباسية المركزية وكذلك الدولة البويهية المستنيرة وتحولت الخطوط التجارية عن منطقتنا ضعفت الطبقة البورجوازية التاجرة في بغداد وسواها من الحواضر الإسلامية. ومعلوم أنها هي التي كانت تؤمن الثروة ورغد العيش. وبضعفها ضعف بالتالي الفكر العقلاني في الإسلام سواء أكان معتزليا أم فلسفيا. وهذا أكبر دليل على مدى مشروطية الفكر للواقع ولكنها مشروطية جدلية لا ميكانيكية. مهما يكن من أمر فان فكر المعتزلة وضع كلام الله، أي القرآن الكريم، بين يدي الإنسان المثقف معطيا للعقل حرية الحركة والمبادرة ومحبذا انبثاق الإنسان الحر والمسؤول في الساحة العربية الإسلامية. وهذه هي خصائص الإنسان الجديد المدعو «بالأديب» والذي ظهر آنذاك واحتل مكانة كبرى في الثقافة الكلاسيكية إبان العصر الذهبي. وأكبر مثال عليه الجاحظ والتوحيدي ومسكويه وأبو سليمان المنطقي أستاذ التوحيدي وعشرات غيرهم. فقد كانوا يجمعون من كل علم بطرف وهذا هو تعريف الأديب حصرا. وكانوا ينتقلون من تفسير آية قرآنية كريمة، إلى شرح بعض الأبيات الشعرية، إلى التعليق على مقولة فلسفية لأفلاطون وأرسطو إلخ.. انظر كتاب الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي مثلا.. ولكن هذا التركيز على الطابع الإنساني للرسالة الإلهية كان يضعف بالتوازي طابع التعالي لله وكلامه. كان شيء ما يحصل على حساب شيء آخر بالضرورة. ولكن هنا يكمن مجد الحضارة العربية الإسلامية التي أشعت على العالم بأنوارها في بغداد والقاهرة وقرطبة قرونا كثيرة قبل أن تنطفئ.
ومن الناحية السوسيولوجية، أي الاجتماعية العددية، نلاحظ أن فكر المعتزلة، تماما كفكر الفلاسفة، كان يكرس ذلك التضاد المعروف بين الخاصة/ والعامة، أو النخبة/ والجماهير كما نقول في لغة هذا الزمان. فمن الواضح أن جماهير المسلمين لم تكن قادرة على فهم فكر المعتزلة أو الفلاسفة. وإنما كانت ميالة إلى فكر أهل الحديث والتقليد من أمثال الإمام أحمد ابن حنبل الذي توفي عام 855 والذي اضطهد أيام المأمون لأنه رفض مقولة خلق القرآن للمعتزلة. وهذه الحادثة الأليمة دشنت فترة طويلة من الصراع بين الموقف العقلاني/ والموقف التقليدي في تاريخ الإسلام. وقد انتهى الأمر بانتصار تيار الحنابلة على المعتزلة واضطهاد هؤلاء بدورهم في كل مكان وتعذيبهم وقتلهم وحرق كتبهم وملاحقتهم حتى انقرضوا نهائيا. والسبب هو أن العامة كانت مع الحنابلة والأشاعرة لا معهم لأنها تفهم فكرهم بسهولة أكثر. والعامة أكبر عددا من الخاصة بكثير. ولا تزال الحالة في العالم الإسلامي والعربي على هذا النحو حتى الآن. فرجال الدين التقليديون لا يزالون المسيطرين على الساحة. ولا يوجد مثقف عربي واحد قادر على مواجهة الشيخ يوسف القرضاوي أو سواه على شاشات التلفزيون. لا نصر حامد أبو زيد ولا حسن حنفي ولا محمد أركون ولا من سواهم قادرون على مواجهة المشايخ التقليديين لسبب بسيط: هو أن تيار العقل في الإسلام كان قد ضمر ومات منذ زمن طويل. وبالتالي فتيار التقليد والتراث المكرور القائم على النقل لا العقل هو المنتشر في صفوف العامة والجماهير العريضة التي ترتاد الجوامع بالآلاف المؤلفة. وذلك على عكس الدول الأوروبية المتقدمة، حيث يسيطر التيار العقلاني الليبرالي على التيار المسيحي الأصولي بشكل كاسح. هنا نلمس لمس اليد إحدى السمات الأساسية التي تفرق بين مجتمعاتهم ومجتمعاتنا: أي مجتمعات الحداثة/ ومجتمعات ما قبل الحداثة.
نصر حامد ابوزيد
مهما يكن من أمر فإن الصراع بين الحنابلة/ والمعتزلة يعكس بجلاء الفرق بين طريقتين مختلفتين لفهم القرآن الكريم وتمثله: طريقة عقلانية تلجأ إلى المنطق وعلم التأويل، وطريقة حرفية ظاهرية ترفض أي تدخل شخصي أو عقلاني في تأويل النص. وهذه الطريقة الثانية هي التي انتصرت في القرن العشرين على يد حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين. كما أن هذا الصراع القديم يعكس الفرق بين طبقتين اجتماعيتين متمايزتين: أي طبقة الخاصة والمثقفين/ وطبقة العامة والناس العاديين.
أخيرا ينبغي القول إن هناك علاقة بين المعتزلة والفلاسفة وإن كان هؤلاء الآخرون قد ذهبوا في مجال العقل شوطا أبعد من المعتزلة. ويمكن القول إن الفيلسوف العربي الأول الكندي هو صلة الوصل بينهما. ومعلوم أنه كان معاصرا للجاحظ وقد مات عام 870. وقد تمايز عن الفلاسفة بشيئين: الأول هو رفضه لمقولة أرسطوطاليس المتعلقة بقدم العالم والتي قبلها ابن سينا والفارابي وابن رشد وبقية الفلاسفة. وهي مخالفة للقرآن الكريم القائل إن الله خلق العالم من العدم. والثانية هي قوله ببعث الأجساد وليس فقط الأرواح يوم القيامة. وبالتالي فقد تطابق موقفه هنا مع موقف المؤمنين التقليديين كالغزالي مثلا. ولكنه اختلف عنهم من حيث تبنيه للمنهجية التأويلية للمعتزلة في فهم القرآن. فهل كان معتزليا كاملا يا ترى؟ بالطبع لا. فالرجل كان يولي للفلسفة أهمية أكبر بكثير. ولم يكن يعتبرها مجرد أداة جدلية أو كلامية لخدمة الوحي القرآني والدفاع عنه ضد معارضيه من أتباع الأديان الأخرى كما تفعل المعتزلة. وإنما كان يحترمها لذاتها ويعتبرها وسيلة أساسية للتوصل إلى الحقيقة تماما كالوحي الديني. ففي رأيه أن الحقيقة التي يتوصل إليها النبي عن طريق «العلم الإلهي» وبلغة مبسطة مفهومة من قبل الجميع هي ذاتها التي يتوصل إليها الفيلسوف بلغة منطقية عقلانية لا تفهمها إلا الخاصة. وهذا ما سيكون عليه موقف ابن رشد لاحقا. وبالتالي فلا يوجد أي تناقض بين العقل والدين إذا ما فهمنا الدين بشكل صحيح لا بشكل تكفيري عنيف على طريقة حركات الإسلام السياسي السائدة حاليا. وأخيرا لقد بلغت مؤلفات الكندي مائتين وواحدا وأربعين كتابا، ولكن الكثير منها فقد على الطريق ولم يصلنا. ومن الواضح أن هذا المفكر الكبير كان يهدف إلى إرساء الأسس الضرورية لما سيصبح لاحقا: الفلسفة العربية الإسلامية العظيمة.
الإسلام السياسي بين الأمس واليوم
هذا هو الدرس الأساسي الذي خلفه لنا محمد أركون قبل رحيله بثلاث سنوات بالضبط: أي بتاريخ 14.9.2010.كان يريد أن يحفر عمقيا على المرض العربي الإسلامي، أن يشخص أسبابه، أن يصف علاجه. ومعلوم أن التشخيص الصحيح هو نصف الطريق إلى العلاج إن لم يكن أكثر. ومعلوم أيضا أن أي خطأ في التشخيص قد يؤدي إلى قتل المريض بكل بساطة. لذلك كان نيتشه يقول إن «المفكرين الكبار هم أطباء حضارات»: بمعنى أنهم وحدهم القادرون على تشخيص العلة التي أصيبت بها الأمة وتوصيف الدواء الناجع لها. ولكن ما حصل في مصر أخيرا وما قد يحصل في تونس أيضا بل وحتى في تركيا وإيران وما سواها من بلدان الإسلام السياسي يثبت لنا أن مقاومة الانغلاق الديني المضاد لحركة التاريخ شيء ممكن تماما.
نقول ذلك وبخاصة أن الإسلام هو دين العقل والتسامح والتفاعل الحضاري إذا ما فهمناه جيدا على طريقة كبار مفكري العصر الذهبي. وبالتالي فيمكن للقوى المدنية الحداثية الصاعدة أن تخرج منتصرة من المعركة مع قوى الإسلام السياسي والردة الثقافية. صحيح أن ثقل الماضي والعطالة التاريخية وهزيمة المعتزلة والفلاسفة تقف وراء الإخوان والمتطرفين عموما. ألف سنة من الانحطاط تقف وراءهم وتعطيهم كل هذه القوة والتجييش في الشارع. ولكن يقف وراء الحداثيين عقلانية الإسلام وتنويره وسماحته. يقف وراءهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن مسرة وابن باجة والجاحظ والمعري وحتى طه حسين ومحمد أركون ذاته.
هذا بالإضافة إلى عشرات المبدعين الآخرين. والواقع أن تاريخنا كله ما هو إلا قصة ذلك الصراع الملحمي بين هذين التيارين الكبيرين: تيار العقل/ وتيار النقل، تيار اليسر/ وتيار العسر، تيار التواكل والتقاعس/ وتيار أعقلها وتوكل.. وإذا كان تيار التقاعس والتواكل والجهل قد انتصر بعد الدخول في عصر الانحطاط وإغلاق باب الاجتهاد فإن ما حصل في مصر أخيرا دليل على أن تيار الفلاسفة والمعتزلة والعقلانيين والنهضويين لم يمت أبدا. وسوف تكون له الكلمة الأخيرة! وبناء على هذا الانتصار سوف يدشن عهد النهضة العربية والإسلام المستنير. ونحن الآن نقف على أبوابه.
هنا الرهان الأكبر لما يحصل حاليا في أرض العرب والإسلام. ولذلك أقول إن مستقبل الإسلام السياسي خلفه لا أمامه، وسوف تتراجع مشروعيته وشعبيته أكثر فأكثر. ولكن كان ينبغي أن يحكم ولو لفترة وجيزة لكي تنكشف محدوديته وأخطاره على تقدم الأمة. ولا أستغرب أن يحصل في تونس ما حصل في مصر أو شيء شبيه به. كان ينبغي أن نجرب هؤلاء «الإخوان» لكي نستطيع تجاوزهم. لقد شفينا منهم بهم!

الفكر العقلاني إلى الساحة الثقافية العربية الإسلامية من خلال «بيت الحكمة» الشهير. وهو يشبه مراكز البحوث والترجمات الحديثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.